مقالاتمقالات مختارة

القدس أرض النبوات ومهبط الرسالات

القدس أرض النبوات ومهبط الرسالات

بقلم د. تيسير التميمي

الحديث عن قرار الإدارة الأمريكية بشأن مدينة القدس العربية المحتلة، لا ينهي، ولذا أقول: لقد أخطأ ترامب وغيره حين اعتقدوا أن ضعف أمتنا وانشغالها بمشاكلها الداخلية فرصة ذهبية يغتنمونها لتحويل مدينة القدس المباركة إلى عاصمة للاحتلال الإسرائيلي الغاشم، لقد خابوا وخاب مسعاهم، فها هي جماهير الأمة قد فاجأتهم بدفاعها عنها وعن مكانتها العقدية ورمزيتها الدينية والروحية، وها هو العالم ـ حتى المسيحي منه ـ قد فاجأهم هو الآخر بالإجماع على رفض هذا الإعلان المخالف لكل القوانين والمواثيق والقرارات التي اتخذها المجتمع الدولي من خلال منظماته وهيئاته ومؤسساته المختصة.

وهذا القرار الباطل الذي أعلنه ترامب ما هو إلا محاولة فاشلة لاختطاف مدينة القدس المحتلة وإهدائها للاحتلال الإسرائيلي، لكننا على يقين راسخ وثقة لا تتزعزع بأن هذا القرار الباطل سيسقط، وستعود مدينة القدس إلى أصحابها الشرعيين الأمناء عليها وعلى مقدساتها، وستعود لمكانتها الربانية ولهويتها العربية الإسلامية، وعلى الإدارة الأمريكية والاحتلال الإسرائيلي قراءة التاريخ جيداً فإن لهما ولغيرهما فيه عبرة عظيمة، فعلى الرغم من الاحتلالات الكثيرة التي تعرضت لها مدينة القدس عبر التاريخ كان الله سبحانه وتعالى يقيّض لها من عباده من يزيل عنها الاحتلال ويحررها منه، ومن يحبط المخططات الخبيثة والمؤامرات التي تحاك ضدها وتستهدف هويتها ومكوّناتها ومقدساتها. فمدينة القدس في وجدان الأمة وعقيدتها ليست كسائر المدن الأخرى، فقد فصّل الله سبحانه وتعالى مكانتها في القرآن الكريم وفي السنة النبوية المشرفة

* فقد وصف الله سبحانه وتعالى أرضها وما حولها في القرآن الكريم بأنها أرض مباركة مقدسة في آيات عديدة:

1- قال تعالى عن سيدنا إبراهيم {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} الأنبياء 71، ولم يخالف أحد في أن هجرة سيدنا إبراهيم الخليل من العراق كانت إلى فلسطين.

2- وقال أيضاً {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} الأنبياء 81، قال العلماء كانت الريح تجري إلى أرض الشام وبيت المقدس.

3- وقال سبحانه عن حضارة سبأ في اليمن {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً} سبأ 18، وعنى بالقرى التي بورك فيها بيت المقدس.

4- وعقب غرق فرعون قال تعالى {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} الأعراف 137، وهذه الأرض هي بلاد الشام وبيت المقدس.

5- وسيدنا موسى يخاطب قومه قائلاً {يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} المائدة 21، والأرض المقدسة هي فلسطين التي رفض بنو إسرائيل أن  يدخلوها عصياناً {قَالُواْ يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} المائدة 24، فحرمها عليهم عقوداً وعاقبهم بالتيه عنها، قال تعالى {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} المائدة 26.

6- وقال الله تعالى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} الإسراء 1. تنص هذه الآية الكريمة بوضوح على مباركة هذه المدينة وقدسيتها.

* ومن بركتها المعنوية ما اشتملت عليه من جوانب روحية ودينية، فهي مهد النبوات ومبعث الرسل الذين مشت خُطاهم على ثراها المبارك، واتخذوا المسجد الأقصى قبلة لهم، وكل شبر فيها يحمل بصمات نبيّ وأصداء ملاك:

1- فبين أرجائها تنقل سيدنا إبراهيم وآله، وفي أرضها يرقد هو وبعض ذريته، قال تعالى {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} هود 70، ومعلوم أن لوط يسكن فلسطين.

