بقلم د. وصفي عاشور أبو زيد
ممَّا يوضح قيمةَ القرآن في حياة الإنسان أنه بيَّن له طريق الهداية، وذكر له طريقَ الغواية، ولم يُجبِره على اختيار أحدهما، بل أعطاه حريَّةَ الرأي، ومنحه إرادةَ الاختيار، مع ذكر مصير كل طريق منهما؛ كي تتحقَّق صِفة العدالة الإلهية في الحساب يوم القيامة.
ومما يعبِّر عن ذلك من القرآن الكريم قولُه تعالى: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 7 – 10].
وقوله تعالى: ﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا * إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا * إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ﴾ [الإنسان: 2 – 5].
وقوله تعالى: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 153].
وفي السنَّة الشريفة يبيِّن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر بطريقة طريفةٍ عَبْر الرَّسم البياني أمام الصَّحابة رضي الله عنهم، وهي طريقة تعليميَّة مبتَكَرة؛ فعن عبدالله بن مسعود قال: خطَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًّا، ثمَّ قال: ((هذا سبيل الله))، ثمَّ خطَّ خطوطًا عن يمينه وعن شماله، ثم قال: ((هذه سُبُل – قال يزيد: مُتفرِّقة – على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه))، ثمَّ قرأ: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾ [الأنعام: 153][1].
وغيرها من الآيات والأحاديث الكثيرة التي توضح سبيلَ الغواية وطريق الهداية، مع ذكر عاقبة كل طريق، ومَغَبَّة كل اختيار؛ ليكون الإنسان على بصيرةٍ من أمره، وعِلمٍ من اختياره؛ ليختار حين يختار على يقين وحكمة وبصيرة.
وفي رواية معبِّرة في هذا المقام يسوقها القَرَافي في “فُرُوقه” أن شيخًا قام إلى عليٍّ رضي الله عنه بعد انصرافه من صِفِّينَ فقال: أخبرنا عن مسيرنا إلى الشام، أكان بقضاء الله تعالى وقَدَره؟
فقال: “والذي فلَق الحبَّةَ، وبرَأَ النَّسمة، ما وطِئنا موطِئًا، ولا هبطنا واديًا، ولا علونا تَلْعَة، إلَّا بقضاء وقدَر”.
فقال الشيخ: عند الله أحتسِب عنائي، ما أرى لي من الأجر شيئًا!
فقال له: “مهْ أيها الشيخ! عظَّم الله أجرَكم في مسيركم وأنتم سائرون، وفي مُنصرَفكم وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مُكرَهين، ولا إليها مضطرين”.
فقال الشيخ: كيف والقضاء والقدَر ساقانا؟
فقال: “ويحك! لعلَّك ظننتَ قضاءً لازمًا وقدَرًا حتمًا؛ لو كان كذلك لبَطَل الثواب والعقاب، والوعد والوعيد، والأمر والنَّهي، ولم تأتِ لائمة من الله لمذنب، ولا مَحمَدة لمحسِن، ولم يكن المُحسِن أولى بالمدح من المسيء، ولا المسيء أولى بالذمِّ من المحسِن، تلك مقالة عَبَدَة الأوثان، وجنود الشيطان، وشهود الزور، وأهل العمى عن الصواب، وهم قَدَرِيَّة هذه الأمة ومَجُوسها”.
ثمَّ قال الإمام علي: “إن الله أمَرَ تخييرًا، ونهى تحذيرًا، وكلَّف يسيرًا، لم يُعْصَ مغلوبًا، ولم يُطَعْ مُكْرِهًا، ولم يُرسِل الرسلَ إلى خلقه عبثًا، ولم يخلق السَّموات والأرض وما بينهما باطلًا، ذلك ظنُّ الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النَّار”[2].
فلولا حريَّة الاختيار عن طريق العقل، لَما كان هناك معنًى للثَّواب والعقاب، والأمر والنَّهي، والوعد والوعيد، ولا يقول بغير ذلك إلَّا “أهل العمى عن الصواب، وهم قَدَرِيَّة هذه الأمة ومجوسها”؛ كما قال عليٌّ رضي الله عنه.
——————————————–
[1] رواه أحمد في مسند عبدالله بن مسعود، رقم (3928).
[2] الفروق مع هوامشه للقرافي: ج 4، ص 391، تحقيق: خليل المنصور، دار الكتب العلمية – بيروت – الطبعة الأولى، 1418هـ – 1998م.