القائد الإسلامي نور الدين زنكي وجهوده في التوحيد والتحرير (3)
“إعداد جيل النّصر والتمكين”
بقلم د. علي محمد الصلّابي (خاص بالمنتدى)
نور الدين محمود زنكي (رحمه الله)؛ الملك المؤمن العادل، وأحد أبرز القادة الفاتحين في تاريخ المسلمين، والذي عُرف بتقواه وإيمانه العميق بالله تعالى، وهِمته العالية، وحِكمته البالغة، وهو ما مَكَّنَه من تحقيق الخطوات الحاسمة في طريق النصر والتمكين، وإنهاء الخلافات والتمزق داخل البيت الإسلامي، وتوحيد مصر والشام وشمال العراق تحت راية واحدة وجيش واحد وهدف واحد، وتوسيع حركة تحرير بلاد الشام المحتلة من الغزاة الصليبيين، وقال عنه العلامة ابن كثير: “كان رحمه الله كثير المطالعة للكتب الدينية، متبعًا للآثار النبوية، محافظًا على الصلوات في الجماعات، كثير التلاوة، محبًّا لفعل الخيرات، عفيف البطن والفرج، مقتصدًا في الإنفاق على نفسه وعياله في المطعم والملبس، حتى قيل: إنه كان أدنى الفقراء في زمانه أعلى نفقة منه من غير اكتناز ولا استئثار بالدنيا، ولم يُسمَع منه كلمةُ فُحشٍ قطّ في غضب ولا رضى، صموتًا وقورًا” (البداية والنهاية، ج 12، ص278 – 279).
أولاً: من هو نور الدين محمود زنكي؟
من أعظم الملوك والقادة المسلمين الذين نَقشوا أسماءهم في ذاكرة التاريخ، وشهد له كل من عاصره أو قرأ سيرته؛ بجهاده وعَدله وزُهده، وثَباته على العقيدة الإسلامية الصافية، وتمسكه بكلمة الحق في مواجهة المفسدين والغزاة الطامعين، وحفلت سيرته بجهاد طويل ضد الصليبيين، وضد الدولة العُبيدية في مصر في سبيل نصرة الإسلام، ورفع رايته (نور الدين محمود زنكي، راغب السرجاني، 29/07/2010).
وقد وُلِدَ نور الدين محمود في مدينة حلب في يوم الأحد 17 شوال سنة 511هـ/ 1118م، وقد نشأ في كفالة والده عماد الدين زنكي (صاحب حلب والموصل)، تعلم القرآن والفروسية والرمي، وكان شهمًا شجاعًا، وهو ذو قصد صالح، وحرمة وافرة، وديانة بينة (ابن كثير: البداية والنهاية، ج12، ص277).
وعن منهجه في الحكم؛ اعتمد الملك العادل نور الدين محمود زنكي عند تولي الحكم على الحلولَ العقلية ذات الطابع الفقهي والعلمي في مواجهة المشاكل والأحداث، واضعاً نصب عينيه التعامل مع سنن الله في الأخذ بالأسباب (نور الدين زنكي ودوره القيادي في مواجهة الأزمات، علي محمد الصلابي، 01/06/2023م). ففي عام 552هـ، شَهدت الجهات الوسطى والشمالية من بلاد الشام زلازل عنيفة، تتابعت ضرباتها القاسية، فخرَبت الكثير من القرى والمدن، وأهلكت حشدا لا يحصى من الناس، وتهدمت الأسوار والدور والقلاع، فما كان من نور الدين إلاَ أن شمَر عن ساعد الجدِ، وبذل جهودًا عظيمةً في إعادة إعمار ما تهدم، وتعزيز دفاعاته. فعادت البلاد كأحسن مما كانت، ولولا أن الله منَ على المسلمين بنور الدين، الذي جمع العساكر، وحفظ البلاد، لكان دخلها الفرنج بغير قتال ولا حصار (نور الدين محمود، علي محمد الصلّابي، ص 18).
ثانياً: تولي نور الدين زنكي وترتيب البيت الإسلامي
كانت أولى المهام الملقاة على عاتق نور الدين زنكي توحيد البيت الإسلامي الداخلي في الدولة الزنكية.
- انقسام الدولة الزنكية بعد مقتل عماد الدين زنكي (الشهيد)
عندما قتل عماد الدين زنكي سنة 541هـ، كان ابنه الأكبر سيف الدين غازي مقيماً بشهر زور، وهي إقطاعة من قبيل أبيه. بينما كان نور الدين محمود وهو الابن الثاني لعماد الدين مع أبيه عند قلعة جعبر. وبعد أن شهد مصرع أبيه أخذ خاتمه من يده، وسار ببعض العساكر إلى حلب، فملكها هي وتوابعها في ربيع الآخر سنة 541هـ/1146م، وكان عمره ثلاثون سنة. كما كان مع زنكي أيضاً على قلعة جعبر الملك ألب أرسلان ابن السلطان محمود السلجوقي، وكان زنكي يظهر أنه يحكم البلاد باسمه مُنذ سنة 521هـ/1127م، حيث اصطحبه معه إلى الموصل بأمر من السلطان محمود.
وقد ذكر المؤرخون: أن الملك ألب أرسلان حاول أن يحل محل زنكي في ملك البلاد، وأن يُبعد أولاده عنها، فجمع العساكر، وأعدَّ العُدة للتوجه إلى الموصل، بقصد الاستيلاء عليها، ولكن الوزير جمال الدين الأصفهاني (البداية والنهاية، ابن كثير، ج١٢، ص71)، قام بدور كبير في الحفاظ على الدولة الزنكية، وإبقائها في أيدي أولاد صاحبه، وولي نعمته عماد الدين زنكي.
فما أن شعر بقصد الملك ألب أرسلان، حتى بادر بالاتصال بالأمير صلاح الدين محمد الياغسياني، حاجب عماد الدين متناسياً ما كان بينهما من خلاف، فاتفقا على حفظ الدولة لأولاد زنكي، وإبعاد الملك ألب أرسلان السلجوقي عنها، حيث أرسل الوزير جمال الدين إلى صلاح الدين الياغسياني، يقول له: «إن المصلحة أن نترك ما كان بيننا وراء ظهورنا، ونسلك طريقاً يبقى فيه الملك في أولاد صاحبنا، ونهر بيته جزاءً لإحسانه إلينا، فإن الملك (ألب أرسلان) قد طمع في البلاد، واجتمعت عليه العساكر، ولئن لم نتلافَ هذا الأمر في أوله، ونتداركه في بدايته؛ ليتسعن الخرْق، ولا يمكن رقعه»، فأجابه صلاح الدين إلى ذلك، وحلف كلُّ واحد منهما لصاحبه، وكان أول عمل قام به جمال الدين، وصلاح الدين أَنْ أرسلا رسولاً على وجه السرعة إلى زين الدين علي كُجَك نائب زنكي في الموصل، يخبراه بما حصل لزنكي، فسارع سيف الدين غازي للحضور من شهرزور إلى الموصل لتسلم الحكم فيها، وتسلمها قبل أن يتمكن ألب أرسلان السلجوقي من الوصول إليها، أما الملك ألب أرسلان السلجوقي، فقد تكفَّل الوزير جمال الدين الأصفهاني بإلهائه وإبعاده، ريثما تستتب الأمور لسيف الدين غازي في الموصل، وظلَّ يتنقل من مكان إلى آخر في الجزيرة، حتى تفرق معظم أصحابه عنه، ثم اِتجه إلى الموصل فقُبض عليه، وأودع السجن، ولم يأت له ذكر بعد هذا التاريخ (الحياة العلمية في العهد الزنكي،إبراهيم المزيني، ص42).
وهكذا انقسمت الدولة الزنكية بعد مقتل مؤسسها عماد الدين، بين ولديه سيف الدين غازي، الذي حكم الموصل والجزيرة، ونور الدين محمود الذي حكم مدينة حلب، وما جاورها من مدن الشام. أما أخوهما نصرة الدين أمير أميران، فقد حكم حرَّان تابعاً لأخيه نور الدين محمود، في حين كان الأخ الرابع قطب الدين مودود، لا يزال في رعاية أخيه سيف الدين غازي بالموصل. وكان نهر الخابور هو الحد الفاصل بين أملاك الأخوين، وأدَّى الوضع الجغرافي الشرقي إلى أن:
- يرث غازي الأول المشاكل الداخلية مع كلٍّ من الخلافة العباسية، والسلطنة السلجوقية في بلاط بغداد في العراق.
- يحمي ثغور الإمارة الشمالية من تعديات سلاجقة الروم، والداشمنديين والبيزنطيين في آسيا الصغرى.
أما في القسم الغربي؛ فقد ورث نور الدين محمود المشكلتين الكبيرتين الممثلتين بأتابكية دمشق، والإمارات الصليبية المنتشرة في مختلف بلاد الشام (المرجع نفسه، المزيني، ص44).
- ترتيب أوضاع البيت الزنكي
كان من الطبيعي أن تنشأ بين البيتين الزنكيين في كلٍّ من الموصل وحلب علاقات وثيقة، بفعل الروابط الأسرية من جهة، واشتراك آل زنكي عامة بهدف واحد، وهو الجهاد ضد الصليبيين في بلاد الشام. وكانت حلب تشكل بالنسبة للموصل خط الدفاع الأول، وصمَّام الأمان ضدَّ أيِّ خطر تتعرض له، فنشأت نتيجة لذلك علاقات جيدة بين سيف الدين غازي الأول صاحب الموصل، وأخيه نور الدين محمود صاحب حلب، ثم بين الأمراء الذين توالوا على حكم الموصل بعد غازي الأول.
إلا أن هذه العلاقات الودية القائمة على التعاون والدفاع المشترك شهدت في بعض الأوقات فتوراً وتوتراً، إذ كان لا يلبث أن يتلاشى لتعود المحبة والألفة من جديد، فبعد استقراره في الموصل والجزيرة وبعض مناطق بلاد الشام كحمص، والرحبة، والرقة، كان على سيف الدين غازي الأول أن ينسِّق مع أخيه نور الدين محمود في حلب، ويتعاون معه لاستكمال سياسة والدهما القاضية بالتصدي للصليبيين، مُدركاً في الوقت نفسه أهمية هذا التعاون خشية أن يستغل أعداء الأسرة، فرصة انقسام الإمارة الزنكية لمهاجمتها، بالإضافة إلى الظهور، بمظهر القوة أمامهم ، لذلك رأى ضرورة الاجتماع بأخيه بين وقت واخر لتسوية ما قد ينشأ بينهما من أزمات داخلية ، بسبب توزيع الإرث الزنكي (تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام، محمد سهيل طقوش، ص170).
دفعت هذه العوامل سيف الدين غازي الأول إلى الإلحاح على أخيه نور الدين محمود للاجتماع به، وتسوية الأمور بينهما، وقد تصرَّف صاحب الموصل بحكمة لإزالة أسباب التوتر، كما أنه لم يعارضه عندما استولى على الرُّها، والتي كانت تدخل في منطقة نفوذه، بعد محاولة جوسلين الثاني استردادها من أيدي المسلمين في أواخر عام541هـ/ 1147م، والواقع: أنه أرسل قوة عسكرية لمساندة أخيه لإنقاذ الرُّها، ولكنها وصلت بعد أن نجح نور الدين محمود في استعادتها، وأخيراً حصل اللقاء بين الأخوين في الخابور.
وفي هذا الاجتماع، اعتذر نور الدين محمود لأخيه عن تأخره في الحضور، وأظهر له الطاعة والاحترام من جهته، ولشدة حذر نور الدين اشترط أن يكون الاجتماع ومع كلٍّ منهما خمسمئة فارس، فقبل سيف الدين، وخرج نور الدين؛ ومعه خمسمئة فارس، فرأى أخاه سيف الدين، وليس معه إلا خمسة فرسان، فتأكد من حسن نيته، واقتربا، وتعانقا، وبكيا. وقال له سيف الدين من لي غيرك يا نور الدين، ولمن أدخر الخير إن أسأت إلى أخي، وهدأت الأمور بين نور الدين وأخيه، وسكن روعه، وعاد إلى حلب، حيث جمع عساكره، ثم عاد للاستقرار في كنف أخيه، ووضع نفسه تحت تصرفه، إلا أن سيف الدين غازي الأول أمره بالعودة إلى بلاده، وقال له: «لا غرض لي في مقامك عندي، وإنما غرضي أن تعلم الملوك والفرنج اتفاقنا، فمن يريد السوء بنا يكف عنا». فلم يرجع نور الدين ولزمه حتى قضيا ما كانا فيه، وعاد كل واحد منهما إلى بلده (البداية والنهاية، ابن كثير، ج١٢، ص87).
واستطاع سيف الدين، ونور الدين أن يحلا المشاكل التي بينهما، وتعاونا في مسيرة التحرير، واشتركت عساكر الموصل جنباً إلى جنب مع عساكر الشام في الجهاد ضد الصليبيين، وذلك في الدفاع عن دمشق ضدَّ الصليبيين؛ الذين حاصرت قواتهم المدينة في الحملة الصليبية الثانية عام 543هـ/1148م، ونجحت قواتهم في حمل الصليبيين على الرحيل عن دمشق.
ومن مظاهر التعاون أيضاً؛ اشتراك عساكر الموصل مع عساكر نور الدين في فتح حصن العُريمة ، وطرد الصليبيين منه، كما كان من مظاهر التعاون بين الأخوين اشتراك عساكر الموصل مع قوات حلب في هزيمة الصليبيين في إنِّب ، وفي فتح أفامية سنة 544هـ/1149م (مفرج الكروب في أخبار بني أيوب، جمال الدين واصل، ص116).
إلا أن العهد لم يطل بسيف الدين غازي حيث توفي بالموصل في جمادى الآخرة من سنة 544هـ/1149م بعد أن حكم الموصل ثلاث سنين وشهراً وعشرين يوماً، ودفن بالمدرسة التي بناها بالموصل، وخلَّف ذكراً رباه عمه نور الدين محمود وزوَّجه ابنة أخيه قطب الدين مودود بن زنكي، ثم توفي ولد سيف الدين شاباً، وانقرض عقبه (المرجع نفسه، مفرج الكروب، ص116).
تولى قطب الدين مودود زنكي إمارة الموصل، وتعرضت العلاقات بين الموصل وحلب في بداية حكمه لأزمة خطيرة، كادت تؤدي إلى اندلاع الحرب بين الأخوين، لولا أن قطب الدين تدارك الأمر، ووضع حدّاً لنزاعه مع أخيه نور الدين، ولكن رغبة نور الدين في توحيد الجبهة الإسلامية جعله يقطع الفرات متجهاً إلى سنجار فاستولى عليها، وكان رد الفعل عنيفاً في الموصل بعد دخول نور الدين سنجار؛ إذ انزعج قطب الدين وأمراؤه المخلصون وعدُّوا ذلك اعتداءً مباشراً عليهم على اعتبار أن سنجار تابعة لهم، فتجهز قطب الدين ، وخرج بعساكره نحو سنجار، فنزل بتل يَعفُر، وأرسل جمال الدين الوزير، وزين الدين كجك أمير الجيش إلى نور الدين كتاباً ينكران عليه إقدامه على أخذ سنجار ، واعتداءه على أملاك أخيه قطب الدين مودود، وهدداه بقصده؛ إن هو لم يرحل عن البلد ، ولكن نور الدين لم يلتفت لتهديدهما وردَّ عليهما بقوله: «إنني أنا الأكبر، وإني أحق أن أدبِّر أمر أخي له منكم» (زبدة حلب، ابن العديم، ج2، ص 296).
أدرك الوزيران جمال الدين محمد، وزين الدين علي ما ينطوي عليه هذا الرد من أخطار، فأشارا على قطب الدين مودود بمصالحة أخيه، والتنازل عن بعض المواقع في الشام، والتي كانت تتبع للموصل مثل حمص، والرحبة، والرقة، مقابل انسحاب نور الدين من سنجار، والعودة إلى حلب. فوافقهما قطب الدين، وتمَّ الاتفاق بين الأخوين، وانسحب نور الدين محملاً بالكنوز التي كانت بخزائن سنجار من أيام حكم والده.
وقد بلغت العلاقات بين الأخوين درجة من التحسُّن جعلت نور الدين يقوم في عام 554هـ/1159م يعقد العزم على اختيار أخيه قطب الدين ليخلفه في حكم بلاده، عندما أحسَّ بضعفه ومرضه، وقد أوفد نور الدين إلى أخيه قطب الدين وفداً يخبره بالموقف، وباتفاق الأمراء على توليته العهد بعده، وطلب إليه الحضور بعساكره إلى الشام، فلما خرج قطب الدين مودود على رأس جيشه من الموصل؛ وصلته الأخبار بتحسن صحة أخيه نور الدين، وقيامه من مرضه، فأقام قطب الدين حيث هو، وأرسل وزيره جمال الدين محمد لمقابلة نور الدين محمود، والوقوف على تطورات الموقف هناك، فوصل الوزير دمشق سنة 554هـ/1159م، واجتمع مع نور الدين، وأبلغه استعداد قطب الدين، ووضع إمكانياته في خدمته، فشكره نور الدين على ذلك، وعبَّر له عن شكره لمشاعر أخيه قطب الدين مودود (أخبار الدولتين النورية والصلاحية، شهاب الدين المقدسي، ص50).
ثالثاً: نور الدين زنكي: خطوات الإصلاح والتغيير
إن السرَّ في شخصية نور الدين محمود زنكي هو شعوره بالمسؤولية والأمانة في قيادة الأمة الإسلامية، وخوفه من محاسبة الله له، وإيمانه باليوم الآخر، وحرصه على تحرير البلاد من الصليبيين، وكان هذا الشعور سبباً في التوازن المدهش، والثقة، والعزيمة، فقد كان على فهم صحيح لدور الحاكم المسلم، واعتمد في إدارته لدولته على إيمانه وعدله، واهتمامه بالعلم والعلماء، وحشدَ أهل الرأي من ذوي العلم والخبرة في أمور الفقه والسياسية والقيادة، وكان لديه حنكة كبيرة في إدارة شؤون الرعية والبلاد.
- نور الدين زنكي، ومنهجه في بناء العقيدة الصحيحة والإصلاح التربوي
ألهم الله تعالى، قادة الأمة من أمثال نور الدين محمود إلى إدراك دور العقيدة الصحيحة في تحقيق النصر، وأن الأمة بدونها تتحول إلى قطيع من الأغنام لا تقوى على شيء، ولذلك فإن أول ما بدأت به عملية التغيير والإصلاح والتجديد عند نور الدين محمود هو إعادة بناء العقيدة في النفوس، وصياغة الإنسان المسلم على التوحيد الخالص، بتجديد العقيدة في نفوس الناس، وإزالة كل ما علق بالنفوس من بدع وعقائد فاسدة، ولذلك راحوا يواجهون التحديات الباطنية في إفساد العقائد الإسلامية بنشر العقيدة الصحيحة عن طريق مؤسسات تُجسد العقيدة في النفوس، وواقع الحياة اليومية عن طريق التعليم الإسلامي النقي في عدد من المدارس والمساجد تم إنشاؤها، وإعدادها، لهذا الغرض قام بالتدريس فيها صفوة من علماء الأمة وخيرة مفكريها، وقد كان للسلاجقة في ذلك الوقت دورًا هامًا في إنشاء المدارس على مذهب أهل السنة والجماعة والعقيدة الصحيحة، ومنها على سبيل المثال المدارس النظامية (التي أسسها الوزير السلجوقي نظام الملك)، حيث واجهت الدولة السلجوقية ورجالها العظام الخط الشيعي “العبيدي” الذي انتشر في مختلف البقاع الإسلامية، وخصوصاً في مصر والشام.
تحرك نور الدين في مشروعه من خلال بناء ودعم مؤسسات المجتمع المدني،كالكتاتيب والمدارس والمساجد والوقفيات الخيرية والتربوية، وبناء الرباطات، وأخذ بكل الأسباب المادية والمعنوية التي تعينه على تحقيق الهدف المنشود من صبغ الدولة النورية ورعايا الدولة من المسلمين بالكتاب والسنة، ولاشك هذا يدل على أهمية التربية العقدية والفكرية والثقافية في التمكين للإسلام الصحيح في نفوس الناس، ومما ساعد نور الدين محمود على تحقيق برنامجه الإصلاحي أن جهوده جاءت مكملة لجهود المدارس النظامية، فانتفع بما حققته من نتائج، وفي مقدمتها تخريج جيل يحمل على عاتقه مهمة الدعوة للمذهب السني، والانتصار له.
شهدت جميع المجالات والميادين في زمنه ازدهاراً ونضجاً وتنظيماً، بالإضافة إلى أنه حفظ المشروع الإسلامي النوري من التصدع والزوال، وما كان للدبلوماسية النورية أن تنجح لولا الله وتوفيقه، ومن ثم مساندتها بقوة عسكرية ضاربة، استطاعت مواجهة التحالف العسكري البيزنطي – الصليبي، وتمكن ومن خلال جهود، وتجهيزه، وهدفه الإستراتيجي النهضوي، وحنكته السياسية، ودهائه العسكري من توحيد قلب العالم الإسلامي، تحت لواء الإسلام، ودمجها، وطرد الغزاة منها (الدولة الزنكية، علي الصلابي، ص331).
- نور الدين زنكي: اهتمامه وعنايته بالعلماء
استطاع نور الدين زنكي أن يستغل بذكاء مواهب العلماء البارزين في عصره، ويستعين بهم في دعم المذهب السني ، وكانت شخصيته من أهم العوامل التي ساعدته على النجاح في المهمة التي سعى إلى تحقيقها، ومن الصفات التي كان يمتاز بها أيضًا هي ثقته المطلقة بالعلماء، حيث كون مجلسًا عامًا يُشرف على العملية التعليمية، والصياغة التربوية، يضم أهل الحل والعقد، وكبار العلماء المخلصين، والقادة العسكريين، والفقهاء العاملين، وكان نور الدين أحد أعضاء هذا المجلس الأعلى الذي يُشرف على التخطيط العام والشامل؛ وكان يجلس مع العلماء والشيوخ يتدارسون الأمور إلى ما يحقق المصلحة الإسلامية، ورسم هذا المجلس الأعلى للتخطيط والتنسيق بين السياسات العامة الواجب اتباعها نحو إعداد الأمة الإسلامية كلها إعداداً جديداً، وبنائها بناءً سليماً على المنهج النبوي والراشدي (الدولة الزنكية، علي الصلابي، ص331).
- نور الدين محمود: تأسيس المدارس وشمولية التعليم
أدرك نور الدين زنكي، ضرورة تأسيس عشرات المدارس، ونشر التعليم الإسلامي في جميع أنحاء البلاد، كما قرر بناء مئات المساجد للقيام بواجب التزكية والتحلية بالفضائل، والتخلي عن الرذائل، واستقدم آلاف العلماء، والمربين المشهورين للقيام بواجب التدريس في المدارس، والتوجيه في المساجد، وكان العلماء في عهده لهم دور بارز في ذلك، وهم من خريجي المدرستين الغزالية والقادرية، ولم يكن التعليم لدى دولة نور الدين مجرد نشاط أكاديمي يستهدف توفير الموظفين والمهنيين، وإنما كان بالدرجة الأولى نشاطاً عقائدياً استهدف إعادة صياغة الجماهير المسلمة بما يتفق وأهداف الإسلام، والحاجات القائمة، وقد أعطت الإستراتيجية الزنكية أهمية خاصة لتعليم كافة مواطني الدولة من عمال ومزارعين وصغار كسبة، من الكبار والصغار والرجال والنساء، وتأسست الخطة على تعليم الجميع أصول العقيدة السنية، وأركان الدين، والقيم والمبادئ الإسلامية.
- التعليم مواجهة للمذاهب الهدامة، وركيزة من ركائز جهاد النفس والعدو في عهد نور الدين
عمدت الخطة الحكيمة لنور الدين زنكي على تعرية المذاهب الهدامة والفرق الضالة، وأبانت عن خطرها وضررها على النفس والمجتمع والأمة، وأن لا خروج من المحنة ولا خلاص من الضياع إلا بالعودة إلى روح الدين النقية في صورتها الأولى، والتزمت الدولة الزنكية بالإسلام عقيدة وعملًا ومنهجًا والتزمت بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة للجميع، فأصلحت ما يمكن إصلاحه، ونشرت السلوك الإسلامي وفق منهج أهل السنة والجماعة إلى جانب المدارس والمساجد، في التوجيه والإرشاد والتعليم والتهذيب حسب الخطة العامة للدولة، وتحت إشراف المجلس التعليمي الأعلى. وقد وجه التعليم الإسلامي عنايةً خاصةً لإعداد الأمة كلها للجهاد بكافة أنواعه من الإعداد المادي والمعنوي، وتربية النفوس ومجاهدتها لنيل رضا الله، ومجاهدة الشيطان، والجهاد بالمال والنفس، وتربية الإرادة القتالية عند جميع أفراد الأمة دون أن يقتصر ذلك على طائفة دون أخرى، بالإضافة إلى طائفة مختصة عنت الدولة بإعدادها إعدادًا قتاليًا خالصًا، وتدريبها تدريبًا عسكريًا متميزًا يجعلها تتفوق على ما عند الأعداء (الدولة الزنكية، الصلابي، المرجع السابق، ص332).
انتصر نور الدين على نفسه، قبل أن يواجه أهله ورعيته بسياسته التقشفية، فاستطاع بإيمانه القوي أن يتجرد من أهواء الدنيا، ومغريات الملك، ومظاهر البذخ والترف، وألزم نفسه بالعيش المتواضع دون أن يفقد شيئًا من هيبة السلطان، وقوة الحكم، كما أثمرت جهود نور الدين وقيادته الحكيمة في بناء مجتمع تكافلي في بلاد الشام، وصار التعاون والتراحم والمودة والمواساة سمات بارزة في المجتمع، وبذل من البذل الكبير سعيًا منه إلى إنشاء جيل جديد سليم العقيدة صحيح المنهج، والتفكير، ومستعداً للمهمة الكبرى بعد التمكين وهي التحرير والنصر على الغزاة الطامعين.
كان نور الدين محمود زنكي مثلاً أعلى، وقدوة حسنة في الذكاء السياسي، والإقدام العسكري، والعدل بين الناس، والإحسان للمستضعفين، وكان منهجه قائم على على العدل بين الناس، وقد نجح في ذلك على صعيد الواقع والتطبيق نجاحاً منقطع النظير، حتى اقترن اسمه بالعدل، وسمي بالملك العادل. وكان من أسباب نصر الله تعالى لهذا الملك العظيم على الصليبيين، وتوحيد قلب العالم الإسلامي تحت قيادته؛ تمسكه بالعقيدة التوحيدية النقية، ودفاعه عن شرف الأمة وعزها، وتحقيقه للعدل بين الرعية، ورد الحقوق إلى أهلها، وإنصاف المظلومين، وهو ما بعث في الأمة الإسلامية روح العزة والكرامة والإباء والمقاومة والتمكين، وأسس جيلاً مؤمناً بعقيدته ومبادئه الإيمانية ورسالته الحضارية، ومتعلماً، وقوياً، وقد دوّن التاريخ اسم نور الدين محمود زنكي كقائد إسلامي مجاهد وعادل، ازدهرت دولته، وارتفعت منزلة المسلمين بعد أن قادهم في طريق التمكين والتحرير والنصّر.
المصادر والمراجع
- أخبار الدولتين النورية والصلاحية، شهاب الدين المقدسي. تحقيق: إبراهيم الزيبق، دار الرسالة، بيروت، ١٩٩٧م، ج١.
- البداية والنهاية، ابن كثير، دار ابن كثير، بيروت، 2012م، ج12.
- الدولة الزنكية، علي محمد الصلابي، دار المعرفة، بيروت، لبنان، ط1، 2007.
- زبدة الطلب في تاريخ حلب، ابن العديم، خليل منصور، دار الكتب العلمية، ١٩٩٦م.
- الملك العادل نور الدين محمود موحد بلاد الشام ومصر في وجه الصليبيين، زلماط إلياس، مجلة العبر للدراسات التاريخية والأثرية، المجلد 4، العدد 1، 2021.
- نور الدين الزنكي شخصيته وعصره، علي محمد الصلابي، مؤسسة اقرأ للنشر، القاهرة، ط1، 2007.
- نور الدين زنكي ودوره القيادي في مواجهة الأزمات، علي محمد الصلابي، شبكة الجزيرة نت، 01/06/2023م.
- نور الدين محمود زنكي، راغب السرجاني، موقع قصة الإسلام، 29/07/2010.