القضاء السعودي.. حكم القانون أم حكم القبيلة؟
إعداد إبراهيم هلال
مقيّد اليدين والرجلين، مغطّى العينين، زجّ به رجال الشرطة في سيارة مظلمة، كأنها القبر، انطلقت به مسرعة، ليرتطم بسقفها ويسقط على أرضيتها مرارا طوال الطريق، كان الشيخ ذو ستة العقود ونيف على ذلك الوضع ورأسه مغطى بالكامل، ولينتقل من سيارة إلى أُخرى، ومن طائرة إلى طائرة، حتى انتقل بين السجون، من ذهبان في جدة إلى سجن الحائر في الرياض.
لم تكن هذه القصة سوى توصيف لمشهد مقتضب عما جرى للشيخ والداعية الإسلامي سلمان العودة، والذي ألقت السلطات السعودية القبض عليه في سبتمبر/أيلول 2017، بعد فترة قصيرة من تغريدة له دعا من خلالها للمصالحة بين المملكة العربية السعودية وجارتها الخليجية قطر، لتنهال على الشيخ مجموعة من الاتهامات التي قادتها حملات “الذباب الإلكتروني” والتي هيّأت الأرضية لاحقا لتوجيه النيابة العامة اتهامات وصلت حدّ إعلان عقوبة الإعدام للعودة، وهو ما أثار موجة حادّة من الانتقادات التي طالت تسييس القضاء والتلاعب به وفقا لرغبات السُّلطة وانحيازاتها.
يحكي الدكتور عبد الله العودة، نجل الشيخ سلمان، أن والده الشيخ كبير السن، كبير المقام، ومنذ نقله لسجن الحائر وهو محتجز انفراديا بزنزانة صغيرة جدا، مظلمة ومخيفة، على حد وصفه، مساحتها “متر في متر”، لا تحوي داخلها دورة مياه، متجاهلين حالته الصحية الحرجة، الأمر الذي أدّى إلى ارتفاع ضغط دمه مرّة بعد أخرى (1).
ربنا لك الحمد لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك..اللهم ألف بين قلوبهم لمافيه خير شعوبهم
— سلمان العودة (معتقل) (@salman_alodah) September 8, 2017
قصة الشيخ سلمان العودة لم تكن الأولى، وليست الأخيرة بحال، فهناك الكثير من القصص الأشد إيلاما وقسوة لم تروِها أقلام الصحفيين ولم ترصدها عدسات وسائل الإعلام، إذ شملت سلسلة الاعتقالات مجموعة من دُعاة الإصلاح، والسياسيين، وبعضا ممن لا يطبّلون لصالح السُّلطة كما تصف جهات المعارضة السعودية. شملت هذه الحملة الداعية السعودي علي العمري، وعوض القرني، وعددا من الشيوخ والدعاة، في إطار حملة اعتقالات قالت السلطات إنها موجهة ضد أشخاص يعملون لصالح جهات خارجية ضد أمن المملكة (2).
وفي شهر سبتمبر/أيلول 2018، أي بعد مرور عام على الاعتقال التعسفي للعودة دون مُحاكمة، ظهر الشيخ في جلسة استماع مغلقة أمام المحكمة الجزائية المتخصصة، وهي محكمة شكَّلتها وزارة الداخلية السعودية للنَّظر في قضايا الإرهاب، ليوجّه النائب العام حينها للعودة 37 تهمة إرهابية (2)، منها الانتماء لـ “منظمات إرهابية”، التي قالت النيابة إنَّها جماعة الإخوان المسلمين والمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، كما وجّهت اتهاما سخر منه الكثير من النشاطين متمثلا فيما أسمته النيابة بـ “عدم الدعاء بما يكفي لولي الأمر”، كما وجهت للعودة تُهَما تشمل “إبداء التهكُّم والسخرية من إنجازات الحكومة” (2).
اليوم في جلسة محكمة للوالد الشيخ سلمان العودة، طلبت النيابة بالقتل تعزيراً له،
وقدمت ٣٧ تهمة أحدها إنشاؤه منظمة النصرة في الكويت للدفاع عن الرسول (ص)، وأنه عضو بمجلس الإفتاء الأوروبي، واتحاد علماء المسلمين، مع تهم أخرى تتعلق بتغريدات على تويتر#النيابة_تطالب_بقتل_الشيخ_العودة— د. عبدالله العودة (@aalodah) September 4, 2018
ووفق هذا الإعلان، علّق الإعلامي السعودي جمال خاشقجي على تلك التهم قبل اغتياله داخل القنصلية السعودية في تركيا بيومين، قائلا إن هذه الاتهامات السبع والثلاثين تكشف كل ما يحتاج أي إنسان إلى معرفته عن سيادة القانون في المملكة السعودية وحاكمها الفعلي ولي العهد محمد بن سلمان (2). ويظهر هنا السؤال جليا: هل هناك حقا ما يُمكن تسميته بسيادة القانون في السعودية، ولماذا يَسمح القضاء بكل تلك الإعدامات؟
“السعودية لديها واحد من أعلى معدلات الإعدام في العالم، وتطبق العقوبة على مجموعة من الجرائم التي لا تُعد من “أخطر الجرائم”، بما فيها جرائم المخدرات”
هذا ما صرحت به مؤسسة هيومن رايتس ووتش (3) بعد أن قامت السلطات السعودية في 23 أبريل/نيسان 2019 بإعدام 37 رجلا إعداما جماعيا، وتقول المؤسسة إن 33 على الأقل من أصل الـ 37 المتهمين بالقضية أُدينوا في أعقاب محاكمات جائرة لمختلف الجرائم المزعومة، منها المرتبطة بالاحتجاج، والتجسس، والإرهاب. وبالقياس، فإن ما جرى يجعل توقعات إعدام الدعاة، وعلى رأسهم الشيخ “سلمان العودة”، ممكنة، فلدى السلطات السعودية ماضٍ عريق مع الحكم بالإعدام، بل يبدو باطّراد تساهل القضاء السعودي ومن ورائه السُّلطة بقطع رأس متهم، ليتعظ الجميع.
https://twitter.com/AbeerAmeeer12/status/759025117888413696
تُضيف هيومن رايتس ووتش (3) أن هذا الإعدام الجماعي لـ 37 رجلا هو الأكبر منذ يناير/كانون الثاني 2016، حين أعدمت السعودية 47 رجلا بتهمة ارتكاب جرائم إرهابية. وبهذا الإعدام الجماعي تكون السعودية قد نفّذت أكثر من 100 إعدام حتى الآن في 2019، بما في ذلك 40 إعداما لجرائم المخدرات، وهي نسبة أعلى بكثير من السنوات السابقة.
ودون الحاجة إلى كثير تحليل، فإن تزايد نفوذ ولي العهد محمد بن سلمان ساهم وبصورة أساسية في تسريع وتيرة الإعدام، حيثُ كشف تحقيق (4) لمنظّمة حقوقية بريطانية، في مارس/آذار 2018، تسجيل أعلى عدد من الإعدامات بالسعودية خلال ولاية ابن سلمان التي بدأت منذ تعيينه وزيرا للدفاع في عام 2015. وأكّد التحقيق ذاته أن الإعدامات تزايدت منذ يوليو/تموز 2017، أي بعد تعيين ابن سلمان وليا للعهد في يونيو/حزيران من العام نفسه، وهذا ما أكدته إحصاءات منظمة “ريبريف” الحقوقية، والتي تتخذ من لندن مقرا لها، والتي استندت في نتائجها إلى تقارير وسائل الإعلام الرسمية، حيث وضّح التقرير أن السلطات السعودية بعد تعيين محمد بن سلمان وليا للعهد، ما بين يوليو/تموز 2017 حتى فبراير/شباط 2018 فقط، نفذت 133 عملية إعدام في المملكة، مقارنة بـ 67 إعداما في الأشهر الثمانية السابقة، من أكتوبر/تشرين الأول 2016 وحتى مايو/أيار 2017 (4).
وقد صرّحت مديرة “ريبريف” مايا فوا: “إن مضاعفة عمليات الإعدام تكشف أن ابن سلمان يُخفي تحت صورته العامة اللامعة أشد الصور وحشيّة في تاريخ المملكة الحديث”، وهي الأرقام ذاتها التي تُقارب ما عرضته منظمة العفو الدولية (4). ويأتي السؤال المهم ليطرح نفسه مرة أخرى: لماذا يسمح القضاء السعودي بكل تلك الإعدامات والأحكام والتي تصفها هيومن رايتس ووتش بـ “الجائرة”؟ ربما يخبرنا تاريخ مؤسسة القضاء في المملكة السعودية عن السبب.
كان عبد العزيز مهتما ببناء أمة “سعودية” ذات هوية جديدة تتلاءم مع طموحات ومشاريع السلطة الوليدة، وتُقدّم ولاءها خالصا للأسرة الحاكمة والسلطات السعودية وليس لأي شيء آخر
بالعودة إلى عام 1902، أي قبل اكتشاف النفط الذي غيّر وجه الجزيرة العربية ووجه العالم كله، يُحكى أن بدويا، يمتطي فرسا أسود، ويحمل فوق كتفيه أمجاد أجداده الأوائل وأحلام جده الأكبر في حكم جزيرة العرب كلها، كان يحلم بغزو مدينة الرياض والسيطرة عليها. هذا الفارس هو ذاته الذي أصبح لاحقا الأمير عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود الذي امتطى فرسه وخلفه فرسان جيشه وحلفاؤه المخلصون، وانطلق من منفاه حاشدا قواته لغزو الرياض، وبعد سلسلة طويلة من المعارك، سيطر عبد العزيز، مؤسس الدولة السعودية الثالثة، وملكها الأول الذي امتدت فترة ملكه من 1932 حتى 1953، على منطقة الحجاز (المنطقة الغربية من المملكة العربية السعودية)، ومُنهيا بذلك معارك الصحراء الطويلة، ومؤسسا مُلك آل سعود على صحراء جزيرة العرب الواسعة، وموحدا قبائلها المفتتة والمشتتة والمتصارعة.
كان عبد العزيز مهتما ببناء أمة “سعودية” ذات هوية جديدة تتلاءم مع طموحات ومشاريع السلطة الوليدة، وتُقدّم ولاءها خالصا للأسرة الحاكمة والسلطات السعودية وليس لأي شيء آخر (5)، ولم يجد الملك السعودي أفضل من التحالف القديم الذي أنشأه جده الأكبر مع الشيخ محمد عبد الوهاب، ليستعين الملك مرة أخرى بشرعية الإسلام الدينية، ومعلنا أن الجزيرة كلها ستخضع لحكم الشريعة الإسلامية.
كذلك كان على الملك الاعتناء بوضع حجر الأساس لمؤسسات الدولة السعودية، وترسيخ قواعد وأصول الإجراءات المُنظِّمة لأعمالها، وبالتالي كان عليه أن يحوّل القضاء من شكله البدوي البسيط داخل كل قبيلة إلى شكل مؤسسي جديد ومركزي، ليؤسس المحكمة الشرعية، التي تطورت لمجلس رئاسة القضاة، ثم المجلس الأعلى للقضاء، وجعلها تُهيمن على جميع أشكال النزاعات، ولها كل الاختصاص في الحكم بما يخص أي نزاع دون تدخل جهة أخرى، وحدد المصدر الأوحد للقضاء عبر الاحتكام للشريعة الإسلامية على تفسير المذهب الحنبلي (5).
وفي أكتوبر/تشرين الأول 1953، أعلن الملك عبد العزيز إنشاء مجلس الوزراء. وتعزيزا لجهود والده، عقد الابن، الملك سعود بن عبد العزيز، والذي تُوّج ملكا على جزيرة العرب من 1953-1964، الدورة الأولى لمجلس الوزراء في مارس/آذار 1954. وكان مجلس الوزراء وقت تأسيسه بمنزلة هيئة استشارية للملك، وبحلول عام 1958، قام فيصل بن عبد العزيز، ولي العهد ورئيس الوزراء حينذاك، بتحويل مجلس الوزراء إلى هيئة تشريعية وتنفيذية وإدارية، لها الحق في اتخاذ القرارات في بعض المساحات الخاصة بالدولة، وليتم تضمين معظم الأسس الدستورية للمملكة في قانون مجلس الوزراء (5).
