العلمانية.. العيش في الجنة أم جحيم منتظر؟
بقلم عبدالله الحسن
لقد عاشت أوروبا في القرون الوسطى تحت طغيان وهيمنة رجال الدين المتمثلين بقساوسة الكنيسة، وفساد المجتمع واستغلال الدين لتحقيق أهواء وأمور نفعية خاصة على ظهور العامة. لم تشمل تلك الهيمنة الدين فقط بل حتى النواحي الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وإن رجعنا للدين فكانت الأوامر الشرعيّة كُلّها من تشريعِ الباباوات والقساوسة (رجال الدين) ففرضوا بطغيانهم المدعوم من جهل النّاس بالدين النصرانيّ المحرّف، ذو العقيدة الهشّة. لقد قامت الكنيسة في ذلك الوقت بتنصيب إله يحلّ ويحرّم ويُشرّع ويقضي، وليس لأحد حقّ الاعتراض على أوامره، وإن حدث فالعقوبة تنتظره والتكفير كذلك. فأصبح الحرام حلال والحلال حرام، وأضافت الكنيسة إلى عقيدة التثليث عقائد وآراء أخرى نحو: التعميد، والعشاء الربانيّ، وتقديس الصليب، وعقيدة الخطيئة الموروثة، وصُكوك الغفران، والحرمان والاعتراف، فكان على المذنب أن يعترف بذنبه في خلوة مع قسيسه؛ ليستطيع هذا القسيس أن يغفر له ذنبه.
حتى أنها حاربت العلم واحتكرت المادة، فحكم على جاليليو الذي قال بدوران الأرض، حُكم عليه سبعة كرادلة بالسجن، وفرضوا عليه تلاوة مزامير الندم السبعة مرة كل أسبوع طوال ثلاث سنوات، ولما خاف جاليليو من المصير الذي انتهى إليه برونو، أعلن توبته ورجوعه عن رأيه، وركع أمام رئيس المحكمة قائلاً: “أنا جاليليو وقد بلغت السبعين من عمري، سجين راكع أمام فخامتك، والكتاب المقدس أمامي ألمسه بيدي، أرفض وألعن وأحتقر القول الإلحادي المخطئ بدوران الأرض”. وبعدها نشأت العَلمانية وهي مشتقة من كلمة العالَم بمعنى الدنيا وهي الترجمة العربية لكلمة Secularism التي تعرفها دائرة المعارف البريطانية بأنها حركة تهدف إلى صرف الناس عن الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بالدنيا (فصل الأرض عن السماء) وقد تطورت لتصبح حركة مضادة للدين والمسيحية خاصة. فالعلمانية تدعو الى فكّ الارتباط بين الارض والسماء، وتحرير السياسة المدنية من القيم الدينية.
وفي عام 1769 قامت حملة نابليون على مصر التي تُعد بداية الحملة الاستعمارية الغربيّة الحديثة للعالم الإسلاميّ عامة والعربيّ خاصة، وقد تميزت هذه الحملة عن سابقتها في ما تحمله وما تهدف إليّه، باستهدافها للعقل واستبدال الفكر واحتلالهما، وتغيير الهوية و تشويهها، ولا ننسى احتلال الارض و الثروات واستعباد الانسان ونشر الظلم والطُغيان والتخلف والرجعيّة. ومن هذهِ الحملة جاءت العَلمَانية التي كانت إحدى رُكاب هذه الغزوة وأحد أهم أهداف نابليون نشر العلمانية، لتُكوّن نظام حكم يحكم بدل الإسلام آنذاك. وبعدها أصبحت العلمانية تنتشر في كل بلد مُستعمر رويدًا رويدًا، ومثال هذا تلك القوانين التي وضعتها فرنسا في كلٍّ من الجزائر وتونس التي كانت تهدف لعلمنة النظام وإبعاد الدين عن الحكم. وعن هذا الغزو الفكري القانوي يقول عبد الله النديم: (إن دولة من دول أوروبا لم تدخل بلداً شرقياً باسم الاستيلاء، وإنما تدخل باسم الإصلاح وبث المدنية، وتنادي أول دخولها بأنها لا تتعرض للدين ولا للعوائد، ثم تأخذ في تغيير الإثنين شيئاً فشيئاً، كما تفعل فرنسا في الجزائر وتونس. حيث سنتّ لهم قانوناً فيه بعض مواد تخالف الشرع الإسلامي، بل تنسخ فيما قبلها من أحكامه، ونشرته في البلاد، واتخذت لتنفيذه قُضاة ترضاهم. ولما لم تجد تعارضًا أخذت تُحول كثيرًا من مواده إلى مواد ينكرها الإسلام، توسيعًا لنطاق النسخ الديني). والقانون العلمانيّ الوضعيّ لا يضبط المنفعة بالشرع، ولا يحكم بما أمر الله به، فقد جاءت الغزوة الاستعمارية بما يسمى الحرية الانسانية، المتحررة من ضوابط الشريعة، تلك الأخيرة تحفظ حق الإنسان وجاءت لتنهي العبودية فحررت الانسان وكرّمته ووضعته في موضعٍ يليقُ به.
ظهور العلمانية في الغرب كان له سبب ودافع، أهمها ذاك الظلم الذي تعرض له العامة من قبل رجال الدين، أما ظهورها في البلدان الإسلامية فلا مبرر له ولا سبب أيضًا، ولا يجوز للعالم الإسلامي تقليد هذا النظام، فالنظام الإسلامي نظام حياة كامل متكامل لا تشوبه شائبة ولا ينقصه ناقصة. فالدين الاسلامي صالح لكل زمان ومكان، والفرق بينه وبين بقية الأديان أن الآخرة جزء من حياة الفرد والإسلام هو حياة الفرد كاملة. فلا يوجد في الإسلام بابا ولا رجال دين إنما الدين كله من الله ولله، عكس المسيحة مثالاً، التي تكون قائمة على سلطتين سلطة دينية يمثلها رجال الدين والقساوسة والباباوات، وسلطة دنيوية يمثلها رأس الحكم (ملك أو رئيس) وأعوان الحكومة من وزراء ونواب. وإذا فصلنا هنا الدين عن الدولة، بقي الدين قائمًا وبقيت الكنيسة تدق أجراسها وتنشر رهبانها ومبشريها في أرجاء الأرض، دون تدخل من الحكومة. وإن تجربة تركيا مثلاً أعطتنا دليل واضح أن تطبيق هذا النظام في دولة إسلامية يعني القضاء على العقيدة الإسلامية وتجريد الحكومة من السلطة الدينية (التي لا يوجد ما يمثلها كما هو الشأن في المسيحية) يعني تصغير النفوذ الإسلامي جاعلاً نفوذه في الاهتمام في المساجد فقط، عكس المسيحية التي تركت العنان مفتوحاً لنشره.
إن لانتشار العلمانية عواقب وخيمة، فقد ساهمت العلمانية في أوروبا على نشر الإلحاد وأغلب المسيحين هم متمردون أخلاقياً على تعاليم دينهم، وقد نزعت العلمانية تلك القداسة التي تعرفها الأسرة فانهارت القيم الأخلاقية وانتشر الشذوذ الجنسي (زواج المثليين). وكذلك قلة الإنجاب تزامنت مع ارتفاع نسبة الوفيات، ما يعني أن أوروبا أصبحت دور مسنين، وقد عبر القسيس وعالم الاجتماع الالماني جوتفرايد كونزلن عن هذا التغيير بقوله: (لقد مثلت العلمنة: تراجع السلطة المسيحية، وضياع أهميتها الدينية، وتحول معتقدات المسيحية إلى مفاهيم دنيوية، والفصل النهائي بين المعتقدات الدينية والحقوق المدنية، وسيادة مبدأ دين بلا سياسة وسياسة بلا دين). مع كل الذي صنعته العلمانية بالمسيحة والمسيحيين في أوروبا، وكونها لا تصلح لأن تكون نظام حكم في العالم الاسلامي، لا يزال البعض يدعون الأمة الى هذا النظام السفسطائي، الذي يسمى تنوير وما هو إلا داء فتّاك، يجعل الإنسان أقرب للحيوان منه إلى الله. خلاصة الأمر أن العلمانية ظهرت في أوروبا نتيجة ظلم وحكر رجال الدين للدين والجور به والطغيان به، أي أن العَلمانية كانت ثورة ضد الكنيسة المسيحية والقساوسة والباباوات (رجال الدين)، وكل هذا لا يوجد في الدين الاسلامي، الأفضل أن ندعو لتطبيق شعائر الله التي تكاد أن تنتفي انتفاء يجعل للجريمة أن تجد أرضاً تولد فيه وتنتشر.
(المصدر: مدونات الجزيرة)