القاضي عمر البلنكوتي .. الصارخ في وجه الاحتلال البريطاني “لا جباية لأرض الله”
بقلم صبغة الله الهدوي
في قرية بعيدة من عاصمة كيرالا الهندية، تحديدا في مقاطعة مالابرم التي يشكل فيها المسلمون نسبة ستين في المائة، وهي من إحدى المقاطعات التي يحتل فيها المسلمون الأغلبية الساحقة بمقابل الهندوس، تقع هناك منطقة “بلنكوت” التي تحمل ذكريات بطل جسور، وقاض وقور وقف في وجه الاحتلال البريطاني وتحدى تلك الإمبراطورية الكبرى التي كانت شمسها لا تغيب، هو البطل الإسلامي الذي ترك دروسا عظيمة في النضال والدفاع المقدس بيد أنه كان قاضيا وشاعرا وعاشق الرسول، هو صاحب المقولة المشهورة التي هز بها كبرياء بريطانيا “لا جباية لأرض الله”، فكانت أول صفعة وقعت في جبهة الطغاة الشقراء الذين ظنوا أن مليبار سهل المأخذ، سريع الانقياد، لكن رجعت ظنونهم قهقرى إذ علمت أن في جوها تواجد قائد محنك جمع بين النضال والتصوف، ينطلق بحكمته وهمته لضرب معاقل بريطانيا الغادرة، استطاع بكازيماتيته النادرة لجذب ألوف مؤلفة وتشكيل جبهة قوية ظلت كابوسا على أطماع بريطانيا الكبرى في ديار مليبار، وبأمثال هؤلاء المجاهدين ظلت ديار مليبار تمتاز من بين الولايات الهندية الأخرى ماضيا وحاضرا حيث إنها حملت في صلبها موروث العلماء والفرسان معا من الأسرة المخدومية التي خدمت الفقه الشافعي خلال الكتب المشهورة في أوساط الشافعية “فتح المعين” و”قرة العين”، وأسرة ماركار التي كانت سدنة البحر العربي تحت أمر ملك كالكوت ساموتري، وكانت لها السمعة والشهرة في طراد البرتغاليين وإقصائهم من البحر العربي، فظل مسلموها – مابلا – يحتلون المكانة المتألقة في السياسة الهندية حتى إنهم صمدوا في زوابع الفاشية العاصفة الحديثة العهد، واتحدوا وتحدوا كل أشباح الخوف والذعر لدرجة ان خابت طموحات بي جي ب في هذه الديار التي تشهد لها الأيام تاريخ البطولة والنضال.
ولادته ونشأته
ولد الشيخ عمر البلنكوتي عام 1177ه في أسرة منحدرة من أصول عربية تسمى ب”كاكاتارا” تتمتع بريا الدين والأخلاق، توفيت أمه وأبوه في صغره إلا أنه اصطبر ونهل من نمير علماء العذب، وتجول في عدة مناطقها بحثا عن العلم والعلماء، وهو من أبرز الدعاة الذي خرجته مدرسة السيد العلوي المنفرمي الحضرمي الأصل، الذي كان تولى سيادة مسلمي مليبار آنذاك والذي أعلن الجهاد ضد المحتلين ، ليلبي له آلاف من مابلا مليبار ويسجلوا بصمة الفداء والتضحية في الميدان، وكان له شعبية كبيرة مما أخافت بريطانيا انعكاساتها المبهرة في المقاومة من أجل الحرية والاستقلال بل كان هو الروح والقلب لكل المعارك التي حدثت في مليبار، وتلقى القاضي عمر من تلك السيادة روح النضال والوقفة للمبادئ لحد أن أثر السيد المنفرمي في تشكيل شخصيته المتمردة لأجل الحرية والإطلاق من رق العبودية، وحملته الأوضاع السياسية المصطخبة مسؤولية قاض عامل لا يتصموع في المسائل الفروعية بل خاض أعنف المعارك ضد بريطانيا الكبرى ليصبح اسمه عنوان قائمة المتهمين لدى المحتلين، وكانت الأوضاع الاجتماعية المتدنية تجبر أمثاله على الخوض في النضال لاستعادة الهوية المفقودة وإحياء التراث الإسلامي من جديد بينما خططت بريطانيا وحاشيتها في تشتيت شمل المسلمين وبث الرعب فيهم بل رسمت خطة خطيرة لتفريق القلوب المتحدة، وتمييز المجتمع المليباري مسلما وهندوسا ليتسهل لها الأمر، فمثل هذه الظروف كانت كافية لولادة بطل جسور وقاض وقور ليتغير وجه تاريخ مليبار ويرسم من جديد.
