القرآنيون الجُدد.. أيُّ جرأةٍ على السُّنّة
بقلم أ. ناصر حمدادوش
أرسل إليَّ صديقٌ على الخاصّ في الفايسبوك تسجيلاً لأحد الجزائريين في الخارج، ممّن يريد صناعة رمزيةٍ تأثيرية عبر موضة البثّ المباشر على اليوتيوب، يردّد مقولةً مسمومةً قديمة متجدّدة، بأنه لا يؤمن إلاّ بالقرآن الكريم وينكر الحديث النبوي، للشكّ في مدى صحّة النّْسبة بينه وبين النبي صلّى الله عليه وسلّم. إنّهم القرآنيون الجدد، الذين يختبئون وراء عباءة التجديد في الدّين، وما هم في الواقع إلاّ زنادقةٌ مارقون.
إنّ خروج هؤلاء إلى العلن يُعدّ بحدّ ذاته معجزةً من معجزاته صلى الله عليه وسلم بتلك الحقيقة النّصية في الحديث الذي رواه الإمام أبو داوود والترمذي وابن ماجه: “يوشِك رجلٌ متّكئًا على أريكته يحدّث بحديثٍ عنّي، فيقول بيننا وبينكم كتاب الله، فما كان فيه من حلالٍ حلّلناه، وما كان فيه من حرامٍ حرّمناه..”.
وكأنّ الحديث النبوي الشريف يكشف حالة الكسل والخمول في طلبهم للعلم، وميزة الفتور عن بذل الجهد من أجل المعرفة، وهم المتّكئون على الأرائك في البثّ المباشر المسموم على الفايسبوك واليوتيوب للطعن فيما هو معلومٌ من الدّين بالضّرورة.
إنّ الوقوف على الجذور التاريخية لهذا التوجّه يجدها دعوةً قديمةً عانَت منها الأمّة سابقًا، ثم جاء دور المبشّرين والمستشرقين ومَن تبعهم من المستغربين لإحداث الصّدمة من جديد، فاعتمدوا على شبهات المتقدّمين، ثم توسّعوا فيها وزادوا عليها، حتى اتخذوا ذلك سبيلاً إلى محاولة هدم الدّين وإقصائه من الحياة.
فقد كتب المستشرق الألماني (شاخت) كتابه (أصولُ التشريع المحمّديّ)، وذكر بصيغةٍ يقينيةٍ في خاتمة بحثه: (أنه ليس في السنّة النبوية حديثٌ واحدٌ من الأحاديث الصحيحة، وبخاصة الأحاديث الفقهية، وأنّ السنة النبوية بأنواعها الثلاثة: القولية والفعلية والتقريريّة ظلّت بعيدة عن التشريع الإسلامي، لا يُلتفت إليها ولا يُعمل بها، ولم تكن مصدرًا من مصادر التشريعِ..).
وقد ارتبط مذهب القرآنيين في عالمنا العربي المعاصر بأستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة الأزهر الدكتور المصري أحمد صبحي منصور، وقد سافر إلى أمريكا واستقرّ بها في الثمانينات، وأسّس مركزًا وموقعًا إلكترونيًّا لنشر مقالاته ومقولات القرآنيين مثله، وله عدّة كتب، من أشهرها: “القرآن وكفى”.
وعلى الرّغم من الصّدمة بسبب مقولات هؤلاء إلاّ أنّها ظاهرةٌ تأخذ في التمدّد من جديد، ويرجع السّبب في ذلك إلى حالة الضّعف وانكشاف الحصانة العلمية والثقافية في مواجهة ذلك، للاعتقاد في التعارض الظاهري بين الحديث النبوي والنّص القرآني أو النظر العقلي أو المعارف المعاصرة، فجاءت ظاهرة القرآنيين كردّة فعلٍ احتجاجيةٍ على ذلك كلّه، مع أنّ علماء الحديث ونقّاده قاموا بجهودٍ عظيمة في خدمة الحديث وفق قواعد دقيقة في نقد الأسانيد والمتون.
وهو ما يحيلنا إلى مبحثٍ عظيم في الدراسات القديمة والمعاصرة للسنة، وهو: حجّية السنّة، وسنقتصر على الأدلة من القرآن الكريم نفسه تساوقًا مع أصحاب هذه الفتنة، إذ أجمع العلماء على حُجّية السُّنَّة النبوية واستقلالها بالتشريع، لعدّة أدلةٍ منها:
قوله تعالى عن نبيّنا صلى الله عليه وسلّم وقد زكّى حديثه ونزّه منطقه: “وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى.” (النجم:3، 4).
وقوله الله تعالى وقد منحه سلطة الشّرح والبيان: “وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.” (النحل 44)، فقد يتعذّر العمل بالقرآن الكريم وحده، وأنَّ ما أُجمِل منه قد تبيِّنه السُّنَّة النَّبوية من أجل العمل به على الوجه المُراد، فقد فرض الله تعالى على الناس عدَّة فرائض مجملة غير مبيّنة، ولم يُفصّل القرآن الكريم في أحكامها ولا كيفيات أدائها.
