القائد التركي الانقلابي الذي دمر ما بناه عشرون خليفة عثمانيا
بقلم د. محمد الجوادي
هذا القائد هو جمال باشا السفٌاح، وهو أحد الضباط الثلاثة الذين اغتصبوا قيادة الدولة العُثمانية في سنواتها الأخيرة فأوردوها موارد التهلكة وقضوا على كيانها المُترامي الأطراف من أجل أن يُجيدوا السيطرة على مساحة صغيرة تتناسب مع قصر نظرهم ويُمارسون فيها قهر العسكر وديكتاتوريهم المُتناهية على نحو ما يُمارسونها في المُعسكرات.
وقد تكفٌل هؤلاء الثلاثة الذين خفت ذكرُ أسمائهم مع التاريخ ومع مرور الزمن وإن لم يخْفُت أثرُ ضررهم البالغ الذي ألحقوه بالإسلام ودولة الإسلام وبالأتراك ودولة الأتراك وبالعرب وبشعوب العرب، فقد استطاع هؤلاء الثلاثة أن يُقحموا الدولة العثمانية في مُواجهات مُتكرٌرة (ولا نقول حروب) تكفلت بتمزيق أوصال الدولة وليس فُقدان أطرافها فحسبْ.
وإذا قيل إن الأشرار يتفاضلون أو يتمايزون في الشر حتى يُصبح أحدُهم مُتفوٌقا على زملائه في الشرور فإن جمال باشا السفٌاح يتجاوز في شروره وسيٌئاته وإخفاقاته وإجرامه أضعافا مضاعفة من شرور زميليه طلعت باشا وأنور باشا.
كانت ألفباء المواجهة العسكرية التي واكبت الحرب العالمية الأولى أن ميدان المُواجهة الأول سيكون في بلاد الشام لأسباب جُغرافية ولأسباب تاريخية وعقيدية كذلك، فلم يكن هناك هدف أوربي واضح من الحرب يمكن تسويقه على المستوى الشعبي إلا الخلاص من آثار هزائم قديمة، أو الثأر لهزائم سابقة.. وكان الدافع الوحيد الذي يُمكن إقناع العسكريين الفرنسيين مثلا (أو الإنجليز) بأهمٌيته للاندفاع إلى مشاركة في الحرب هو استئناف طراز أقرب ما يكون إلى طراز الحروب الصليبية القديمة التي لم تخفق قياداتها فيها في أوربا ذاتها وإنما حقٌقت هزائم مُتكرٌرة أمام الشرق العربي بمسيحييه ومُسلميه معا وعلى حد سواء.
وهكذا كان على أيٌة قيادة استراتيجية في الدولة العثمانية سواء كان أمر هذه القيادة بيد الخُلفاء التقليديين أو بيد العسكر المُنقلبين (بدءا من 1908) أن تُؤمٌن الوجود العثماني في سوريا الكُبرى بشواطئها المُطلٌة على البحر الأبيض المتوسط حيث يُتوقٌع أن تأتي القوات البحرية البريطانية أو غيرها من البحريات الأوربية من هذا الجانب أو ذاك أيْ من جانب بريطانيا وحُلفائها أومن جانب ألمانيا وحُلفائها، ولأن الأمر في سوريا كان أكبر من أن يتولاٌه قائد محلي فقد رأت القيادة الانقلابية أن تُسند هذه المهمة في حكم سوريا وقيادة الجبهات المُتٌصلة بها إلى جمال باشا، وقد كان هذا القرار هو أسوأُ قرار يُمكن اتخاده في مثل هذه الظروف بحُكم ما يعرفه الزُملاء عن بعضهم البعض من طبائع وأخلاق وقُدرات وسجل كفاءة وطابع نفسي في الحكم على الأمور.
وعلى حين كانت المهمة التي كُلٌف بها جمال باشا في سوريا تتطلٌبُ شخصية محبوبة استيعابية قادرة على تجاوز الخلافات من أجل الهدف الأسمى أو النصر المطلوب فقد كان جمال باشا بطبعه وتاريخه وطبيعته مُناقضا لما هو مطلوب على طول الخط، فقد كان هذا الرجل دمويا عنيفا على نحو ما كان عصبيا في قراراته، حادا في انفعالاته، مُتسرٌعا في خُطواته وكان قد وصل في رُتبه العسكرية إلى أعلى الرُتب فكان سردار وهي رتبة تُوازي الفريق أول وقد توالت مهامٌه العسكرية والسياسية على نحو أكبر من طاقاته وقدرته، ففي 1908 شارك في قيادة الانقلاب على السلطان عبد الحميد وفي 1913 شارك في الانقلاب العسكري التالي المعروف بالانقلاب العثماني 1913 وتولى منصب وزير الأشغال العامة 1913 ثم تولى منصب وزير البحرية في العام التالي 1914، وكأنه على موعد مع مهمته في تضييع الإمبراطورية في الحرب العالمية الأولى . وفي تلك الحرب بدأ مهامه بقيادة الجيش الرابع العثماني.
وفي 1915 أُسندت إليه قيادة سوريا الكبرى وبلاد الشام) تمهيدا للمواجهة المُتوقٌعة في سوريا وعبر قناة السويس إلى مصر، وهو الذي تولى قيادة هذه المعارك التي كانت السبب المُباشر في انهزام الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وعلى سبيل المثال فإن المعركة حول قناة السويس لم تستمر إلا يوما وليلة في 2 و3 فبراير 1915، وكأنه كان يقدم إرهاصات لما حدث مع سميه الرئيس جمال في 1956 و1967 ورُبٌما يتخيلُ القُرٌاء ظروف الجو التي وقعت فيها المعركة التي توافق الفترة التي يقرأون فيها مقالنا هذا، وهي ظروف مواتية للانتصار، لكن جمال باشا بحماقته المعهودة لم يستفد منها أية فائدة بل بالعكس وقع في أخطاء مُتكرٌرة لا تليق برُتبته ولا مكانته ولا سنٌه.
لكن كل هذا يهون إذا علمنا أن كل انقلابي مثلُه لا يهمٌه النصر وإنما يهمٌه تأمين وجوده هو نفسه في السلطة حتى لو كان هذا على حساب أرواح جنوده، وسيادة دولته على أرضها، وهذا هو ما حدث بالفعل فقد اندفع جمال باشا بقُواته عبر سيناء فوصلت إلى القناة مُنهكة تماما دون أن تكون هناك تجهيزات لتأهيلها أو تعبتها أو إمدادها في موقع المعركة، وكأنه يبعث بجنوده إلى الموت ليكونوا طعاما للقوات المُعادية المُتربٌصة بهم وهو ما حدث بالفعل حيث كانت مدافع الفرنسيين والبريطانيين تنتظر هذه القُوات الواردة لتحصُدها أولا بأوٌل دون أن تُمكٌنها من عبور قناة السويس.
ومع أن المواطنين المصريين كانوا حاضنة طبيعية كفيلة بأن تنصُر قوات الدولة العثمانية فإن جمال باشا لم يتٌصل بهم لا من قريب ولا من بعيد ولا هو ألٌف معهم أي تحالف جدي، ولا هو سلٌحهم بل بالعكس ترك الجنود المصريين يُساقون في الجيش الإنجليزي ليُكمٌلوا الأعداد المطلوبة للهجوم المكثف على القوات العثمانية في القدس وغير القدس، ولم يكن هؤلاء الجنود البُسطاء يعرفون أنهم يُحاربون ضد دينهم وضد وطنهم وإنما كانوا على أكثر تقدير يعرفون أنهم يُحاربون ضد السفٌاح الذي حكم سوريا بالحديد والنار وأعدم الوطنيين وقيٌد الحُرٌيات ونكٌل بالمشايخ والمُفكرين وعذٌبهم في سُجونه حتى الموت بل وأتمٌ مجزرتين من مجازر أحكام الإعدام العسكرية التي استهدفت المسلمين لتُبيد زعاماتهم الطبيعية في يومين مشئومين 4 أغسطس 1915 و6 مايو 1916 في بيروت ودمشق.
ومن العجيب أنه أعدم هؤلاء بحُجٌة تخابرهم مع البريطانيين والفرنسيين مع أنه بأفعاله وسياساته كان أكثر تدميرا للعلاقة العربية العُثمانية، أكثر إفادة للبريطانيين والفرنسيين، وقد بلغ الأمر بأحكام جمال باشا أنها كانت تصدُر بدون معايير أو إجراءات أو ضمانات وبدون هدف إلا زيادة العداوة والقضاء على كوادر القيادة الوطنية التي كان من المُمكن أن تُفيد الدولة العثمانية نفسها في حربها مع القوى الكبرى التي كانت تحشد كل ما تستطيع حشده من إمكاناتها ومعنوياتها على حد سواء.
شارك جمال باشا السفٌاح فيما عُرف تاريخيا بمذبحة الأرمن وهي الأحداث التي كانت نشازا في سياق العلاقات الإسلامية بالمُخالفين في العقيدة لكنٌها كانت تعبيرا مُتوقٌعا من العسكريين عن خلقهم كما شارك في كل إجرام عسكري شهدته فترة الحكم العسكري الانقلابي ما بين 1908 وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية 1918 حين اكتشف العثمانيون أن العسكريين الانقلابيين قد أوردوا الدولة العثمانية موارد التهلكة، وأصبح أداء هؤلاء الانقلابيين العسكريين أبرز مثل على أن الحرب لا ينبغي أن تُترك في أيدي العسكريين، فها هي الدولة التي قادها خلفاء تقليديون أوتوا حظا من الإسلام والوطنية والقيادة تُحافظ على نفسها ستة قرون كاملة حتى إذا ما تولٌاها العسكريون سقطت وتدمٌرت في تسع سنوات فقط.
بقي أن نشير إلى أن هؤلاء الانقلابيين كانوا يُسمٌون أنفسهم بالاتحاديين نسبة إلى جبهة الاتحاد والترقي، وهي تسمية مُخادعة دوما لا يتسمٌى بها إلا من يسعى إلى الخلاص من الوحدة من أجل الطائفيه.
(المصدر: مدونات الجزيرة)