لا جباية لأرض الله
إنه صاحب تلك الكلمة التي بددت كل أطماع المحتلين الذين انطلقوا لامتصاص دماء الفلاحين الكادحين، والذين سعوا في قطع الأيادي العاملة المجتهدة مع أن مستوى الحياة كان يتردى إلى قاع الفقر الموحش ويتدنى إلى حضيض الفاقة الكارثية، بل هو الذي أثار من خلالها نمطا جديدا استنكارا لما تمارسها زبانية الاحتلال من قمع وبطش وتعذيب، فقال في وجه كبرياء المحتلين هذه الكلمة الصارخة، حتى ثارت ثائرتهم وبدت سوءتهم، فجاءوا بأشد أنواع التعذيب من الاعتقالات العشوائية ومصادرة الأموال والممتلكات، فرغم كل هذه التضييقات غزت هذه الكلمة أسماع كبار المحتلين ليكون القاضي عمر البلنكوتي رمز النضال والمقاومة من جديد، فأرقتهم هذه الكلمة الصادمة الصامدة حتى حصاروا ديار مليبار وجعلوها تحت الرقابة المشددة، وفتحوا نقاط التفتيش ومعسكرات، فكلما سمعوا همس المقاومة طاروا إليها ببنادقهم ودباباتهم ليقهروا أولائك الفقراء البسطاء الذين لا يملكون سوى فدان أو فدانين، حتى اختنقوا لكنهم تغلبوا على كل هذه التضييقات والمحاصرة بإيمانهم وحماستهم وعزتهم، وأبدوا لشبة قارة الهند قاطبة أمثالا حية نابضة بالبطولة والجهاد، ووقف القاضي عمر كمصدر الطاقة للمقاومين يبث فيهم الأمل ويحثهم على الرباط والثبات، حتى أصدرت محكمة الإمبريالية باعتقاله حتى تم اعتقاله تحت السياط والنار لكن أخطأت خطة المحتلين إذ كانوا يحلمون ويتمنون الهدأة والطمأنة لو توارى القاضي من الساحة لكن أثار هذا الحكم الجائر موجة عارمة من الاحتجاج، وتجمع المسلمون حول المحكمة وأصروا على إفراجه، وتحير الاحتلال أمام هذا المحيط الهائج حتى اضطر للمفاوضة مع القاضي واقترح منه ليهدئ الشعب الثائر، فتقدم القاضي يهدئه ويوضح له حقيقة الأمور حتى تراجع وانسحب الجمع، فبان للاحتلال قوة هذا البطل الكامنة في قلوب الألوف الثائرة التي لا تنحط قيد أنملة، ثم الموقف الثاني الذي أظهر فيه هذا البطل موقفه الثبت كان ضد الذي ظهر في لباس التصوف فانبهر فيه كثير من العوام جهلا وغفلا حتى أقبل بعضهم يسجد له تحية وإجلالا، فلما علم القاضي هذه الفعلة الشنيعة انبرى بفتواه الذي يبين فيه حرمة السجود للخلائق، وله مواقف جريئة ضد المتصوفين الذين خرجوا من رقبة الشريعة وألهووا الناس في أساطير وخرافات.