وقوله وهو يأمر بالطاعة المستقلة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلكَ خَيرٌ وأَحسَنُ تأويلاً.”(النساء 59)، نقل القاضي عياض عن ميمون بن مهران قوله: (أنّ الردّ إلى الله هو الرجوع إلى كتابه، والردّ إلى الرسول هو الرجوع إليه في حياته، وإلى سنّته بعد وفاته.)، وقال ابن القيّم معلقًا على الآية الأخيرة: (أمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله، وأعاد الفعل إعلامًا بأنّ طاعة الرسول تجب استقلالًا.. فإذا أمر وجبت طاعته مطلقًا، سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه..).
وقوله تعالى على وجوب الاحتكام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم كسلطةٍ قضائية ملزِمة: “فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.” (النساء: 65).
وقوله تعالى عنه، وهو يؤكد له على مهمة التشريع المستقل كذلك: “.. يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ، وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ، وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ، وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ.” (الأعراف 157)، قال الإمام الشّوكاني: (اعلم أنّه قد اتفق من يُعتدُّ به من أهل العلم أنّ السُّنَّة المطهرة مستقلة بتشريع الأحكام، وأنّها كالقرآن في تحليل الحلال، وتحريم الحرام..).
وقوله تعالى عنه وهو يجعله مرجعًا في الشريعة واجبة الاتباع: “وما آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا.”(الحشر: 7).
وبالرّغم من هذه الأدلة القرآنية – وهم الذين يتدثّرون به – إلا أنّهم أرهقوا غيرهم ببعض الشّبهات المكشوفة، ومنها:
الشّبهة الأولى: أنّ القرآن الكريم قد حوَى كلَّ شيء من أمور الدّين لقول تعالى: “مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ.”(الأنعام 38)، وهو دليلٌ كافٍ في الاستغناء عن السنّة، وقد ناقش علماؤنا هذه الشّبهة، فقالوا: إنّ القرآن الكريم لم يفرّط في شيءٍ من حيث الإجمال في أصول الدّين والقواعد العامّة لأحكام الشريعة، فنصّ على بعضها وترك بيان بعضها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى عن وظيفةٍ من وظائفه: “وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.”(النحل: 44).
ومع ذلك، فإنه وإن كان المراد بالكتاب هو القرآن الكريم، فلا دليل لهم فيها على إنكار السنّة، لأن آيات الأحكام في القرآن الكريم لا تزيد عن 500 آية، وأمّا أحاديث الأحكام فهي تزيد عن 4500 حديث، إذ لم يُفصّل القرآن الكريم إلا قليلاً منها، وجاءت السنّة مفصِّلة للكثير منها، مثل التفصيل في الصّلوات الخمس وكيفيات أدائها وعدد ركعاتها، والتفصيل في أحكام الصّيام وتفاصيل فقه الزّكاة وكيفيات أداء مناسك الحجّ وغيرها.
الشّبهة الثّانية: احتجاجهم بقول الله: “إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ.”(الحجر: 9)، وزعموا أنّ الله تعالى قد تكفّل بحفظ القرآن الكريم دون السُّنَّة النبوية الشريفة، وقالوا: لو كانت السُّنّة حجّةً ودليلاً مثل القرآن الكريم لتكفُل الله عزّ وجلّ بحفظها أيضًا.
والمتأمّل في الآية يجدها نصًّا صريحًا على حُجيَّة السُّنَّة النبوية ودليلاً واضحًا على حفظ الله تعالى لها مثل القرآن الكريم وليس العكس، إذ لا يُقتصر معنى الذّكْر على القرآن وحده، فالكتب المتخصّصة تعدّد 52 معنىً للذّكر، فهو يرد بمعنى القرآن، وبمعنى الرسالة والشريعة، وبمعنى السُّنَّة، وبمعنى التذكرة، وبمعنى الشّرف، وبمعنى العبادة…
والذي يترجّح أنّ المراد بالذِّكر في الآية هو شرع الله ودينه، وهو محفوظٌ بمصدريه: (القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية)، إذ أنّ الحديث الصّحيح وحيٌّ كذلك، لقوله تعالى: “وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحيٌّ يُوحَى” (النجم: 3, 4).
إنّ ظاهرة القرآنيين تضعنا جميعًا أمام تحدّيات من لونٍ آخر، فهم ينطلقون في فكرهم وتحرّكهم من القرآن الكريم بقدسيته ومبدئيته، بغضّ النظر عن خلفياتهم ونواياهم وأغراضهم، وهو ما يتطلّب استيعاب مقولاتهم وتفهّم اعتراضاتهم ومواجهة إشكالاتهم بالأدلة القرآنية وفق منطلقاتهم، تفنّد استدلالاتهم وتفكّك مقولاتهم من داخل المنظومة القرآنية نفسِها.
المصدر: موقع حركة مجتمع السلم