بقلم د. محمد العوضي
في خضم أمواج الأخبار المقيتة المتلاطمة في محيطنا العربي، وعواصف أنباء القتل الطائفي والتشريد التي حولت حياتنا إلى ظلام دامس لا بارقة أمل قريب فيه ولا بصيص نور ننتظره في نفق الألم الذي أقحمت فيه مؤامرات الدول الكبرى وأنظمتها الوظيفية التابعة لها في المنطقة شعوبنا العربية والإسلامية من خلال التحشيد العقائدي والتخندق الطائفي، ينطلق صوت حكمة خافت من قاضية في محكمة لبنانية، شاء الله له أن يبلغ الآفاق، لتعيد إلى نفوسنا الأمل بأن الخير ما زال موجوداً، وأن للحق أتباعاً وأن للسلام محبين ومؤيدين وداعمين.
الخبر باختصار كما نشرته جريدة «الراي»، أن قاضية تحقيق لبنانية مسيحية تدعى جوسلين متى، حكمت على ثلاثة شبان مسلمين بحفظ آيات من سورة آل عمران بدلاً من السجن كعقوبة تهذيبية لهم لإساءتهم لمقام السيدة مريم العذراء أم السيد المسيح نبي الله عليه السلام، وكان الهدف من هذا الحكم، كما يبدو لي، الحفاظ على هؤلاء الشباب من أتون السجن مراعاة لصغر سنهم من جهة، وإحلال السلام والأمن المجتمعي من جهة أخرى ودعوة غير مباشرة للعقلاء أن مهنة القاضي ليست التمسك بنصوص القانون وحسب، وإنما إعمال روح القانون للحفاظ على الوطن مما يعكر صفو وداد أبنائه وإشاعة مفاهيم المحبة والحفاظ على أواصر الجيرة والمواطنة الشريفة وتفعيل مبادئ الحقوق والواجبات كي يعيش المواطن في بلده ينعم بظلال الأمن والشعور بالانتماء الحقيقي لأرضه ومشاركته الفاعلة في بلد شاء الله تعالى أن يكون وطناً له.
كما أن القاضية بحكمها هذا أوصلت رسالة قيمية لهؤلاء المسيئين من شباب المسلمين الذين تطاولوا على مريم العذراء، بأنكم لو عرفتم دينكم حقاً لما أسأتم إلى أم المسيح التي أفرد القرآن لها سورة كاملة باسمها (سورة مريم) كما خص القرآن سورة باسم (آل عمران) ومعروف أن عمران كان من أحبار اليهود الصالحين وهو والد مريم وجد عيسى عليهم السلام.
وكأن القاضية تقول لهم إنكم أسأتم لدينكم أيضاً، بل ولكل الأديان.
حكم قضائي مليء بالرسائل التربوية والاجتماعية والسياسية كذلك.
اليوم، كم نحن بحاجة إلى أن يرتفع صوت الحكمة لتطويق الممارسات المشينة في حق الإنسانية التي يمارسها شذاذ الآفاق من عشاق الدم وسماسرة الموت وتجار الطائفية الذين ما تركوا روحاً بريئة في طريقهم إلا أزهقوها ولا دماً حراماً إلا سفكوه، ولم يميزوا في إجرامهم هذا بين طفل أو امرأة أو شيخ أو أعزل لا يد له في ما يحصل ولا جريمة ارتكبها يستحق عليها الموت أو الإعاقة أو التشريد إلا أنه ينتمي إلى هذه الطائفة أو تلك الجماعة.
الله تعالى لا يريد لنا أن نقتل بعضنا بعضاً، وليس لأجل الموت والخراب والتشريد بعث الأنبياء والرسل، وإنما بعثهم بالحق لتستقيم حياة الناس وينزلوا عند أمر الله وجعلنا شعوباً وقبائل لنتعارف لا لنتقاتل.
رائحة الطرح الطائفي كانت تزكم الأنوف، لكنها اليوم باتت تؤلم القلوب وتجرح المشاعر وتنقل الآمنين إلى الموت أو التشريد والغربة وفقدان الأمن، وعلينا إن أردنا أن نعيش بسلام أن نساند أصوات الخير والسلام والمحبة، إن لم يكن لأجل أنفسنا فاستجابة لأمر الله وحفاظاً على ما تبقى من إنسانيتنا ومستقبل أبنائنا وبناتنا ورحمة لذوي الشيبة والضعفاء والمساكين من أن تأكلهم نار الطائفية المقيتة.
(المصدر: مجلة الراي الالكترونية)