القاضي العاشق
ففي خضم كل هذه الحركات التي لا تدب ولا تخور كان قلبه مفعما بعشق الرسول، حتى فاضت قريحته في مدح النبي قصائدا ومنظومات، ليدعى بعد ذلك ب”حسان مليبار” ، وعبر من خلالها محبته الصافية للرسول صلى الله عليه وسلم موشحا ببدائع العبارات المنمقة، وصاغها بأنماط مختلفة بلغة عربية أصيلة، ومنها ما كتبها بحروف منقوطة وأخرى غير منقوطة، حيث اتخذ في نظم المدائح النبوية طرقا غريبة تنم عن مدى تبحره وتعمقه في اللغة العربية بيد أنه ولد في مجتمع صاخب يعاني من الفقر ويترنح تحت نير الاحتلال البريطاني الغاشم، ويحكى عنه أنه زار المدينة المنورة في موسم الحج، فلما وصل عند الروضة فوجئ بإغلاق بابها، فأصر على فتحه حتى يدخل فيها ويسلم على المعشوق، لكن الموظفين أبوا وحاولوا في إخراجه، لكنه أبى وامتنع وجلس في سدة الروضة، وقلبه جريح، حتى فاضت عيناه بالدموع وفاضت روحه بكلمات تخاطب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فكانت الأبيات هكذا
يا أكرم الكرما على أعتابكم عمر الفقير المرتجي بجنابكم
يرجو العطاء على البكاء ببابكم والدمع من عينيه سال سجيما
صلوا عليه وسلموا تسليما
ومن قصائده في مدح الرسول القصيدة الموسومة ب”صلى الإله” المشهورة في العالم العربي بالقصيدة العمرية، وكانت قصائده أجلى مرآة تعكس حالة المجتمع المليباري الذي تم بناءه على العنصرية والعرقية، ليذل شعب ويعز آخر بدون أي مزايا تذكر، فغزت قصائده هذه الحالة المتدنية السخيفة التي تشبه حالة الجاهلية العربية التي تفخر بالآباء والأجداد القابعة في في ظلمات النظم المتصنعة التي لا تضع للفطرة مكانا، وأحدثت القصيدة ضجة كبيرة في أوساط الطبقات العليا الهندوسية، وحكت نبضتها التي كانت تؤمن بقدسية العروق والأصلاب، إذ كانت أهم القوى التي وراء هذه الفوارق والتمييزات اللاإنسانية، فأنشد القاضي بكل قساوة وسخرية منها
“أيا فاخرا بالنسب كيف التفاخر، وأصلكم من قبل “تيا وناير”، ومن الجميل في هذا الأمر، إن هذه القصيدة كانت تعرض لبعض عائلات المسلمين الأثرياء الحديثة العهد بالإسلام، إذ بدأت تفتخر وتباهي بأصولها وأجدادها الكفرة كما تعهدت في جاهليتها، لكن أحلامها كلها تبخرت ومطامعها كلها تحطمت في تلك الحروف الصارخة الضاربة في وجه المجتمع المؤسس على لبنات منهارة، وأصبحت قصائده تتردد في الطبقات المطحونة لتفعم فيهم الأمل والحياة من جديد، وفي معنى آخر كانت الطبقات العليا حتى من المسلمين تميل إلى ظل الاحتلال، فصبت عليها هذه القصائد العمرية سوط سخرية مقذعة تحارب قومه المنخدع والاحتلال الخادع في آن واحد.
توفي رحمه الله عام 1273ه بعد أن ترك دروسا لامعة وعبرا ناصعة لشعبه الذي انسحق في نير الاحتلال ، لقد كان صوفيا مناضلا من أجل وطنه وشعبه، عاش بين الناس حاملا راية النهضة والتجديد، ومؤسسا فيهم روح التضامن والإلفة القومية، ومنشدا لهم قصائد العشق النبوي، ومنظومات النصيحة والوعظ.