كتبه للمنتدى أ. سمير محمد حمدي (باحث في الفكر السياسي – تونس)
منذ تشكل دولة ما بعد الاستقلال، كان واضحا أن الخيارات العامة للجمهورية التي تم إعلانها في يوليو 1957 تنحو نحو مسار تغريبي مناقض لهوية الشعب وتوجهاته الثقافية التي رسخت منذ 14 قرنا وتبنيها للإسلام عقيدة وشريعة وهوية. وإذا كان هذا البلد قد تميّز بتجانسه العرقي والديني فلم يعرف الطائفية ولا المذهبية خاصة مع اعتماد جمهور الفقهاء توجهات مدرسة القيروان الفقهية التي وضع أسسها علماء كبار أمثال أسد بن الفرات وسحنون بن سعيد ومحمد بن أبي زيد القيرواني من خلال انتصارهم لمذهب أهل المدينة الذي يمثله الإمام مالك بن انس رحمه الله. وحتى مع دخول العثمانيين للبلاد في القرن السادس عشر ميلادي وحضور المذهب الحنفي (بوصفه المذهب الرسمي للدولة العثمانية) ظل جامع الزيتونة المعمور بمشايخه وعلمائه الأفذاذ طيلة قرون يمثلون موئلا دينيا يتزعم حركات الإصلاح وحفظ الهوية الإسلامية للشعب. وحتى مع الغزو الفرنسي لتونس سنة 1881 ظلت التوجهات الإسلامية هي المهيمنة على الوعي العام للشعب التونسي من خلال الحركات الإصلاحية التي تزعمها قادة وعلماء من أمثال عبد العزيز الثعالبي ومحي الدين القليبي والطاهر بن عاشور ومحمد الصالح النيفر وغيرهم.
وبالتوازي مع ما يمكن تسميته بحركية الجمهور ذات التوجهات الإسلامية ظهرت نخب علمانية متغربة رفعت شعارات التحديث خارج المنظومة الإسلامية، ومع استقلال تونس من خلال بروتوكول 20 مارس/آذار 1956 تولت القوى المتغربة الأكثر تنظما والأشد ولاء لفرنسا المواقع الرسمية في الإدارة والحكم. وتجلت إفرازات هذا التوجه السلطوي العلماني في قرار إعادة هيكلة التعليم التونسي من خلال مشروع شهير وضعه خبير فرنسي وعُرف تحت اسم “مشروع دوبياس” لسنة 1958 ، وكانت مخرجاته الأولى تقوم على إلغاء التعليم الإسلامي وإغلاق جامع الزيتونة وإقرار تصور جديد للنظام التعليمي تغلب عليه الفرنكوفونية اللغوية والعلمنة الفكرية. ورغم هذه التوجهات الحكومية ظلت المؤسسة الرسمية تتجنب الدخول في مواجهة مباشرة مع الشعور الديني الشعبي خاصة وأن التجربة التي حصلت سنة 1960 بمحاولة إلغاء الصوم عرفت ردود فعل شعبية ودينية حادة.
ظل التيار التغريبي في تونس يفعل فعله تدريجيا من خلال الجامعات والمدارس الرسمية التي تولى مسؤولية إدارتها شخصيات معروفة بعدائها للتوجهات العربية الإسلامية. ولن تأخذ المواجهة شكلها الحاد أي أن تتحول الى صراع للتأثير في الرأي العام خارج المجال الأكاديمي الضيق إلا مع ظهور التيارات الإسلامية.
لقد بدأ النظام السياسي التونسي ومنذ وصول زين العابدين بن علي الى السلطة اثر انقلاب 7 نوفمبر 1987 يتبنى خيارات العلمنة الشاملة في إطار صراعه مع القوى الإسلامية وليتجاوز الصراع مجرد الخلاف السياسي ليتحول الى ما سمته الجهات الرسمية حينها سياسة “تجفيف منابع التدين” وبدأت الخطوات الأولى مع تولي الوزير ذي الخلفية الماركسية المتطرفة محمد الشرفي وزارة التربية والتعليم والذي اتخذ قرارات بتقليل ساعات التربية الإسلامية في المدارس وتغيير مناهجها من تعليم لأساسيات الدين لتصبح بحثا في ما يُطلق عليه فكرا إسلاميا حيث تم اعتماد نصوص وكتابات لباحثين من خلفيات علمانية تتعامل مع النص القرآني بوصفه نصا تاريخيا لا قداسة له.
وبالتوازي مع هذه الخطوات في مجال التعليم تم دعم المجموعات النسوية ذات التوجه العلماني الإستئصالي وتحولت قضية المرأة الى مجال التوظيف السياسي والتلاعب السلطوي. وفتحت منابر الإعلام للنسويات من اجل نشر أفكارهن وتمرير توجهاتن للجمهور العام في ظل حالة من القمع الشامل لكل التوجهات الدينية وغياب تام لأي منبر إسلامي قادر على التعبير والرد على الشبهات والتشويه المتعمد لمبادئ الشريعة الإسلامية وظل الحال على ما هو عليه من انغلاق سياسي وما يوازيه من تغوّل للفكر العلماني الشامل في صورته الاستئصالية المتطرفة الى حدود سنة 2011 مع سقوط نظام بن علي ونجاح الثورة التونسية التي لم تكن تحمل توجهات فكرية محددة بقدر ما كانت حراكا مجتمعيا رافضا للفساد المالي وللانغلاق السياسي، ومع انفتاح المجال العمومي لجميع القوى للتعبير والتأثير وعودة التيار الإسلامي للمشهد (أحزابا وجماعات ومشايخ) حتى بدأ الصراع الفكري والثقافي يأخذ مداه الأقصى.
الصراع الثقافي ما بعد الثورة
لم يكن سهلا بعد الثورة تغيير المشهد الثقافي العام في ظل هيمنة ميراث ما يقارب 60 سنة من العلمنة الشاملة في قطاعات التعليم والثقافة والإعلام والفن، فالقوى العلمانية تمترست بالجهاز الإداري للدولة وتشكلت من خلال جبهة واسعة من أقصى اليمين الى أقصى اليسار، بين بقايا النظام السابق وحضوره في الدولة العميقة من جهة ومجموعة الأحزاب والمنظمات والجمعيات العلمانية من جهة ثانية وهذه القوى قد تختلف سياسيا ولكنها تتفق ثقافيا وفكريا وهو ما يفسر تحالفها جميعا للدفاع عما تسميه “النمط المجتمعي” التونسي وتعني به البنية الثقافية والتعليمية التي ترسخت خلال عقود الاستبداد.
ورغم أن القوى الإسلامية كانت الأكثر حضورا وانتشارا من الناحية الجماهيرية إلا أنها كانت الأضعف إعلاميا وثقافيا والأقل حضورا في مؤسسات الدولة الرسمية. وإذا أضفنا لهذه العوامل الدعم الخارجي القوي للأحزاب العلمانية ومن جهات مختلفة ولأسباب متنوعة بعضها سياسي (بسبب رفض بعض الدول للثورة التونسية وسعيها لإفشالها) وبعضها سياسي ثقافي (الموقف الفرنسي تحديدا الذي يحرص على استمرار هيمنة الفرنكوفونية). وفي خضم الصراع السياسي المتصاعد ظلت المسألة الثقافية وقضاياها موضوع جدل متواصل بين القوى التغريبية والقوى الإسلامية والوطنية.
كانت مسألة الاستقطاب الثنائي الحاد على أرضية الهوية تهدد المسار السياسي برمته خاصة في مرحلة كتابة الدستور الجديد (تم إقراره في يناير 2014) الأمر الذي اقتضى محاولة التخفيف من التوتر وإيجاد صيغة للتعايش الممكن. ومع ظهور موجه الإرهاب الممنهج الذي يُنسب عموما لجماعات دينية تم توظيف الموضوع إعلاميا لمزيد الضغط على القوى الإسلامية ومنعها من المطالبة بأي إصلاحات دينية أو إعادة الاعتبار لقضية الهوية ورفع التهميش عن التشريع الإسلامي. غير أنه ورغم كل الضغوطات يمكن تسجيل جملة من النقاط الايجابية التي تحققت بعد الثورة لمصلحة الرؤية الإسلامية أهمها تحرر المساجد من هيمنة الخطاب الرسمي المتكلّس ورفع الحظر عن الحجاب الذي كان ممنوعا بالقانون زمن بن علي بالإضافة الى استعادة الجامعة الزيتونية لجانب مهم من فاعليتها الأكاديمية بحثا وتدريسا رغم ضعف إمكانياتها.
وفي المقابل اتخذ الجانب العلماني جملة من الخطوات للحفاظ على ما يسميه “مكتسبات مجتمعية” وهو ما تجلى في تشكل جمعيات لما يسمى حماية اللائكية واستغلال الحرية الإعلامية من اجل مزيد نشر ثقافة الانحلال والميوعة ومع صعود حزب نداء تونس العلماني للسلطة (ديسمبر 2014) تم اتخاذ جملة من القرارات التي هي في الواقع تلبية لوعود انتخابية قطعها الرئيس الحالي على نفسه ترضية للعلمانيين المتشددين ومنها إلغاء حكم السجن بحق مستهلكي مخدر “الحشيش” ومن بعدها إلغاء المنشور 73 الذي ينص على عدم مشروعية زواج التونسية المسلمة من غير المسلم وأخيرا تصريح رئيس الدولة عن سعيه لإيجاد صيغة قانونية تجعل الميراث متساويا بين الإناث والذكور خلافا للنص القرآني الصريح في هذا الصدد.
ولا يمكن في هذا السياق إنكار مدى الترابط بين ما هو سياسي والخيارات الثقافية للدولة، وإن محاولة فرض العلمنة القسرية على الغالبية الشعبية طيلة عقود ما بعد الاستقلال لم تصنع تقدما مجتمعيا ولم تحقق رفاها اقتصاديا بقدر ما خلقت أزمات مجتمعية لازالت تبعاتها وآثارها ممتدة الى اليوم. ورغم سعي السلطة الى مزيد إبعاد الشعب عن جذوره وهويته إلا أن الأمر ليس بالسهولة التي يتصورها هؤلاء لأن الوعي الجمعي التونسي يرفض وبشكل قطعي كل محاولات الإنبتات الحضاري وتدمير البنى الثقافية العميقة التي تشكّل من خلالها وجدان الشعب وليس أجدى لكل نظام حكم يروم النجاح وتحقيق تنمية فعلية إلا الاستناد إلى المكوّن الإسلامي لأن كل محاولات العلمنة القسرية قد أثبتت عقمها وفشلها مهما حاولت النزعات السلطوية فرضها على الشعب عبر القرارات أو القوانين المُسقطة، فلا يمكن لأي شعب أن يحقق ذاته خارج تاريخه وبالضد على عقيدته وثقافته وهويته التي تشكلت خلال قرون طويلة.