مقالاتمقالات مختارة

العلمنة أكثر إيديولوجيات البشرية بدائية – بقلم د. ياسين أقطاي

العلمنة أكثر إيديولوجيات البشرية بدائية – بقلم د. ياسين أقطاي

راودنا في المقال السابق سؤال؛ هل رؤية آثار العلمنة في أقدم الأزمنة يعتبر علامة على عالميتها، أم كونها تتكون من موقف أثري عتيق؟. بالنسبة لنا لا شك أن هذا سؤال جوابه واضح ويختبئ في السؤال ذاته. إن العلمنة باعتبارها واحدة من العلامات المسجلة الأيديولوجية للهيمنة الغربية، فإنهم لا يزالون يسوقون لها على اعتبارها صياغة فلسفية رفيعة. يحاولون تقديمها كمرحلة رفيعة من تاريخ البشرية على صعيدي التطور والتقدم، كما يحاولون تصويرها كمرحلة نهائية من التاريخ الذي يمكن أن تصله جميع التطورات في العالم.

لا شك أن هناك من يؤمن بهذه الحكاية. إلا أن أصل القضية، تمامًا كالجواب الواضح على سؤالنا؛ تدور حول أن جميع المعاني المنسوبة للعلمنة تتلاءم مع أكثر الحالات الطبيعية للبشرية في أقدم عصورها. ربما من هذه الناحية تبدو العلمنة عالمية نعم، لكنها عالمية مثل عالمية الجاهلية وتأصلها في التاريخ البشري مثلًا.

حين النظر من هذه النقطة نجد أن العالمية لا تمنح الشيء قيمة رفيعة خاصة. هناك العديد من الحقائق والأشياء المنشرة تكتسب صفة عالمية، لكن فيها الجيد والقبيح. لقد بدأ الإنسان بالعلمنة حينما خان الإله ونسي الآخرة وغرق في غفلات الدنيا، وهذا بدوره ليس بالشيء الجديد. بل هو شيء لنسمّه ميولًا أو موقفًا أو طرازًا؛ يصل إلى زمن قابيل، الذي سقط ضحية خيانة الإله عبر قرابين من نباتات فاسدة.

إن النظر للعلمانية كعلامة على مستوى المعرفة والوعي الذي وصلت له البشرية، وذلك من خلال منح العلمنة نصيبًا من إيجاد عصر حديث ما، يعتبر من مظاهر الخداع، والغرور الأقدم لدى الإنسان. وكونه خداعًا أو غرورًا واضح للغاية كوضوح بطلان ادعاء عالمية العلمنة.

إن الحكاية التي تسوق انتقال الإنسان من التدين نحو الدنيوية في سياق رحلة تطور، تعتبر خيالًا مثيرًا للغاية أمام جملة الحقائق التي نعيشها على مدى التاريخ. لا سيما وأن الإنسانية في الأصل وعلى مدى التاريخ عاشت وتعيش ولا تزال انتقالات ما بين التدين والعلمنة. ولا يوجد اتجاه واحد غير قابل للرجعة في هذه المسألة. يمكننا رؤية ذلك في تاريخ مجتمع ما، او كتطور على مستوى عالمي، كما يمكننا رؤيته حتى على صعيد حياة الفرد كمد وجزر وأخذ ورد ما بين التدين والعلمنة. إن أشياء مثل الميول نحو الدنيا، أو القلق من مصير ما بعد الموت، أو التدين؛ يختلف ثقلها فيما بينهما على مستوى حياة الفرد أو المجتمع.

بغض النظر عن محاولات تزيين ادعاءات العلمنة وتقديمها كفلسفة بشكل ما، فإنها في الحقيقة ستواجه نتائج عكسية أمام العديد من التطورات. وحين النظر من هذا المنطلق، فإننا لا نرى هذا العصر “علمانيًّا” كم يُدّعى، بل عصرًا يسير نحو التدين يومًا إثر يوم. بل حتى التعصب الديني بات مؤثرًا على هذا العالم إلى حد كبير.

إن القارة الأوروبية التي تعتبر المهد الأول والنموذج الأبرز للعلمانية، باتت تشهد ازديادًا في الأحزاب اليمينية المتطرفة. وإن هذه الازدياد يحمل هوية دينية بين طياته، وعلى الرغم من كونه ليس مظهرًا تديّن، إلا أنه يحض على تفعيل الهوية الدينية وتقويتها. في السياق ذاته، يمكن القول بأن ادعاء إسرائيل التي تتخذ من التوراة مرجعًا وحيدًا؛ بأنها تتخذ العلمنة مرشدًا في أمنها وعلاقاتها مع العالم؛ أمر بعيد كل البعد عن الحقيقة.

إن مسار العلاقات الدولية اليوم يبدو خاضعًا لأسباب دينية أكثر من أي حقبة تاريخية كانت. ويمكن القول أن الرابط الذي يبدو قائمًا بين الأسباب الدينية تلك، وبين القلق من المصير الأخروي ليس قويًّا أو حقيقيًّا، ولا شك أن هذا يمثل موضوعًا مختلفًا. لا يمكن أن يكون هناك سلطة موضوعية من شأنها تقرير صحة او أحقية أي موقف ديني ما. تنصهر في الواقع اليوم القوميات والهويات العرقية مع مفهوم التدين، ويمكن رؤيتها جميعًا مجرد انحرافات من منظور متدين صحيح. لكن حتى هذا لا يدعم ادعاءات العلمانية، بل على العكس يضعفها.

تروح وتغدو هواجس القلق من المصير الأخروي مع مشاعر التدين وتلدين في حياة الفرد. ومن وجهة النظر هذه، يبدو أن الخطابات المتشائمة حول عولمة المسلمين تخدم السرد القائل بان العلمانية مرحلة تطورية، تفتقد أهم الأوضاع الإنسانية. يتعرض الإنسان للعديد من التأثيرات المختلفة، التي تجبره على التغيير بشكل مستمر. ولذلك لا يمكن كتابة قصة ترمي مسبقًا بكل الاحتمالات المتعلقة بنوع التجارب التي يمكن أن يتعايش معها الإنسان في هذا العالم. ربما موجة ما تأتي لتنقل الإنسان من حالة لأخرى، وتغير حالة وروحية مجتمع بأسره.

ألم نشهد بما فيه الكفاية على تطورات حولت الإنسان الحديث واستغناءه إلى وضع يثير الشفقة أو الضحك؟

إذن إلى متى يمكن للبشر الذين أصبحوا شهودًا على ذلك، أن يستمروا في الاستغناء ذاته؟.

بينما كان الاستغناء او الجبروت البشري قد بلغ ذروته، فإن مجرد فيروس حقير بدّل حال الإنسان إلى حال أخرى مختلفة للغاية. في ضوء ذلك وفي خضم التصور الإنساني؛ بينما بدت الدنيا أكثر وضوحًا من ذي قبل، من حيث أنها مجرد لعبة أو لهو؛ كيف يمكن إذن للعلمنة أن تكون مرحلة رفيعة تطورية؟.

(المصدر: يني شفق / ترك بوست)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى