الغرب يطالب طالبان بالدخول في حكم المسيحية الليبرالية
بقلم حسن أبو هنية
غزت الولايات المتحدة الأمريكية أفغانستان الطالبانية في السابع من تشرين أول/ أكتوبر 2001، وسرعان ما أصدرت الولايات المتحدة شهادة وفاة الإمارة الإسلامية، وبعد نحو عقدين من الحرب سقطت كابل في أيدي طالبان في 15 آب/ أغسطس 2021 دون مقاومة تذكر، وبرهنت الأحداث المتعاقبة على أن حياة “الإمارة” أطول من عمر “الإمبراطورية”، وقد عبّر الرئيس الأمريكي جو بايدن في خطابه في اليوم التالي تحت وقع الصدمة عن صواب سيرورة التاريخ الأفغاني، عندما أكد على أن أفغانستان “مقبرة الإمبراطوريات”.
إن عودة نظام الإمارة الإسلامية التي عاد علمها ليرفرف فوق القصر الرئاسي هو هزيمة سياسية وإيديولوجية كبرى للإمبراطورية الأمريكية، التي صُدمت بالطريقة التي سيطرت من خلالها حركة طالبان على البلاد بأقل من عشرة أيام، فالسرعة التي انهارت بها قوات الجيش والأمن الأفغاني البالغ قوامها 300 ألف جندي دون قتال يُذكر كانت مذهلة، حيث رفض معظم الجنود القتال وهرب بعضهم إلى دول الجوار وسلّم آلاف الجنود انفسهم للحركة، وانضم آلاف آخرين منهم إلى طالبان، وسرعان ما انهار النظام الذي توج بفرار الرئيس الأفغاني أشرف غني من البلاد واستقراره في دولة الإمارات.
أحد أكثر المفردات تداولاّ لوصف عودة الإمارة الإسلامية وخروج الإمبراطورية الأمريكية من أفغانستان، هي “الإذلال”، حيث تواترت عبارة “هزيمة مذلة” في معظم التحليلات والتعليقات، فبحلول الذكرى العشرين لـ”الحرب على الإرهاب” التي كان من المفترض أن تشكل مدخلاً لتفرد الإمبراطورية الأمريكية وهيمنتها العالمية عقب انتهاء الحرب الباردة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك المنظومة الاشتراكية، فإن حرب الإرهاب أعادت تشكيل العالم على نحو مغاير للمخيلة الإمبراطورية الأمريكية الجامحة، وأفسحت المجال لصعود قوى وإمبراطوريات بديلة أخرى في مقدمتها التنين الصيني، ولم تكن الهزيمة المذلة في أفغانستان مقتصرة على الإمبراطورية الأمريكية بل على كافة ركاب قاطرة حرب الإرهاب، من الدول الأوروبية وخصوصاً بريطانيا التي تماهت مع السياسات الأمريكية دون مساءلة، وهذه الدول تشعر اليوم بمرارة من الذل مضاعفة، وتبدو أكثر اضطراباً وارتباكاً وتبرماً حيال الحدث الأفغاني، وتكشف عن مواقف متخبطة ومتوترة تجاه إمارة طالبان ومستقبل أفغانستان.
تشعر الدول الأوروبية بمرارة الهزيمة والعجز أكثر من الولايات المتحدة الأمريكية، فقد طالبت مراراً بمراجعة اتفاق الانسحاب، لكنها أظهرت في الوقت نفسه عدم قدرة قواتها على البقاء وحدها دون الوجود الأمريكي، الأمر الذي يكشف عن تبعيتها وعدم استقلال أمنها القومي، وقد أدركت الولايات المتحدة منذ زمن أن تحقيق نصر عسكري على طالبان غير ممكن، ولم يكن أمام بايدن أي خيار آخر سوى الانسحاب دون تحقيق أي إنجاز كيفي يذكر، لا في مجال الأهداف التحررية المزعومة المتعلقة بإرساء الحرية والديمقراطية، والمساواة في الحقوق للمرأة، ولا في نطاق القضاء على طالبان ودحر الإرهاب، وهو ما سيبرره الرئيس بايدن بالقول أن هدف “يناء الأمة” لم يكن على جدول أعمال الغزو أصلاً.
لم يكن الرئيس جو بايدن سوى حلقة في سلسلة الرؤساء الذين توصلوا إلى قناعة باستحالة تحقبق نصر عسكري في أفغانستان، لكنه كان الرئيس الأكثر واقعية وبراغماتية الذي صادق على الإنسحاب تحت مسمى عملية السلام التي بدأها ترامب، وبدعم كامل من وزارة الدفاع “البنتاغون”، والتي توجت باتفاق “الدوحة” الذي أبرم في شباط/ فبراير 2020 بحضور الولايات المتحدة وطالبان والهند والصين وباكستان، والذي جاء عقب قناعة راسخة لدى المؤسسة العسكرية والأمنية الأمريكية بأن الغزو قد فشل فشلاً ذريعاً، لاستحالة كسر وإخضاع طالبان عسكرياً مهما طال الزمن، وقد أكد بايدن على هذه الحقيقة الراسخة ببساطة في خطاباته الثلاثة التي جاءت بعد سيطرة طالبان على كابل.
كان بايدن محقاً عندما أكد أن “بناء الأمة” لم يكن من أهداف الغزو الأمريكي لأفغانستان، وهو شأن كافة الإمبراطوريات الإمبريالية الكولونيالبة التاريخية القديمة، إذ لم تكن تلك الأهداف النبيلة سوى رطانة ودعاية سمجة، ومع ذلك فإن وسائل الإعلام الأمريكية والأوروبية وذيولهما لا تزال تصر على خسارة تلك المكتسبات المفترضة، ويبدو ذلك منطقياً حسب مجلة “ناشيونال إنترست” فقد كان العالم يتعاطى جرعةً متواصلة من “إنجازات الغرب” فيما كان يسميه “بناء الأمة” داخل أفغانستان.
ومن وجهة نظر الغرب، فقد اجتازت أفغانستان محنتها بفضل “تدخلهم” في البلاد، ولم يتوانَ دعاة هذه الرواية عن تذكيرنا بـ”التقدم المذهل الذي حققه الأفغان في ما يتعلّق بتبنّي النظام الليبرالي الديمقراطي”، بل طلبوا منا، في حال واجهت تلك القيم الجديدة أي تحديات، التصديق بأنّ قوات الشرطة والجيش الأفغاني لديهم القدرة على التصدي لأي معارضة بكل “شجاعةٍ وحماس”، ولكن تبيّن أنّ تلك الشعارات الليبرالية الرنانة كنت مجرد مظاهر فارغة تخفي في طياتها وضعاً لم يتغيّر فعلياً على الأرض في أفغانستان.
الحقيقة هي أنه على مدى عشرين عاماً، حسب الكاتب والمؤرخ البريطاني من أصل باكستاني طارق علي فشلت الولايات المتحدة في بناء أي شيء قد يشفع لمهمتها، فقد كانت المنطقة الخضراء المضاءة ببراعة محاطة دائماً بظلام لا يمكن للمقيمين إدراكه.
في واحدة من أفقر دول العالم، أُنفقت المليارات سنوياً على تكييف الهواء في الثكنات التي تأوي جنوداً وضباطاً أمريكيين، ولم يكن مفاجئاً أن ينشأ حي فقير ضخم على أطراف كابل، حيث كان الفقراء يتجمعون للبحث عن الفضلات في حاويات القمامة، وخلال سنوات حكم طالبان، كان إنتاج الأفيون يخضع لمراقبة صارمة، ومنذ الغزو الأمريكي، ازداد بشكل كبير، وهو يمثل الآن 90% من سوق الهيروين العالمي، وأصبح الآن واحد من كل عشرة شبان أفغان مدمنين على الأفيون، وبالنسبة لوضع المرأة، فلم يتغير الكثير، لم يكن هناك تقدم اجتماعي خارج المنطقة الخضراء التي تنتشر فيها المنظمات غير الحكومية.
لم تكن الحرب في أفغانستان سوى مزيج من الكذب والتضليل، فقد وثقت صحيفة “واشنطن بوست” عام 2019 في سلسلة تقارير تتكون من ستة أجزاء، بعنوان “الحرب مع الحقيقة”، تمادي الإدارة الأمريكية وقياداتها العسكرية في “الكذب” وتضليل الرأي العام طوال الحملة العسكرية، وذلك عبر اختلاق الأدلة وتحريف الإحصائيات وقمع الانتقادات اللاذعة والشكوك حول الحرب، لجعل الولايات المتحدة تبدو وكأنها تكسب الحرب بينما لم يكن الأمر كذلك على أرض الواقع، إذ تكشف مجموعة الوثائق التي تتكون من أكثر من ألفي صفحة التي أطلق عليها “أوراق أفغانستان”، أن كبار المسؤولين الأمريكيين فشلوا في قول الحقيقة بشأن الحرب في أفغانستان طوال الحملة العسكرية، فقد قدموا تصريحات متفائلة كانوا يعرفون أنها كاذبة وأخفوا أدلة واضحة حول استحالة الفوز في الحرب.
في المقابلات التي أجرتها الحكومة الأمريكية سنة 2015، قال الجنرال دوغلاس لوت، الذي خدم كقيصر للحرب الأفغانية في البيت الأبيض في عهد بوش وأوباما: “لم يكن لدينا فهم أساسي لأفغانستان ـ لم نكن نعرف ما الذي كنا نفعله؟ وما الذي نحاول أن نفعله هنا؟ لم يكن لدينا أدنى فكرة عما كنا نقوم به”. وأضاف لوت، محملاً الانهيار البيروقراطي بين الكونغرس والبنتاغون ووزارة الخارجية مسؤولية وفاة الجنود الأمريكيين: “لو أدرك الشعب الأمريكي حجم هذا العجز… لقد قُتل حوالي 2400 شخص. من سيقول إن هذا كان عبثًا؟”.
فمنذ سنة 2001، نُشر أكثر من 775 ألف جندي أمريكي في أفغانستان، خدم العديد منهم في هذه المنطقة عدة مرات. ووفقا للأرقام الصادرة عن وزارة الدفاع، توفي حوالي 2300 جندي هناك بينما أصيب 20.589 أثناء المعارك. وقد سلّط جيفري إيجرز، جندي المارينز المتقاعد وموظف البيت الأبيض في عهد بوش وأوباما، الضوء على الهدر الهائل للموارد يالقول: “ما الذي حصلنا عليه مقابل هذا الجهد الذي تبلغ قيمته تريليون دولار؟ هل كان قيمته ما حصلنا عليه تريليون دولار؟ … بعد مقتل أسامة بن لادن، قلت إن أسامة ربما كان يضحك في قبره المائي بالنظر إلى ما أنفقناه على أفغانستان”.
تكشف “أوراق أفغانستان” عن حجم الفساد المستشري في الحكومة التي نصبها الاحتلال الأمريكي، وقد أشار الكولونيل كريستوفر كوليندا، المستشار لثلاثة جنرالات ما زالوا في الخدمة، إلى أن الفساد كان متفشياً منذ البداية، ووصف حكومة كرزاي بمنظمة يحكمها لصوص، ولا تحظى بالشعبية، أما أشرف غني الذي كانت تتعزل به الدعاية الأمريكية، فيقول سعد محسني، صاحب إحدى محطات التلفزيون الأكثر شعبية في أفغانستان، “طلوع” فيقول: “سيبصق الناس على قبره لمئة عام قادمة”، حيث يُظهّر غني، من نواحٍ كثيرة، جهود أميركا الفاشلة لإعادة بناء أفغانستان وجيشها على صورتها؛ فهو أدار هيكل القيادتين العسكرية والمدنية، واستبدل الكفاءات بالولاء الشخصي. واتُّهم غني، وهو من البشتون، بإبعاد الجماعات العرقية الأخرى، فيما أدار ظهره للفساد الذي ينخر مؤسسات الدولة، مستفيداً ممّا وعد بتنظيفه.
كانت عودة طالبان إلى حكم أفغانستان مسألة وقت، فالشعب الأفغاني عايش أفغانستان الحقيقية الغارقة في البؤس والفقر والفساد والدمار والموت، أما أفغانستان المتخيلة التي يتباكى عليها الليبراليون فلم يكن لها وجود خارج المنطقة الخضراء في كابل التي ضمت حفنة من اللصوص والمنافقين، الذين تقاطروا على مطار كابل لاستكمال عزلتهم المعنوية عن الشعب الأفعاني بعزلة مادية في الشتات في العواصم الغربية، بينما الشعب الأفغاني لم يكن مستعداً للدفاع عن حكم اللصوص وعرابيهم، ولا نزال الأنظمة الغربية تدافع عن أفغانستان ليبرالية من صنع مخيلتهم الجامحة، بل شطح بهم الخيال بمطالبة طالبان بالحفاظ على الليبرالية والديمقراطية وحقوق الإنسان والمرأة، كما لو كان ذلك واقعاً فعلاً، ولم تكتفي الدول الغربية في القارة الأوروبية بالتماهي مع أفعانستان المتخيلة، بل هددت طالبان بالويل والثبور وعظائم الأمور، ويكأنها قادرة على إنفاذ وعيدها وتهديدها.
