العلمانيـــــون يجتهـدون فــي الــديـــن
بقلم عبد العزيز الكحيل
في سبتمبر 2020 صدر للباحث الجزائري الهواري عدي كتاب كبير الحجم (بالفرنسية) عنوانه «أزمة الخطاب الديني الإسلامي»، تمنيت أن يقرأه كل مثقف وداعية ومسلم متمسك بدينه ليس لأن فيه جديدا يذكر ولكن لأنه يجمع ويلخص بأمانة أطروحات «المفكرين المسلمين الجدد» كما تسميهم الصحافة الفرنسية، أو «التنويريين» كما يُطلق عليهم في الدوائر الحداثية، ويبِين عن شغفهم الشديد بعلمنة الاسلام وأنسنته، أي إخراجه نهائيا من مجال المقدس ليصبح فكرا بشريا بحتا.
بالنسبة للباحث في العلوم الاجتماعية فإن الخطاب الديني يعاني أزمة، لكنها ليست أزمة في تجديد الخطاب ليعود إلى أصالته ويكتسب قوة الطرح والإقناع حتى يستوعب المستجدات ويكون في مستوى حقبة العولمة وواقعنا الجديد، بل هي أزمة التمسك بالأصالة وعدم الذوبان في الفكر الغربي المهيمن، فالخطاب في نظره متأزم لأنه ما زال مشدودا إلى الماضي، إلى التراث، أي إلى القرآن والسنة، متأزم لأنه متمسك بالأصالة الإسلامية، مرددا لأطروحات ومفردات لا يرى الحداثيون النجاة والرقي إلا بتجاوزها وتبني الخطاب الغربي والمرجعية الغربية بأبعادها الإغريقية- الرومانية، لهذا وضع الهواري عدي لكتابه عنوانا ثانويا هو «المرور الضروري من أفلاطون إلى كانت»، يعني الانتقال من زاوية من المرجعية الغربية إلى زاوية أخرى منها…الحل يكمن في سحب الخطاب الإسلامي من علماء الدين المستحوذين على العقيدة الرسمية للمسلمين وتسليمه للمعرفة اللادينية التي يجب على العلماء أن يجعلوها مقبولة مجتمعيا، بغير هذا سيقى الخطاب الديني فقيرا رتيبا غير متجدد … إن ما لم يفهمه علماء الدين المسلون هو أن النص المقدس لا بد له من العلم اللاديني لتجديد فهمه وتفسيره وفقا للتطورات التاريخية، فالبشرية ما زالت تنتج المعرفة حتى بعد نزول القرآن خلافا لما يظنه المسلمون، والمعرفة المتطورة باستمرار تساعد على فهم الحاجة الإنسانية إلى الجانب الروحي…إن النص المقدس لا يشرح نفسه بنفسه بل هو في حاجة – لشرحه وفهمه – إلى المعارف الانسانية وإلى الفلسفة، والعلوم الانسانية ليست منافسة للعلوم الدينية بل تستطيع أن تساعد هذه الأخيرة على الانفتاح على المجتمع ومواكبة التطورات التاريخية.
هذه خلاصة الكتاب… لا تحتوي على أي جديد لأنه ترديد وفيّ لأطروحات محمد أركون وأتباعه من «التنويريين»، أطروحات تتمحور حول ما سبق ذكره من علمنة الاسلام وأنسنته حتى لا تبقى له صله بالنسب السماوي وبمجال المقدس، وأدوات ذلك هي – كالعادة – العلوم الانسانية بمفهومها الغربي وأدواتها اللادينية، بسبب قصور المسلمين وعلمائهم عن فهم الإسلام فهما صحيحا، والفهم الصحيح هو تبني الفكر الغربي وبالتالي إعادة قراءة «التراث» – أي القرآن والسنة – بما يتوافق والرؤية الغربية دون سواها، لذلك يسمح العلمانيون لأنفسهم بالاجتهاد في الدين ويمنعون العلماء من ذلك لأن المسألة تتلخص في الصراع بين الأصالة والتبعية للتصوّر الغربي للدين والإنسان والحياة.
كالعادة يثني الكاتب على التصوّف ويتأسف على سطوة ما يسميه الإسلاموية، ويثني على الشيخ محمد عبده لكنه يتأسف على قصوره في تجديد الدين لأنه لم يذهب في هذا المسعى إلى منتهاه، ذلك أنه لا يمكن بلوغ مرحلة الحداثة إلا بتبني العلمانية، وهو ما لم يجرؤ عليه الشيخ فترك تراثا متناقضا لأنه يريد التقدم والحداثة ويرفض العلمنة والأنسنة، ويشيد في هذا السياق بالمفكرين الذين أدركوا هذه الحقيقة وركزوا عليها وهم محمد أركون ومحمد جابر العابدي وعبد الله العروي، ثم ينتقل إلى الإشادة بثلاثة وجوه «بارزة» اشتهرت بنقد الخطاب الديني نقدا «علميا» جذريا وهم: محمد محمود طه (وهو سوداني مشهور بارتداده عن الإسلام)، ومحمد شحرور (وهو أيضا مشهور بانتمائه الماركسي)، ونور الدين بوكروح!!! لم يشتهر بأي شيء سوى التطفل على العلم من غير امتلاك أدنى ادواته.
ما الجديد إذًا في الكتاب الجديد؟ لا شيء معرفيا إطلاقا، بل هو ترديد إيديولوجي لأطروحات علمانية معروفة لكن بصيغة تلبس لبوس العلم كما سنّ ذلك أركون… الوحي لا قداسة له، «التراث» مادة بشرية كأي مادة أخرى تقبل النقد والتبديل (باسم التجديد والاجتهاد)، التقدم والرقي البشري غير ممكنين إلا باتخاذ العلمانية منهجا للحياة، والإسلام إذًا مجرد حيّز روحي في حياة الإنسان، لا علاقة له بتنظيم المجتمع ولا الحياة العامة، وهذا ما يكتشفه الباحثون إذا تخلوا عن المنهج التقليدي واستخدموا المنهج «العلمي» الحديث أي الفلسفة والعلوم الإنسانية واللسانيات الخارجة للتو من المخابر الغربية، ولولا هذا المنهج لما كان لابن رشد وابن خلدون أي أثر يُذكر !!!
ما المطلوب إذًا من المسلمين؟ حسب الهواري عدي ومدرسته «التنويرية» الإسلام لا يبرح مجال الصفاء الروحي والتدين الفردي ولا أثر أي فيه تكاليف فكرية وسلوكية فردية وجماعية.
إن « مفكري الاسلام الجدد « مثل الهواري عدي امتداد للمستشرقين بنفس المنطلقات والأهداف والأدوات، وردنا الوحيد عليهم أن المسلمين يمارسون الاجتهاد لتطبيق الشرع أما هم فيهدف اجتهادهم الى ابطال الأحكام بل إبطال الإسلام كبناء رباني متكامل.
المصدر: صحيفة البصائر الالكترونية