جاء العام 1962، ليعلن معه رئيس مجلس الوزراء، الملك فيصل بن عبد العزيز، إنشاء وزارة العدل التي أخذت على عاتقها الإشراف على دوائر القضاء في المملكة العربية السعودية، وتتولى الإشراف الرقابي على جميع القضايا المالية والتجارية والإدارية والأمنية للدولة. وفي السنة المالية التالية لإعلان إنشاء الوزارة ظهرت الميزانية العامة للدولة وهي تحمل فصلا خاصا باسم “وزارة العدل”، وبالرغم من أن الميزانية العامة للدولة ظلت تحمل كل سنة هذا الفصل، فإن إنشاء الوزارة بتشكيلاتها الإدارية وتعيين وزير لها لم يتم إلا في عام 1970، حيث باشرت أعمالها وحلت محل رئاسة القضاة، وتولت الوزارة الإشراف الإداري والمالي على المحاكم والدوائر الشرعية الأخرى (6).
وكانت خطوة إنشاء مجلس الوزراء ووزارة العدل قد وضعت جميع سكان المملكة السعودية تحت نظام إداري وقضائي موحّد، لتُمثّل هذه الخطوة ذروة الجهود المتواصلة، منذ تأسيس الدولة السعودية الثالثة، لإنشاء نظام إداري وقضائي موحد تابع للسلطة السعودية وحدها، وليس لأحد آخر، سواء في المدن مثل مكة وجدة والرياض، أو فيما يتصل بتنظيم القبائل (7).
ومنذ عام 1970 حتى 1975، تم إنشاء نظام إداري حديث للمحاكم وفقا لقانون القضاء المعتمد في عام 1975، وفقا لذلك القانون الذي شكّل أساس السلطة القضائية في المملكة، والذي يتكوّن من نظام المحاكم السعودي الحالي، ويشمل مجلسا قضائيا أعلى، ومحاكم الاستئناف، والمحاكم الابتدائية (المحاكم العامة والمحاكم الجزئية). كما أن لدى المملكة العربية السعودية هيئة قضائية إدارية تُعرف باسم “مجلس المظالم”، وهي بمنزلة هيئة موازية لنظام المحاكم تتبع للملك مباشرة، ويتم تنفيذ الوظيفة القضائية للمجلس من خلال دوائر قضائية تنشأ من دوائر محاكم الاستئناف والمحاكم الابتدائية (7).
وفي حين ظل القضاء الشرعي تحت سلطة القضاة الذين يعيّنهم المجلس الأعلى للقضاء، والذي يقوم الملك بدوره بتعيين أعضائه، فقد وقعت سلطة مجلس المظالم تحت ظل الملك مباشرة، ليستكمل الملك، أيًّا كان هو، السيطرة على السلطة القضائية في المملكة السعودية سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. وهو المجلس ذاته الذي يعود لـ “مجلس المظالم” الذي تأسس عام 1954 داخل نظام القضاء الإداري الذي أنشأه الملك عبد العزيز آل سعود تحت اسم “ديوان المظالم”، وهو نظام قضائي يستلهم وظيفته من العصر الإسلامي الوسيط، ومهمته الفصل في المظالم والنزاعات التي تنشأ بين الأطراف الحكومية والتجارية وبين المواطنين، حيث جعل الملك عبد العزيز نفسه متاحا لعدة ساعات يوميا لمقابلة أي فرد يحضر إلى الديوان ومعه مَظلمة (7).
ثم وضع الملك بجوار قصره صندوقا، هو وحده من يمتلك مفتاحه، وحث كل سكان المملكة على أن يضعوا فيه أي شكاوى أو مظالم لديهم ضد أي مسؤول حكومي، قائلا: “الشخص الذي يمتنع عن الشكوى من أي ظلم يعاني منه على يد مسؤول، سواء أكان كبيرا أم منخفضا أو أي شخص آخر، ليس له من يلوم إلا نفسه” (7). إلا أنه في الوقت نفسه، نص إعلان الملك على وجوب تقليص أي شكوى في صياغتها النهائية إلى الحد الأدنى وتوقيعها بصدق، وأن أي شكاوى كاذبة ستتم محاكمة ومعاقبة صاحبها، في حين سيتم تجاهل أي شكاوى مجهولة المصدر أو أُسيء استخدامها (7).
ومع توسع المملكة وتعقّد نظام إدارتها، وزيادة عدد النزاعات مع تنامي التجارة، استدعى الأمر تطور “ديوان المظالم” إلى “مجلس المظالم” الذي أصبح بمنزلة “مجلس الدولة” أو المحكمة الإدارية العليا في بعض البلاد الأخرى، ثم أصبح “ديوان المظالم” قسما من مجلس الوزراء بموجب قانون مجلس الوزراء.
ومع بلوغ عام 1982، جاء قانون جديد ليجعل “مجلس المظالم” هيئة قضائية إدارية مستقلة، تقف بالتوازي مع المحاكم الشرعية، بينما ترتبط مباشرة بالملك وتقع خارج وزارة العدل. ويتكوّن مجلس المظالم من رئيس، ونائب واحد أو أكثر للرئيس، وعدد من نواب الرئيس، وأعضاء متخصصين في الشريعة والقانون.
وعلى الرغم من أن المادة 1 من قانون إنشاء المجلس تنص على أن المجلس هو مجلس قضائي إداري مستقل، فإنه مخوّل له البت في القضايا والنزاعات التي لا تكون الإدارة طرفا فيها، ويحق له الفصل مؤقتا في المنازعات الجنائية والتجارية، ولديه سلطة إنفاذ الأحكام الأجنبية وقرارات التحكيم الأجنبية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن مجلس الوزراء مفوّض بموجب المادة 8 من قانون مجلس المظالم، المعتمد في عام 1982، لإضافة دائرة قضائية جديدة إلى المجلس. ومع ذلك، قد لا يستمع مجلس التظلمات إلى الطلبات المتعلقة بالإجراءات السيادية، أو الاعتراضات المقدمة من الأفراد ضد الأحكام أو القرارات الصادرة عن المحاكم أو الهيئات القانونية التي تدخل في اختصاصها (7)، أي إن له سلطة نافذة على المؤسسة القضائية نفسها.
وتمارس تلك الهيئة القضائية صلاحياتها من خلال دوائر يتم تحديد عددها وتكوينها وأعضائها واختصاصها بقرار من رئيس المجلس، و يتكوّن التسلسل الهرمي القضائي للمجلس من عدد من الدوائر المتخصصة التي لها اختصاص محدد يضعه رئيس المجلس بتوجيهات من الملك مباشرة، فيتكوّن المستوى الأول من الهيئة عبر مجلس دوائر الاستئناف العليا، ثم دوائر الاستئناف، ثم دوائر الدرجة الأولى (7).
الآن، لدى المملكة العربية السعودية نظام قضائي مزدوج يتألف من نظام المحاكم الشرعية، الذي يقوم على القاضي الشرعي والأحكام المستمدة من الشريعة الإسلامية حسب تقدير القاضي، وقضاء إداري مستقل يُعرف باسم مجلس المظالم أو “ديوان المظالم”، بالإضافة إلى هرم الهيئات القضائية، ابتداء من المجلس الأعلى للقضاء، ثم محاكم الاستئناف، ثم المحاكم الابتدائية، وتحت تلك الهيئات هناك العديد من اللجان الإدارية التي لها اختصاص النظر في بعض القضايا المحددة. علاوة على ذلك، يسمح قانون القضاء بإنشاء محاكم متخصصة من خلال “الأمر الملكي” بناء على توصية من مجلس القضاء الأعلى (7).
وتتمتع محاكم الشريعة بالاختصاص القضائي في جميع المنازعات والجرائم باستثناء تلك المعفية من اختصاصها بموجب القانون، فتنظر المحاكم الشرعية في القضايا المتعلقة بالأحوال الشخصية وشؤون الأسرة والنزاعات المدنية ومعظم القضايا الجنائية. ومع ذلك، فقد منحت القوانين واللوائح المختلفة الولاية القضائية على الدعاوى والجرائم المختلفة أمام مجلس المظالم أو اللجان الإدارية (7)، ويعني ذلك أن الملك وولي عهده، والمجلس الأعلى للقضاء ورئيس ديوان المظالم التابعين للملك، هم من يحددون دوائر النظر والاختصاص في أي نزاعات قضائية. وبالتالي يبدو أن هناك فوضى قضائية داخل المملكة التي تدّعي أنها تحكم بالشريعة الإسلامية وتقوم على العدل!
“أخي رجل الأمن.. من الأخطاء التي لا بد أنك أدركتها: القسوة على الأفراد أحيانا، أو على المرؤوسين، أو على الصغار، والتسرع في إيقاع أقسى العقوبات عليهم، من حجزهم، أو إيقافهم، أو مطالبتهم بالمشي، أو الغرامات عليهم، أو ما أشبه ذلك مما يدخل في دائرة الظلم”
(من درس “أخي رجل الأمن” للشيخ سلمان العودة)
ظاهريا، تقوم المؤسسة القضائية في المملكة السعودية على قواعد الشريعة الإسلامية وفقا لتفسير المذهب الفقهي الحنبلي، وعليه يلتزم القضاة السعوديون بالأحكام الفقهية “الحنبلية”، لكنهم أيضا يتمتعون بسلطة تمنحهم حق تقدير القضية والاجتهاد في الحكم عليها وفقا لتفسير كل قاضٍ، مقيدين فقط بضميرهم الخاص في تحديد حكم الشريعة المناسب للقضية، حيث لا يسترشد القاضي السعودي فقط بالمذهب الفقهي، بل كذلك من خلال فهمه للنصوص الواردة في القرآن والسنة، وهو يعتقد أن حكمه يأتي مباشرة من هذه النصوص، فالقاضي السعودي لا يتمتع فقط بسلطة قضائية، بل بسلطة أخلاقية وروحية أيضا (7).
وبذلك، تكون القرارات القضائية للقضاة السعوديين قانونا ساريا ولا يمكن نقضها ما لم تتعارض مع معنى واضح للقرآن أو السنة، أو تخالف التفسيرات أو المبادئ التي تطبقها المحاكم العليا. كما يستكمل القضاة أحكامهم بالقوانين التي وضعتها الحكومة السعودية، خاصة في مجال الجريمة والعقاب والشؤون الاقتصادية، أي إن الملك والسلطات السعودية بجانب المجلس الأعلى للقضاء هم من يضعون التفسيرات الملائمة للشريعة والتي يستنبط منها القضاة أحكامهم (8)، كما تقع جميع المحاكم الشرعية تحت إدارة وزارة العدل، وهي التي تضع المعايير القانونية الصارمة لسير عملية خروج الأحكام القضائية.
ورغم أن استقلال القضاء أمر منصوص عليه في قانون السلطة القضائية، فإنه بموجب المادة 71 من قانون السلطة القضائية، يشرف وزير العدل التابع للسلطة التنفيذية على جميع المحاكم والقضاة، بل إن قرار محكمة النقض يصبح نهائيا فقط بناء على موافقة وزير العدل، الذي قد يحيل القضية إلى المحكمة لإعادة النظر فيها إذا كان الحكم يختلف مع قراره. وإذا حافظت المحكمة على قرارها الأول فيجب في تلك الحالة إحالة الأمر إلى مجلس القضاء الأعلى، والذي سيكون له القول الفصل في القضية، فالمجلس الأعلى للقضاء هو المسؤول عن تفسير الشريعة ومراجعة جميع المحاكم والأحكام التي يؤدي جزء كبير منها إلى الإعدام أو الجلد أو السجن المشدد (8).
غير أن المجلس الأعلى للقضاء، والذي يعيّنه الملك مباشرة، له السلطة الوحيدة في تحديد تكوين محاكم الدرجة الأولى وتعيين مقاعدها وصلاحياتها، كذلك أصبح المجلس أيضا السلطة الوحيدة في تسمية رؤساء محاكم الاستئناف ونوابهم، ورؤساء محاكم الدرجة الأولى ونوابهم. كما أصبح المجلس هو السلطة الوحيدة في تقرير متى يمكن لمحاكم الدرجة الأولى أن تعقد محاكمها، أو جلسات الاستماع التي تقع خارج نطاق اختصاصها، وهو كذلك المسؤول عن معايير تعيين القضاة وترقيتهم وتوزيعهم على الدوائر بتوصيات من وزير العدل (9).
وخلال ولاية الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، أعلن الملك عن تحديث وإصلاح النظام القضائي في المملكة، ففي 2 أبريل/نيسان 2005، صدر أمر ملكي وافق على تعديلات مبدئية لتنظيم النظام القضائي، بما في ذلك إنشاء محاكم متخصصة في المملكة العربية السعودية لأول مرة. ووفقا للأمر الملكي لعام 2005، سيكون للمحاكم المتخصصة في القضايا العمالية والتجارية والمحلية والجنائية ولاية كاملة على مجالات تخصصها، وسيتم تحديد اختصاص المحاكم المتخصصة الجديدة والمحاكم العامة لتجنب النزاع على الاختصاص (9).
وفي 1 أكتوبر/تشرين الأول 2007، أصدر الملك عبد الله بن عبد العزيز مرسوما ملكيا بالموافقة على مجموعة جديدة من القوانين التي تنظّم القضاء ومجلس المظالم، فحلّت القوانين الجديدة محل اللوائح السارية منذ أكثر من 30 عاما داخل مؤسسة القضاء، ونحو 25 عاما لمجلس المظالم. حيث خصصت المملكة ميزانية قدرها سبعة مليارات ريال (1.8 مليار دولار) “لمشروع الملك عبد الله بن عبد العزيز لإصلاح القطاع القضائي، الذي يهدف إلى رفع مستوى القضاء وتطويره بطريقة شاملة”، وتم استخدام هذه الأموال لبناء محاكم جديدة مع تدريب القضاة وترقيتهم (9).
كما وافق المرسو الملكي للملك عبد الله على إصلاح مجلس المظالم السعودي، ليكون الهيكل الهرمي للمحاكم الإدارية الجديدة لمجلس الإدارة موازيا لهيكل المحاكم القضائية ومستقلا عنه. وأقر القانون الجديد أن مجلس المظالم -الذي سيكون مقره في مدينة الرياض- هو لجنة قضائية إدارية مستقلة مسؤولة مباشرة أمام الملك، ويتكوّن مجلس المظالم من رئيس بمرتبة وزير، ونائب رئيس واحد على الأقل، وعدد من نواب الرئيس المساعدين، وعدة قضاة، ويتم تعيين نواب الرئيس بأمر ملكي ليكونوا على رأس دوائر محاكم الاستئناف الخاصة بالمجلس (9).
إلا أن كل تلك الإصلاحات لم تغير من جوهر المؤسسة شيئا، فظلت الفوضى القضائية كما هي، وهو ما أكده “آدم كوغل”، وهو ناشط حقوقي أميركي مسؤول عن ملف المملكة العربية السعودية داخل منظمة حقوق الإنسان “هيومن رايتس ووتش”، فيقول: “السعودية تشهد عدالة تعسفية، ولا يوجد هناك قانون للعقوبات، وعموما لا توجد قوانين مكتوبة تنظم العقوبات. إحدى التهم الأكثر شيوعا هي “خيانة الأمانة تجاه الحكام”، ولكن ليس هناك أي وثيقة تشرح بالضبط المقصود بذلك والعقوبات الخاصة بتلك التهمة، ليبقى الحكم مرتبطا في النهاية بالتقدير الشخصي للقاضي” (10).
ويضيف كوغل: “أحد الأمثلة هي حالة الشاعر أشرف فياض، الذي أُدين بتهمة “الردة”. فأول قاضٍ تكلّف بالقضية أصدر في حقه عقوبة السجن لمدة أربع سنوات و800 جلدة، لكن إحدى محاكم الاستئناف نقضت الحكم الأول وأصدرت بدلا منه حكما بالإعدام. أما القاضي الثالث فألغى عقوبة الإعدام وحكم على فياض بثماني سنوات سجنا و800 جلدة، ورغم أن القضية واحدة، والأدلة واحدة، فقد تم إصدار ثلاثة أحكام مختلفة، وهو ما يوضح تعسف النظام القضائي في السعودية”.
غير أن تلك “العدالة التعسفية” لم تكن شيئا جديدا، بل كان الجديد مُتمثّلا في إنشاء المحكمة الجزائية المتخصصة، وهي هيئة قضائية شرعية تتولى النظر في محاكمة الموقوفين والمتهمين في قضايا الإرهاب وقضايا الأمن الوطني والجرائم المرتبطة به، وقد تأسست في المملكة العربية السعودية بتاريخ 29 يناير/كانون الثاني 2008، وتتوزع فروعها على جميع محافظات ومناطق المملكة.
المحكمة الجزائية المتخصصة هي هيئة قضائية شرعية تتولى النظر في محاكمة الموقوفين والمتهمين في قضايا الإرهاب وقضايا الأمن الوطني والجرائم المرتبطة به
بالطبع تتبع تلك المحكمة المجلس الأعلى للقضاء الذي يعينه الملك أو ولي عهده، ويحق لهم تغيير قضاة تلك المحكمة، ووضع التهم وإدانة المتهمين والحكم عليهم بالإعدام، طبقا لتفسيرهم الخاص للشريعة، وبناء على تهم خيانة الأمانة تجاه الحكام أو التورط في خلايا إرهابية، وهي الاتهامات التي لا يوجد لها تفسير محدد. وقد بدأت تلك المحكمة أولى المرافعات في 26 يونيو/حزيران 2011 لمحاكمة 85 شخصا يشتبه في تورطهم في تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية وتفجيرات مجمع الرياض 2003 (11).
وفي سبتمبر/أيلول 2011 ظهر 41 من المشتبه بهم بالانضمام لتنظيم القاعدة في المحكمة. وفي العام نفسه، عقدت المحكمة جلسات محاكمة الناشطين في مجال حقوق الإنسان، بما في ذلك محمد صالح البجادي، الشريك المؤسس لجمعيةالحقوق المدنية والسياسية في السعودية، ومبارك بن زعير، وهو محامٍ للسجناء، بالإضافة إلى خالد الجهني، الذي تحدث إلى تلفزيون “بي بي سي” العربية خلال احتجاج في الرياض.
وقد أدانت المحكمة 16 من نشطاء حقوق الإنسان بالسجن مدى 5-30 سنة في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2011، وهي المحكمة ذاتها التي أصدرت 37 تهمة على عدد من الشيوخ والدعاة بالمملكة بعد حملة الاعتقالات التي طالت عددا كبيرا من الدعاة أبرزهم سلمان العودة وعلي العمري وعوض القرني. لكن الأسوأ على الإطلاق هو ما يقف خلف كل تلك التشكيلات القضائية، أي ذلك الجحيم الذي يقابله المتهمون كل يوم داخل السجون وغرف التحقيق بسراديب المملكة.
“ما زلت لم أسمع أي شيء عن قضيتي.. أنا في انتظار القاضي ليستدعيني.
أمي.. أريد العودة للمنزل.. أشعر بالعجز الشديد.. أنا خائفة دائما.. خاصة يوم الجمعة.. فهو اليوم الذي تُنفذ فيه أحكام الإعدام”
(مقتطفات من الرسائل التي بعثت بها سارة ديماتيرا من السجن في المملكة العربية السعودية والتي ظلت معتقلة على ذمة قضية “قتل” من عام 1993 حتى عام 1997)
سارة، مثلها مثل الدعاة والشيوخ والمتهمين، ليست سوى واحدة من آلاف المعتقلين الذين ينتظرون أن يعلموا شيئا عن قضيتهم، في دولة يتّسم نظام العدالة الجنائية بها بالسرية التامة، وينتهك بشكل منهجي حقوق جميع المستخدمين لشبكة الإنترنت، ويلاحق جميع الناشطين في مجال حقوق الإنسان. دولة يقع نظامها القضائي كالسوط في يد الملك، يضرب به الجميع، ليبقى الخوف سيد الموقف، يهدد كل من يجرؤ على انتقاد السياسات الرسمية أو كل من يخالف الخط العام لسياسات الملك، وهو الخوف الذي يتجلى في المقولة الشعبية التالية: “لا تعلم متى يأتيك الجمس الأسود”. وهي دولة لا يوجد بها نقابات مستقلة للمحامين، ولا منظمات غير حكومية لحقوق الإنسان، وتخضع وسائل الإعلام فيها للرقابة الشديدة، وتتجاهل فيها الحكومة طلبات منظمات حقوق الإنسان الدولية للحصول على معلومات عن السجناء والانتهاكات داخل السجون، أو حتى معلومات عن النظام القانوني بشكل عام (12).
وبناء على تقرير أصدرته منظمة العفو الدولية (12)، جُمعت بياناته خلال مقابلات مع سجناء سابقين داخل السجون السعودية ثم خرجوا بعد ذلك خارج المملكة، فإن النظام القضائي السعودي لا يتمتع باستقلالية تفرضها عليه سيطرة السلطة التنفيذية، وعلى رأسها الملك، الذي يتحكم بالهيئات القضائية بشكل كامل، بل إن القضاء السعودي يفتقد كليا للاستقلال بسبب نظام الدولة الذي يعطي صلاحيات مفرطة لسلطات القبض والاحتجاز والاعتقال والتحقيق.
يغطي تقرير منظمة العفو تحت عنوان “نظام عدالة بدون عدالة”، بجانب تقرير “حالة المعاناة السرية” الصادر عام 2005، العيوب الرئيسية في نظام العدالة الجنائية في المملكة العربية السعودية، الذي يتميز حسب التقريرين بانتهاك حقوق الإنسان والاضطهاد السياسي للمعارضين ولجميع أنواع الأقليات، وبالتعذيب والعقوبات القاسية واللا إنسانية مثل عقوبة الإعدام، كما أن إجراءات الاعتقال والاحتجاز تجري دون ضمانات معترف بها دوليا، والقوانين الجنائية “غامضة ومنفتحة على التفسير الواسع للقضاة الذين يتمتعون بسلطات غير مقيدة بقواعد حماية حقوق الإنسان وضمان العدالة، أما جلسات المحاكمة فموجزة وسرية، والمتهم يُحرم دائما من الوصول إلى المستشار القانوني والحق في الدفاع عن نفسه” (12).
تقوم السلطات باحتجاز المشتبه بهم والتحقيق معهم دون أدنى إشراف من منظومة القضاء، ودون أي قواعد أو قوانين حاكمة. يذكر التقرير على سبيل المثال حالة السيد منير السيد عدنان الخباز، وهو رجل دين شيعي من القطيف، يقال إنه لم يتم إخبار أسرته، التي كانت قد عادت إلى المملكة العربية السعودية قبله، باعتقاله ولم تعلم أبدا عن مكان وجوده، فكان هذا واحدا من عمليات الاعتقال التعسفي التي تم الإبلاغ عنها على مدار سنوات (12).
يذكر التقرير (12) أن إجراءات التوقيف والاعتقال لا تخضع لأي قانون واضح، ورغم وجود ثلاثة قوانين على الأقل تتعامل مع تلك المساحة من نظام العدالة الجنائية، وهي: القانون الأساسي للحكومة أو دستور مارس/آذار 1992، والنظام الأساسي للاحتجاز والسجن الصادر في مايو/أيار 1978، والنظام الأساسي لمبادئ الاعتقال والحبس المؤقت والاحتجاز الوقائي (SPAD) الذي صدر في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 1983، فإنه لا توجد أحكام بشأن كيفية تنفيذ الاعتقالات، ولا أي التزام بالحقوق الأساسية للمعتقل، بل لا يشترط الحصول على إذن قضائي سابق بالاعتقالات (12).
وفيما يحظر الدستور الاعتقال والاحتجاز التعسفي، فإنه لا ينص على آليات لمنع مثل هذه الممارسات. علاوة على ذلك فإن القانون الموضوع لتنظيم إجراءات الاعتقال والاحتجاز تجاوز أي نص آخر، فهو قانون يتعارض بشكل صارخ مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان حسب تقرير منظمة العفو. فعلى سبيل المثال، يجيز القانون الاعتقال لأسباب غامضة تحت عبارات فضفاضة مثل “يحق لقوات الدوريات وموظفي النظام العام القبض على أي شخص في حالة إثارة الشكوك” (12).
فيما يعطي قانون الاحتجاز الحق لقوات الشرطة باعتقال أي شخص يعارض النظام السياسي أو الديني للمملكة. ولا تخضع عمليات الاعتقال تلك لأي إشراف قضائي، وبالتالي لا يوجد ما يمنع أفراد الشرطة أو غيرهم من ارتكاب العنف أثناء اعتقال المشتبه بهم، أما هؤلاء الذين يقعون رهن الاعتقال فليس لهم فرصة للطعن في قانونية احتجازهم أمام أي هيئة قضائية أو أي سلطة أخرى، فالعدالة هي حالة استثنائية لأفراد معينين فقط لديهم علاقات بالأسرة الحاكمة.
وبعد مرحلة الاعتقال ثم الاحتجاز، تأتي مرحلة انتزاع الاعترافات، يذكر تقرير منظمة العفو الدولية خطابا كتبه سجين داخل المملكة السعودية محكوم عليه بالإعدام، كتب: “أرسلوني إلى مكتب رئيس الشرطة، حيث قابلت شخصيات رفيعة المستوى وضباط، وسلمني أحد الضباط دفتر ملاحظات فارغا، وطلب مني أن أكتب كل ما يمليه، ظننت أن هذا الأمر في صالحي كي لا أتعرض لقسوة الاستجواب، فبدأت في الكتابة، وأملى علي الضابط أحداث اليوم، حتى وصل لتفاصيل ارتكابي جريمة قتل، فتوقفت فورا عن الكتابة، وسألته لماذا يطلب مني أن أكتب اعترافا بجريمة قتل لم أرتكبها، فصرخ الضابط في وجهي، وهددني إن لم أكتب الاعتراف فسيصعقني بالكهرباء… ثم نقلوني إلى المحكمة ليتمكّنوا من إثبات أنني كنت مذنبا بتلك الجريمة” (12).
يذكر التقرير سجينا آخر في زنازين المملكة السعودية أعدمته السلطات السعودية، بينما قال سجين سابق كان محتجزا معه في السجن نفسه: “عذبوه لمدة سبعة أشهر بما في ذلك إزالة أظافره وتعليقه في الهواء على أعمدة الصلب من مفاصل ركبته ومرفقيه، وفي النهاية.. كتب الاعتراف وبصم عليه بإبهامه” (12)، فحكمت عليه المحكمة بالإعدام.
تبدأ قوات الأمن بإجراء الاستجواب داخل غرف وأماكن الاحتجاز بالمملكة السعودية، بعد أن تعزل المعتقل عن العالم الخارجي تماما، وخلال تلك الفترة يُمنح المعتقل القليل أو لا يُعطى أي معلومات حول أسباب اعتقاله أو التهم الموجهة إليه، وفي غياب أي ضوابط أو إشراف قضائي، يجوز للمحققين استخدام مختلف أنواع التعذيب والإكراه والخداع حتى يعترف المعتقل بالجُرم الذي يريد الضابط تلفيقه له، ولا يحق للمحتجز مقابلة محامٍ أو أي سلطة قضائية أو أي سلطة أخرى تحميه من المحققين (12).
وعندما يحصل المحققون على اعتراف المتهم، يحضرونه إلى القاضي لتوقيعه، فإذا رفض الشخص التوقيع على أساس أنه لم يرتكب تلك الجرائم المكتوبة، قد يرفض القاضي في المقابل المصادقة على الاعتراف وينتهي دوره، لكن القاضي لا يطلب وقف إجراءات الاستجواب، ولا يأمر بإجراء فحص طبي أو تحقيق لمعرفة إذا كان قد وقع تعذيب على المتهم. وهذا ما أخبر به السجناء السبعة والثلاثون منظمة العفو الدولية، الذين أعدمتهم السلطات السعودية (12)، فحين” يرفض السجناء التوقيع، يعودون مرة أخرى لغرف التعذيب حتى يوقعوا على الجرائم التي لم يرتكبوها، بل إن كثيرا من السجناء قد صرحوا أن في كثير من القضايا يكون الاعتراف المكتوب بخط اليد تحت التعذيب والإكراه هو الدليل الوحيد المقدم للمحكمة”، وبالرغم من ذلك، تصدر المحكمة على أساسه أحكاما بالإعدام والسجن المشدد (12).
كما قالت منظمة هيومن رايتس ووتش (13)، من خلال متابعتها لسبعة أحكام منفصلة أصدرتها المحكمة الجنائية المتخصصة في عامي 2013 و2014 ضد رجال وأطفال متهمين بارتكاب جرائم ذات صلة بالاحتجاج عقب مظاهرات شعبية قام بها أفراد الأقلية الشيعية في عامي 2011 و2012 في مدن المنطقة الشرقية، إن في جميع المحاكمات السبع زعم المحتجزون أن الاعترافات انتُزعت تحت وطأة التعذيب، لكن القضاة سرعان ما رفضوا هذه الادعاءات دون تحقيق، وأخذوا بالاعترافات كدليل، ثم أدانوا المعتقلين على أساس هذه الاعترافات، وفي بعض الأحيان أصدروا أحكاما بالإعدام.
وتوضح المنظمة (13) أنه في جميع أحكام المحاكمة تقريبا التي تابعتها هيومن رايتس ووتش نبذ المتهمون اعترافاتهم، قائلين إنهم تعرضوا للإكراه في ظروف ترقى في بعض الحالات إلى التعذيب، بما في ذلك الضرب والحبس الانفرادي المطول. ورفضت المحكمة الادعاءات، فطلب بعض المتهمين من القضاة إصدار أمر بإحضار لقطات فيديو من السجن قالوا إنها ستُظهر تعرضهم للتعذيب، وطلب آخرون أن تستدعي المحكمة المحققين كشهود للاستفسار عن تفاصيل كيفية الحصول على الاعترافات. وفي جميع الحالات، تجاهل القضاة هذه الطلبات. الأمر الذي جعل منظمة هيومن رايتس ووتش تُصدر بيانات تحت عنوان “أوقفوا المحكمة الجنائية المتخصصة.. أوقفوا محكمة الإرهاب”.
“قال عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود: لقد قاومت دعوتنا كل القبائل أثناء قيامها، وكان جدي سعود الأول قد سجن عددا من شيوخ قبيلة مطير، فجاءه عدد آخر من القبيلة يتوسطون لإطلاقهم، ولكن سعود الأول قد أمر بقطع رؤوس السجناء ثم أحضر الغداء ووضع الرؤوس فوق الأكل وطلب من أبناء عمهم الذين جاؤوا للشفاعة لهم أن يأكلوا من هذه المائدة التي وضعت عليها رؤوس أبناء عمهم، ولما رفضوا الأكل، أمر سعود الأول بقتلهم”
(روى ذلك حافظ وهبه المستشار السعودي في كتابه “جزيرة العرب”)
رغم كل تلك التطورات التي أجراها الملوك السابقون واللاحقون على النظام القضائي السعودي، فإن نظام العقوبات داخل المملكة ظل وفيا لنظام العقوبات عند “البدو” في نظام القبيلة، فبجانب الفوضى القضائية وسيطرة الحاكم أو الملك على نظام التشريع والعقوبات، اتسمت الأحكام القضائية بالصبغة البدوية الواضحة، حيث تقوم القبيلة بمعاقبة أفرادها، أو الأفراد الذين يقعون تحت سطوتها، إما بالطرد، سواء الطرد الاختياري الذي يجعل الجاني يهرب خوفا من الثأر، أو الطرد الإجباري من القبيلة والذي يكون بمنزلة الحكم بالموت، فالطرد يعني الموت البطيء وإهدار الدم (14).
وإما تكون العقوبة داخل القبيلة بالثأر، أي طلب القصاص من الجاني أو أحد أقربائه، والمسؤول عن الثأر هو ولي المجني عليه، أو تكون العقوبة برد البراء، أي قطع العلاقات وعزل الآخر وربما إعلان الحرب عليه فردا أو جماعة. وفي كل الأحوال يكون القانون الحاكم داخل القبيلة هو قانون القوة، الذي تحكم بموجبه أسرة آل سعود الجزيرة العربية (14)، حيث يرى وضاح شرارة أن “المجتمع السعودي لا يتوحد إلا في الدولة وفي السلطة، فالدولة فيه لا تزال صانعة المعنى كما كان يحسب ابن بشر” (15)، وعليه يرى خلدون النقيب أن الجزيرة العربية دخلت “مرحلة الدولة التسلطية في منتصف الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن الماضي، دون المرور بمرحلة الدولة الوطنية التي تكافح من أجل الاستقلال كما حصل في أغلب دول المشرق العربي”.
والدولة التسلطية في نظر النقيب “هي الشكل الحديث والمعاصر للدولة المستبدة.. وهي ككل الأشكال التاريخية للدولة المستبدة”، فهي تحتكر كل مصادر القوة، وتجعل قانون الحاكم أو الأسرة الحاكمة أو تفسير الأسرة الحاكمة للقانون هو الدستور والمرجع القضائي الأوحد في البلاد (15).
وبالتالي، بدلا من أحكام الطرد والقتل والصلب والبتر والذبح وضرب الأعناق التي كانت القبيلة تصدرها على أفرادها في الماضي، انتقل الأمر لأحد طوابق المحكمة العامة في الرياض، تحت عنوان “المحكمة الجنائية المتخصصة”. هذه المحكمة أصدرت في 10 أبريل/نيسان 2012، على لسان القاضي عبد اللطيف العبد اللطيف، حُكما بسجن الناشط الحقوقي محمد البجادي لمدة أربع سنوات، ومنعه من السفر إلى الخارج لمدة خمس سنوات أخرى. وفي 11 أبريل/نيسان 2011، قضت المحكمة بحبس يوسف الأحمد، الأكاديمي ورجل الدين، لمدة خمسة أشهر بسبب “التحريض ضد الحاكم، وتأجيج الانقسامات، والإضرار بالوحدة الوطنية، والمس بهيبة الدولة ومؤسساتها الأمنية والقضائية، وإنتاج وتخزين ونشر معلومات على الإنترنت من شأنها المس بالنظام العام” (16).
النظام القضائي داخل المملكة السعودية ما هو إلا هيئة شكلية تنفذ قانون الأسرة الحاكمة، وتتعامل مع كل معارضيها بمبدأ القوة التي تؤمن بها العصبة أو القبيلة
وفي 22 فبراير/شباط 2012، شرعت المحكمة الجنائية المتخصصة في محاكمة خالد الجُهني، الذي تحدث إلى صحفيين دوليين فيما عُرف بيوم الغضب السعودي في 11 مارس/آذار 2011، الذي لم يشارك فيه إلا عدد قليل من الناس بسبب الحضور المكثف للشرطة. وفي أبريل/نيسان 2012، بدأت المحكمة الجنائية المتخصصة أيضا في محاكمة فاضل المناسف، الناشط الحقوقي، وهي المحكمة نفسها التي أصدرت أحكام الإعدام الجماعي على 47 رجلا، ثم على 37 رجلا، وهي نفسها التي وجّهت للشيخ سلمان العودة ومن معه 37 تهمة قد تودي به إلى عقوبة الإعدام (16).
فيما علّقت هيومن رايتس ووتش (16) أن الإجراءات المتّبعة في المحكمة الجنائية المتخصصة “تنتهك الحق في المحاكمة العادلة”، حيث أضحت “المحكمة الجنائية المتخصصة” التي أُنشئت عام 2008 للنظر في قضايا “الإرهاب” مقبرة لكل معارضي النظام السياسي أو الديني أو الاجتماعي في المملكة السعودية، وبقي آلاف المحتجزين من المشتبه بهم في سجون المباحث لسنوات عديدة، وتُضيف المنظمة أن المحكمة الجنائية المتخصصة لا يتوفر لها أي نظام أساسي أو قانون يحدد صلاحيات المحكمة، ويتم اختيار القضاة بشكل فردي ليلتحقوا بلجنة قضاة المحكمة من قِبل المجلس الأعلى للقضاء والذي يُعيّن الملك أعضاءه مباشرة.
يدفعنا كل ذلك أن ننتهي إلى أن النظام القضائي داخل المملكة السعودية ما هو إلا هيئة شكلية تنفذ قانون الأسرة الحاكمة، وتتعامل مع كل معارضيها بمبدأ القوة التي تؤمن بها العصبة أو القبيلة، فتنفي وتقتل وتذبح وتعدم مخالفيها، وكأن العز سيبقى لها أبد الدهر.
(المصدر: ميدان الجزيرة)