2- وفي قراها ومدائنها واجه لوط  فحشاء قومه، فحذرهم وأنذرهم، فاستحقوا العذاب لإعراضهم وتماديهم، قال تعالى واصفاً مصيرهم {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً من سِجيلٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ} الحجر 74-76، فمدينتهم على طريق معروفة وآثارهم مرئية للمارين، فمدائن لوط قرب البحر الميت.

3- وفي رحابها عاش آل زكريا وآل عمران أصفياء الله، قال تعالى {إِنَّ للَّهَ صْطَفي آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى لْعَالَمِينَ} آل عمران 33، وولد لهم سيدنا يحيى عليه السلام، قال تعالى {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ} آل عمران 39.

4- وفيها نشأت مريم الصِّدِّيقة عابدة في محراب بيت المقدس، قال تعالى {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يمَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنًّ اللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} آل عمران 37،

     وبُشّرت بكلمة الله وعبده ورسوله سيدنا المسيح عيسى عليه السلام، قال تعالى {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يامَرْيَمُ إِنَّ للَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} آل عمران 45.

5- وكليم الله موسى عليه السلام سأل الله عند الموت أن يدنيه من هذه الأرض المقدسة رمية بحجر رواه البخاري.

* وجاءت الإشارة إليها تلميحاً في عدة مواضع من كتاب الله تعالى:

1- أقسم الله بمنابتها قائلاً {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} التين1، قال المفسرون إن الزيتون هو جبل بيت المقدس ومسجدها.

2- قال أبو هريرة: الزموا هذه الرملة من فلسطين فإنها الربوة التي قال الله تعالى فيها {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} المؤمنون 50 .

3- وقال ابن عباس في تفسير قوله تعالى {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ} الحديد 13 السور سور بيت المقدس به باب الرحمة وخلفه وادي جهنم،

     وقوله هذا يرتبط بقوله صلى الله عليه وسلم ” هي أرض المحشر والمنشر ” رواه أحمد.

4- وقال تعالى {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} ق41، ورد في كتب التفسير أن المنادي هو إسرافيل ينادي من صخرة بيت المقدس.

     فمدينة القدس بأسوارها ووديانها وصخورها نموذج مصغر للأرض التي سيجري عليها حساب البشر.

5- وفي قوله تعالى {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} النور36،  ورد أنها المساجد الأربعة المسجد الحرام ومسجد قباء ومسجد رسول الله في المدينة والمسجد الأقصى المبارك.

6- وفي قوله تعالى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَآ} البقرة 114  قال الكثير من المفسرين هو المسجد الأقصى المبارك.

7- وفي قوله تعالى {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً} الإسراء 7  أجمع المفسرون أن المسجد المقصود هنا هو المسجد الأقصى المبارك

     لكل ذلك استحقت هذه المدينة المباركة أن تكون جنة الدنيا وجنة الآخرة، روى ابن عباس قول الرسول عليه الصلاة والسلام “من أراد أن ينظر إلى بقعة من الجنة فلينظر إلى بيت المقدس”، واعتبر صلى الله عليه وسلم الإحرام منها بعمرة تكفيراً لما تقدم من الذنوب؛ روت أم سلمة رضي الله عنها “من أهلّ بعمرة من بيت المقدس كانت له كفارة لما قبلها من الذنوب” فقالت أم حكيم رضي الله عنها: فخرجت من بيت المقدس بعمرة، رواه ابن ماجه. فهل يمكن أن يرضى المسلمون اغتيالها أو استبدالها أو المساومة عليها؟ قد علم المسلمون جميعاً أنها ليست للفلسطينيين وحدهم، إنما هي للمسلمين كل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ينافحون عنها بالغالي والنفيس لأنها جزء من عقيدتهم.

(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى