مقالاتمقالات مختارة

العلمانية العربية ظاهرة عصية على التفسير !

العلمانية العربية ظاهرة عصية على التفسير !

بقلم د. عزت السيد أحمد

بداية من الجدير بالإشارة هو أنَّ هٰذا المقال جزء من فصل من كتابي انهيار أساطير اليسار والعلمانية الذي صدر في العام الماضي.

العَلمانيَّة واحدةٌ من أبرز المُشْكِلات الَّتي شَطَرَت الفكرَ العربيَّ إلىٰ فريقين علىٰ الأقلِّ؛ فريقٌ يعتنقها بعجرها وبجرها اعتناقاً رُبَّما يكون أعمًىٰ في كثيرٍ من الحالات حَتَّىٰ لا يرىٰ في الفريق الآخر ما يمكن أن يقبل به أَو يقتنع به، والفريق الثَّاني علىٰ العكس تماماً إذ وقف من العلمانيَّة موقفاً رافضاً ووصل الأمر بمعظم متبني هٰذا الفريق إلىٰ درجة الرَّفض القاطع لكلِّ ما يمكن أن يأتي به العلمانيُّون من أفكار. ولذٰلك كله أسباب وأسرار.

لا أطيل في ذٰلك هنا فهٰذا موضوع طويل وإنَّمَا أقتصر هنا فقط علىٰ الفرق بَيْنَ العلمانيين الغربيين والعلمانيين العرب.

لأبدأ إيضاح الحقيقة المؤلمة من هٰذه النكتة وأُتبعها بحقيقة إيضاحية أُخْرَىٰ كي تكون الصورة علىٰ حقيقتها أكثر وضوحاً.

سافر عربي إلىٰ فرنسا وهو لا يعرف من الفرنسيَّة شيئاً، وفي اليوم الأوَّل اضطر أن يذهب إلىٰ المطعم ليأكل ولا بُدَّ للجائع من الطَّعام. تناول قائمة الأطعمة وهو لا يعرف من أسمائها شيئاً بطبيعة الحال، ولأنَّهُ لا يعرف أسماء الأطعمة ما كان منه إلا أن شكَّ إصبعه علىٰ اسم في قائمة الأطعمة هٰذه وقال للنادل:

ـ أريد هٰذا الطعام.

وراح ينتظر بشوق وشغف هٰذا الطعام الفرنسي فيمص لسانه تارة وتارة يبلُّ شدقيه ويتلمظ ثُمَّ يبلُّ بلسانه شفتية… وهكذا حَتَّىٰ وضع النادل الطبق علىٰ الطاولة، نظر إلىٰ طبق الطعام وإذا هو برغل علىٰ بندورة… أعاد النظر إلىٰ الطعام وتفحصه وتمحصه وتبحصه… لم يتغير الطبق، إِنَّهُ البندورة علىٰ البرغل. فَشَرِقَ وتشردق وسعل، وجحظت عيناه وتدلى لسانه وكأنه أهبل، ورفرفت من الصدمة روحه كأنَّهَا تريد أن ترحل، فاستغفر الله وتحوقل. وقال في نفسه:

ـ أنا هربان من البرغل علىٰ بندورة، يعني ضاقت الدنيا عن الأطعمة وما طلع لي غير هٰذه الطبخة؟!!

جلس يتأمل في الطبق ولا يعرف ماذا يفعل، وعلىٰ مضض صار يتلقم بعض صغار اللقم وهو يتحسر ويتألم… وفي هٰذا الأثناء كان جاره علىٰ الطاولة القريبة قد انتهى من أكل السمك، فطلب النادل وقال له:

ـ أنكور ـ (Encore).

فعاد النادل بعد قليل وقدم له طبق سمك جديد. ففرح العربي ونادى النادل وقال له:

ـ أنكور ـ (Encore).

فعاد النادل بعد قليل ووضع أمامه أيضاً طبق برغل علىٰ بندورة.

فوقف شعر رأسه واقشعر بدنه تأفف وقال للنادل:

ـ لماذا أنكوري غير أنكوره؟

ذٰلكم الوجه الأول والأساسي لمعرفة الفرق بَيْنَ العلمانية الغربية والعلمانية في بلاد العرب والمسلمين. قد تستغرب هٰذا التشبيه. معك حقك، الصورة عجيبة غريبة فعلاً، والتشبيه حقًّا غريب. فإليك إذن الشاهد الحقيقي.

في أواخر القرن التاسع عشر أوفدت اليابان إلىٰ أوروبا عدداً من الطلاب الشباب ليتعلموا من علوم أوروبا ما ينهض بالأمة.

وفي الوقت ذاته أوفدنا نحن إلىٰ البلدان ذاتها عدداً من الطلاب الشباب ليتعلموا أيضاً من علوم أوروبا ما ينهض بالأمة.

وكانت المفاجأة المدهشة التي نحصد ثمارها إلىٰ الآن وفي الوقت ذاته يحصد اليابانيون أيضاً ثمارها.

ـ اكتشف قاسم أمين أنَّ سرَّ نهوض الأمَّة يمكن في تحرير المرأة ودفعها للعمل وأنَّ حريتها في تزليطها وتخليطها وبدأ مشروعه النهضوي ونضاله من أجل النهضة بناء علىٰ هٰذا الأساس… وقدمت له السلطات كل التسهيلات للنجاح في مشروعه.

ـ في الوقت ذاته عادة ياتارو إيواساكي إلىٰ اليابان ليخترع هناك أوَّل محرك ياباني. وقدمت له السلطات كل التسهيلات للنجاح في مشروعه. فأسس شركة ميتسوبيشي التي تمتلك اليوم نسبة هائلة من التقانة العالمية والسوق العالمية.

وأما بقية الموفدين: كل الموفدين اليابانيين عادوا ليفعلوا مثل ياتارو إيواساكي تقريباً وأسَّسوا الشركات والمصانع التي تسيطر علىٰ ثلث العالم اليوم تقريباً.

بَيْنَما كلُّ الموفدين العرب عادوا وكل ما اكتشفوه وتعلمون هو أنَّ سر النهضة وسببها هو إما تزليط النسوان أو تزليط القلب من الإيمان بالعلمانية والاشتراكيَّة والشِّيوعيَّة والدَّاروينيَّة.

منطقيًّا وعقليًّا ومنهجيًّا: لا يمكن الحصول علىٰ نتائج غير موجودة في المقدمات. إذا وضعت الملح علىٰ البقلاوة بدل السكر فلماذا تتفاجأ أن يكون طعمها مالحاً وليس حلوا؟ أليس ذٰلك ضرباً من الهبل والخبل؟!

هٰذه هي نقاط الانطلاق في الفرق بَيْنَ العلمانية الغربية والعلمانية العربيَّة. اليابانيون الذين يعبدون صنماً من الحجر أو الحديد لم يجدوا داعياً لفصل دينهم عن دولتهم، ولم ينبهروا بالشيوعية ولا العلمانية، بَيْنَما المسلمون لم يجدوا مدخلاً إلىٰ النهضة إلا بهدم الدين.

لم يختلف العلمانيون اليابانيون عن العلمانيين الغربيين ولٰكنَّ العلمانيين العرب افترقوا واختلفوا عن العلمانيين الغربيين. بغض النظر عن عوامل النهضة فإن العلمانيين العرب لم يجدوا في العلمانية ولم يأخذوا من العلمانية إلا محاربة الدين بل محاربة الإسلام تحديداً دون سائر الأديان. وهنا تبدأ المفارقات العجيبة في العقلية العلمانية العربية وحَتَّىٰ في بلدان العالم الإسلامي، وافتراقها عن العلمانية الغربيَّة.

العلمانية الغربية تناهض الدين بالعموم وتركز علىٰ الفصل بَيْنَ الدين والسياسة، بغض النظر عن استحالة ذٰلك كما كررت غير مرة، وبغض النظر عن غضهم النظر عن تدخل الدين في السياسة كما هو حقيقة يعلمها الجميع. صحيح أنَّ الإسلام قد يكون موضع مزيد من الحساسية لديهم ولٰكنَّ هٰذا بحكم العقلية الاجتماعية أكثر مما هو بحكم العقلية العلمانيَّة. ولٰكنَّهُم غالباً وليس دائماً إذا جدَّ الجد تجدهم يعاملون الأديان كلها سواء.

أمَّا العلمانيون المسلمون أو الذي كانت منبتهم من أسر مسلمة وأعني العلمانيين العرب وعلمانيي بلاد المسلمين تحديداً فإنك تشعر وهم يشعرونك بذلك، أَنَّهُم بَيْنَهم وبَيْنَ الإسلام ثأر. تشعر أنَّ مشكلتهم ليست مشكلة علمانية وإنَّمَا هي مشكلة تصفية حسابات مع الإسلام وكأنهم ورثة كفار قريش أو بني قريظة.

يتعاملون مع اليهوديَّة والمسيحيَّة بل وحَتَّىٰ مع البوذيَّة وعبادة الشيطان وغيرها من أديان عبادة الأوثان بتمجيدٍ واحترام وتقدير وإذعان، فإذا جاء الكلام علىٰ الإسلام انبحتوا انبحات جياع الأكلة السفهاء علىٰ قصعة طعام الأيتام الضعفاء.

ولذلك قلت بألم غير مرة لمثقفين وسياسيين غربيين سألوني عن سبب عدم تقبل العلمانية في العالم العربي والإسلامي: خذوا علمانيي المسلمين ليحكموا بلادكم وأرسلوا علمانيين من عندكم ليحكموا عندنا وسنكون سعداء بالعلمانية.

اليساريون والعلمانيون العرب والغربيون عقلية واحدة ومنهجية واحدة ومرجعيات واحدة وأهداف واحدة هٰذا أمر لا خلاف فيه ولٰكنَّ الفرق الجوهري وشبه الوحيد أنَّ موقف اليساريين والعلمانيين العرب من الإسلام والتراث العربي أشد عداء وحقداً وثأرية من أعداء العرب والإسلام من غير العرب وغير الأديان. بل إِنَّهُم لا يرون عدوًّا لهم غير الإسلام والتراث العربي، ويفخرون ويعتزون بما عند الأمم الأُخْرَىٰ من تراث وأديان. وهٰذه ظاهرة أكاد بل أجزم أَنَّهَا منقطعة النظير لدى شعوب الأرض وأممها قاطبة. العرب وحدهم ويلتحق بهم المسلمون هم الوحيدون الذين خرج منهم مثل هٰذا الحقد علىٰ الذات والسعي إلىٰ تدميرها.

حَتَّىٰ ولو كان الإسلام علىٰ خطأ، وهو ليس كذٰلك أبداً ومطلقاً، وحت لو كان التراث العربي مبتوراً أو سيئاً، وهو ليس كذٰلك أبداً ولا مطلقاً، فإنَّ هٰذا السُّلوك من علمانيي العالم العربي والإسلامي لا يمكن تبريره بحالٍ من الأحوال، بل أحسب أن العلوم تعجز عن تفسيره. حسبك وأنت ترى الياباني والصيني والهندي يعبد صنماً من حجر ويقدسه ويفخر به وبتاريخه ولا يقبل المساس به… ولا أتحدث عن بقية العقائد ومقارنتها مع الإسلام والتراث العربي والإسلامي. وحسبك أنَّ اليساري والعلماني العربي يحترم عبادة الشيطان والأوثان ويحتقر الإسلام.

إن أردت الاعتراض والقول بأن هٰذا غير صحيح فاعطني مثالاً وشاهداً… مع الأخذ بعين الاعتبار كما أشرت وكما لا يمكن نكرانه هناك استثناءات، والاستثناءات تعني القلة النادرة في الأغلبية القاهرة.

(المصدر: رسالة بوست)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى