الفقيه بين سُلطتين
بقلم عمر السنوي الخالدي (خاص بالمنتدى)
مِن فقه المقاصد الشرعية أنّ الشرع الإسلامي الحكيم خَصَّ الحاكِم وذي السلطان من أهل الإسلام بطريقةٍ معيّنةٍ في الإنكار عليه وتقديم النصيحة إليه، من أجْل عدم إثارته وزبانيته على أهل الإصلاح فيُعاديهم، ومن أجْل الحفاظ على أمن البلاد من تهييج الغوغاء، ومن أجْل عدم إسقاط هيبته أمام الرعيّة، فيبقى له حق الطاعة بالمعروف…
وهذه الطريقة في المعاملة ليسَت خاصًّةً بالحاكم وذي المُلك والسلطان، وإنما هي عامّة في كلِّ مَن يشبه حاله، حيث تُراعَى معه قاعدة “الترجيح بين المصالح والمفاسد”، وما يندرج تحتها من تفاصيل يعرفها الأصوليون.
ولَئِنْ دعا العلماءُ والمصلحون إلى هذه المنهجية في الإصلاح ومارَسوها، لتخليص الناس من شرورٍ قد يصيرون إليها إنْ هم خالفوا ذلك، فإنّ هذا لا يعني أن يتحوّلوا إلى صدى أبواق السلطان، أو كتائبَ دفاعٍ عنه، أو أدوات تسويغ لأفعاله وأقواله، أو مَآذِن يعلو منها صوت المدائحِ والثناءِ في الصغيرة والكبيرة، ولا سيما في ظروفٍ تكتوي فيها الرعية بنار الظلم من ذوي السلطة، ناهيك عن كون السلاطين -في مُسَلَّماتِ الناس- أنَّهم مِن عُمَّال المستعمِر القديم الجديد.
وعليه؛ فالنظرة الفقهية المقاصدية تستدعي الحذَر والتأمّل والتفكّر، في التصريح والتوجيه والتعامل، فلم يَعُد السلطان ولا قَبِيلُهُ بأولى من الرعيّة في اعتبار الحال، وبخاصةٍ في زمننا الذي سادت فيه فكرة “الديمقراطية: حاكميّة الشعب” بمُوافقة الحكومات نفسِها، حيث غدت أصوات الشعوب معتبَرة في الأوساط العالمية قبْل المحليّة، وصارت سلطة الرعية مَرعيَّة، والفقيهُ مَعنيٌّ باعتبار هذا الواقع، والنظر إلى المآلات بدقة، لا إلى ما يظنه مآلًا دون دراسة توسّعية عميقة جماعيّة، دراسة تستوعب: نصوص الشرع، ومجريات التاريخ، وعِلم الحاضر، ورؤية المستقبل. كي لا يكون حال الفقيه اليوم كما جاء في المَثَل أنّ رجُلًا اضطر إلى اختيار مفسدة من مفاسد ثلاث لينجو بنفسه، فنظر إلى تلك المفاسد (القتل والزنا والخمر) فاختار ما ظنَّهُ أخفّها وهو الخمْر؛ فسكر؛ فزنا وقتَل! وهكذا اليوم نرى بعض أمثاله ممن يزعمون الحكمة وموازنة المصالح والمفاسد!
سلطة الرعيّة اليوم صارت تؤدي إلى تقرير مصير هؤلاء الفقهاء والمصلحين، فإما أن يُرفَعوا فوق الرؤوس، وإما أن يُسقَطوا في الحضيض، فتتلاشى جهودهم في الهواء، وتُضرب أقوالهم عرض الحائط، بل قد تنعكس بعض مجهوداتهم الإصلاحية لتؤدي إلى مفسدة أكبر من التي تنادَوا لإصلاحها بزعمهم.
والمفاسدُ المترتبةُ على هذا المصير خطيرةٌ جدًا؛ فمِن أشَدِّها خطرًا: عزوف الناس عن الدين الصحيح بسبب مَوقِفهم التشكيكي من الفقهاء والمحسوبين على الدين، فيخلو الجوّ تمامًا لدعاة الفساد الديني والأخلاقي والفكري… وهو نفسه الفساد الأدبي الذي عبّر عنه محمود شاكر في كتابه الشهير “رسالةٌ في الطريق إلى ثقافتنا”، وهي ذاتها الرسالة التي أبرَزَ فيها مؤلِّفُها نموذجًا تاريخيًا لحكاية عصرِ النهضة الإسلامية بزمنها الحقيقي حين بداية ضعف السلطنة العثمانية في القرن الحادي عشر الهجري = السابع عشر الميلادي؛ فقد ضَرَب مثالًا بموقف علماء الدين في مصر آنذاك من السلاطين -من جهة- ومن الرعيّة -من جهة أخرى-، فلْتُراجَع الحكاية كاملة في تلكم الرسالة، ولا سيما (ص126-130)؛ ففيها تجربة مفيدة، لا يتسع المقام لسردها ههنا.
ليس في هذا التنبيه دعوةٌ إلى مداهنة الناس، ولا مجاراة الدهماء، ولا التحوّل إلى الطرف الآخر فيغدو المُصلِح بوقًا من أبواق العامّة على مبدأ “ما يطلبه المستمعون”، وإلا فما فائدة أن يُسمّى مصلِحًا وهو لا يَقدر على تقديم الإصلاح إلا ما يصدر عنه مِن أقوالٍ مزخرفة يعارِض بها السلاطين لإرضاء الجماهير!
إنما المطلوب الآن: الحكمة، والوعي، وتحقيق مصالح الدين.
فأما تحقيق مصالح الدين، فمِن أوّليّاتها: حفظ الضروريات الخمس التي مدارُها على الإنسانية، أي أنْ يكون “الإنسان” على رأس قائمة اهتمامات المصلحين والمفكّرين والعلماء، بعيدًا عن المصالح الذاتية والمنافع الآنية.
وأما الوعي، فعلى الفقيه أن يكون على درجة من الوعي بحيث يسيطر عليه الشعور بالمسؤولية، فـ”كلّكم مسؤولٌ” -كما جاء في الحديث-؛ لِيَعقبَ هذا الشعورَ حَمْلُ المسؤوليةِ فعلًا لا مجرّد دعوى يتغنى بها في المحافل أو في المقالات والكتب. وهي مسؤولية تجاه الأمة كلها -بحسب القدرة والمستطاع-، لإصلاح الراعي والرعية، وهي مسؤوليةٌ ناتجة عن وَعْيِ الفقيهِ بمَواضِع قدَمِه، وأنّه حلقة في سلسلة يحرص أشد الحرص على أن لا تُؤتى الأمّةُ مِن قِبَلِه، فَيَعِي صلاحيّةَ إمكانيّاته، وإمكانيّةَ صلاحيّاته، ويسعى في تطوير كلتيهما.
وأما الحكمة، فعلى الفقيه أن تبلغ به الحكمة بحيث يراعي السلطة الّتي تتمتع بها الجماهير، تلك الجماهير التي إنْ تحرّكتْ بطريقةٍ صحيحةٍ فإنّها ستكون قادرة على رَدِّ مظالِمها، والأخذ بحقوقها الواجبة لها في ذمة السلاطين والحكّام، وتكون قادرة على إصلاح وِزارات الدولة ودوائرها؛ فلا يليق بالفقيه أن يغفل عن ذلك، بل عليه أن يكون سنَدًا لهؤلاء الجماهير، يأخذَ بأيديهم ويعلِّمَهم ويضبطَ انفعالاتِهم ويمثِّلَهم في المَحافِل التي يجتمع فيها بالحُكَّام. ولا يليق بالفقيه أن يكون في صفٍّ غير صفِّ الرعية الّتي هو منها، فإنه إن خرَجَ أو أُخرِج من هذا الصفّ، فلن يكون في صفّ الحكّام والسلاطين، لأنه مستغنًى عنه، فالكلمة ليست إليه ليتقوّى به السلطان، فكان كمن “ضيَّعَ المَشيتَين!”، فلا إلى الرعية ولا إلى الحكّام، أما في الآخرة فحسابه على عزيزٍ ذي انتقام.