تواجه طالبان تحديات كبرى، فقد ورثت بلداً فقيراً مزقته الحرب على مدى أربعة عقود، ويبدو أن الحركة اكتسبت خبرة من تجربتها السابقة في الحكم، فعقب سيطرتها على البلاد أصدرت عفواً عن جميع خصومها، وتعهدت بالسماح للنساء بالتعليم والعمل وفق الشريعة الإسلامية، وصمان مشاركة كافة الأطراف بالعملية السياسية، واحترام حقوق المكونات العرقية الأفغانية والأقليات الدينية، وبعدم استخدام الأراضي الأفغانية لشن هجمات خارجية، وفي إشارة واضحة لطمأنة الغرب المسكون بالإرهاب، قامت الحركة بإعدام الزعيم السابق لـ”ولاية خراسان” التابع لتنظيم الدولة الإسلامية أبو عمر الخراساني، الذي اعتقل في العام الماضي من قبل قوات الأمن الأفغانية.
أظهرت طالبان منذ سيطرتها على كابل مرونة واضحة وبراغماتية شديدة، وبدت أكثر اعتدالاً من ذي قبل، وهو ما يؤكد على أهمية القراءة السياقية في فهم الحركة، ولا يبدو أن الدول الغربية المسكونة بالقراءة الاستشراقية النصية مؤمنة بالتحولات السياقية، إذ لا تزال تصر على الطبيعة الجوهرانية لطالبان خصوصاً وللإسلام عموماً، وتُعيد التعامل معها كمنظمة إرهابية، ولا يوجد مؤشرات على الاعتراف الغربي بحكومة طالبان واستدخالها في بنية المجتمع الدولي، وتبدو دول جوار أفغانستان أكثر مرونة، ففي الآونة الأخيرة قامت حركة طالبان بإرسال وفود إلى الصين وروسيا، حيث تعمل كل من روسيا والصين بنشاط على تعزيز إعادة إعمار أفغانستان، وتبدو العلاقة مع إيران وباكستان جيدة، مع ذلك فإن التفاهم والتعاون بين هذه الدول وطالبان لا يعني أنها سوف تعترف قريباً بنظام طالبان، فالشرط الأساسي لكي تعترف هذه الدول بشرعية نظام طالبان هو ضمان عدم وجود منظمات إرهابية في أفغانستان تهددها.
خلاصة القول أن الإمبراطورية الأمريكية تلقت هزيمة مذلة في أفغانستان على يد إمارة طالبان الإسلامية، وهي هزيمة تؤشر على تراجع نفوذ أمريكا وهيمنتها العالمية، فالحرب التي كان من المفترض أن تعزز مكانتها الدولية من خلال مداخل حرب الإرهاب، ساهمت بصعود قوى منافسة كالصين وروسيا، وفي الوقت الذي تُظهر طالبان مرونة وبراغماتية في التعامل مع المجتمع الدولي وتبعث برسائل إيجابية حول اعتدال نهجها وسلوكها في الحكم، لا يبدو أن الولايات المتحدة وحلفاءها من الدول الأوروبية قد تعلموا الدرس، حيث لا تزال الدول الغربية تتعامل مع طالبان كمنظمة إرهابية، وتطالبها بالتخلي عن هويتها الدينية الإسلامية وثقافتها المحلية، وإلغاء نظام الإمارة الإسلامية والدخول في حكم المسيحية الليبرالية، وإذا ما أصرت الدول الغربية على رؤية الأشياء من منظورها الاستشراقي التخيلي، فلا جدال في أن أفغانستان طالبان سوف تنفجر في وجه الجميع، ويبدو الشرق الأوسط مكاناً مثالياً للانفجار، فالعالم “الليبرالي” الذي يدعم أنظمة دكتاتورية فاسدة وغير شرعية في المنطقة، ولا يقبل يوجود حركة إسلامية مسالمة كحزب النهضة لن يتسامح مع حركة مسلحة كطالبان، وهكذا فنحن على وشك الدخول في حقبة من الفوضى والعنف في أقرب وقت.
المصدر: عربي21