مقالاتمقالات مختارة

العلماء وفلسطين .. تنزيل النصوص على الواقع المعاصر

خيراً فعلت هيئة علماء فلسطين في الخارج عندما ناقشت -في جلستها الأولى من مؤتمرها الذي عقدته هذا الشهر (فبراير/شباط 2017)- موضوع “الخطاب العلمائي في المرحلة الراهنة: موّجهات وأولويات”.

هذا الموضوع من المواضيع المهمة والحساسة الجديرة بالنقاش خصوصاً في أوساط العلماء. فقد دفعت الأمة أثماناً هائلة نتيجة بُعد الكثير من العلماء عن الواقع، وافتقارهم إلى الوعي، وعدم انشغالهم بهموم الجماهير ومعاناتها، أو تحولهم إلى علماء “رسميين” يتبعون خط “السلطان”.

ونحن هنا نحصر نقاطنا فيما يتعلق بتعامل العلماء مع الواقع المعاصر، وخصوصاً الجوانب السياسية المرتبطة بقضية فلسطين.

***

يرتبط حديثنا فيما يعرف بـ”فقه النوازل” أو “فقه الواقع”، والذي يُعنى بفهم الوقائع والمستجدات التي تحتاج إلى حكم شرعي. فكما أن العالم المفتي يجب عليه الإلمام بالنصوص الشرعية، ومعرفة مقاصدها، ومراتب الأدلة؛ فإن عليه معرفة الواقع بشكل صحيح دقيق، ومعرفة آليات التنزيل السليمة للنصوص على الواقع. وهنا يتم تطبيق القاعدة المهمة “الحكم على الشيء فرع عن تصوُّره”.

“الموقعون عن رب العالمين” أو أولئك المفتون الذين سيصدرون الفتاوى الشرعية، تقع عليهم مسؤولية خطيرة ليس فقط في فهم الواقع ومتابعة الأخبار، وإنما في تمحيص المعلومات وتدقيقها، وفي الربط بين الأحداث وفهم خلفياتها، ومعرفة مآلاتها.

وهذه مهارات يتدرب عليها المتخصصون في الإعلام والعلوم السياسية. فالجهات الإعلامية المحترفة ذات المصداقية العالية تتحقق عادة من أركان الحدث الخمسة (مَن؟ ومتى؟ وأين؟ وماذا؟ وكيف؟) وتستبعد الشائعات والدعايات التحريضية، والحشو المضلّل، والسموم والرسائل الإعلامية المبثوثة في النص… لتقدِّم صورة صحيحة دقيقة.

وإذا كان علماء أمتنا وسلفنا الصالح قد أجادوا علوم الجرح والتعديل ونقد السند والمتن؛ فإن علماء اليوم مطالبون بألا ينساقوا أمام طوفان الأخبار والتقارير الإعلامية المضلِّلة والموجَّهة، التي تسعى إلى “تزييف الوعي”، وتخدم -في كثير من الأحيان- أنظمة فاسدة مستبدة، أو سياسات غربية استعمارية، أو دعايات صهيونية، أو تعكس حالات إحباط وتخذيل. فإذا افتقد العلماء القدرة على التمحيص فقد يَضلُّون ويَضلُّ بضلالهم خلق كثير.

من جهة ثانية، فإن المتخصصين في الجوانب السياسية يتدربون على “فن إعداد التحليل السياسي”؛ وهو يرتبط عادة بالقدرة على تحليل الأحداث وتفكيكها، ثم إعادة بنائها والربط فيما بينها بما يحقق “الفهم” الصحيح للحدث وخلفياته، ويضعه في السياق الصحيح لأهداف وأغراض الجهات المعنية. أي أن التحليل السياسي يجيب على سؤال “لماذا؟”.

كما يتدرب هؤلاء المتخصصون على “فن إعداد تقدير الموقف” أو “التقدير الإستراتيجي”، لمحاولة استشراف السيناريوهات والمسارات المستقبلية، أي أن تقدير الموقف يجيب على سؤال “إلى أين؟”. وهذان السؤالان (لماذا؟ وإلى أين؟) مرتبطان بشكل جوهري بـ”فقه المقاصد” و”فقه المآلات” لدى العلماء. وبالتالي، فإن الوعي السياسي يصبح متطلباً أساسياً لدى العلماء للتعامل مع “فقه النوازل”.

وعلى سبيل المثال، أدرك علماء فلسطين وعلماء المسلمين خطورة المشروع الصهيوني على فلسطين منذ مراحل مبكرة مع بدايات الهجرة اليهودية المنظمة، وحتى قبل إنشاء المنظمة الصهيونية العالمية سنة 1897؛ فكان من أوائل من برز في مواجهته -منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر- مفتي القدس الشيخ محمد طاهر الحسيني. كما برز على مستوى العالم الإسلامي الشيخ محمد رشيد رضا (ابن لبنان الذي كان مقيما في مصر وفق التقسيمات الجغرافية المعاصرة).

غير أن الموقف من الثورة العربية على الدولة العثمانية في أثناء الحرب العالمية الأولى، ومن التحالف مع بريطانيا لإقامة الدولة العربية الإسلامية في المشرق العربي “تحت خليفة عربي من الدوحة النبوية”، قد شابه الكثير من الضبابية والجدل في التعامل مع هذه “النازلة”.

فكان ثمة متحمسون للثورة من الناقمين على حزب الاتحاد والترقي الذي مارس سياسات التتريك، وأفقد الدولة العثمانية جوهرها الإسلامي، وممن لا يرون بأساً من تحالف الضرورة هذا. وكان في المقابل متخوفون من “مآلات” التحالف مع قوى استعمارية طامعة في بلدان المسلمين.

وعندما تكشفت للمسلمين اتفاقيات سايكس بيكو ووعد بلفور وحقيقة النوايا البريطانية والفرنسية…؛ لم يكن هناك مجال لإرجاع الأحداث إلى الوراء، فقد حقق المستعمرون ما يريدون، وبسطوا سيطرتهم على بلاد الشام والعراق…، ووظفوا “ورقة الثورة” بطريقة مخادعة تخدم مصالحهم.

وكان من المفارقات اللافتة أن يستفيد الاحتلال البريطاني من غطاء التحالف مع الثورة العربية، فيدخل فلسطين وغيرها كقوة حليفة. حتى إن بعض العلماء (مع الكثير من المثقفين…) رحبوا “بدولة بريطانيا وجيشها المظفر منقذ البلاد”!! قبل أن يدركوا فيما بعد حقيقة الأهداف البريطانية.

ومن جهة أخرى، فإن علماء آخرين كان لهم قصب السبق في إدراك حقيقة النوايا البريطانية، وضرورة مواجهة المشروع الصهيوني، فكانوا من أوائل من بادر عملياً في بناء المشروع المقاوم للاحتلال. ولذلك فإن أول تنظيم عسكري سرِّي مقاوم نشأ في فلسطين مطلع عام 1919 وكان بتوجيه وإشراف علماء فلسطين.

وهذا التنظيم هو “جمعية الفدائية” التي كان من موجهيها الرئيسيين الشيخ محمد يوسف العلمي الذي وصفته تقارير المخابرات البريطانية بأنه “نشيط جداً، وأنه قوة محركة خلف الأضواء في كل الجمعيات (بما فيها الفدائية)، وأنه أعظم خطر كامن وسط المحرِّضين في القدس”. بالإضافة لعلماء كان لهم دور أساسي في هذا العمل، وفي التعبئة ضد البريطانيين والصهاينة، مثل الحاج أمين الحسيني(الذي أصبح لاحقا مفتي فلسطين)، والشيخ سعيد الخطيب، والشيخ حسن أبو السعود، والشيخ رشيد الخطيب.

وتنطبق إشكالية التعامل مع “النوازل” أو الأحداث على زيارة الرئيس المصري السادات للقدس في نوفمبر/تشرين الثاني 1977، وما تلاها من اتفاقية التسوية السلمية بين مصر و”إسرائيل” في كامب ديفد (معاهدة كامب ديفد)، وبرامج التطبيع التي رافقتها.

ويذكر كاتب هذه السطور أنه زار -ومعه بعض طلبة العلم- الشيخ عمر الأشقر رحمه الله، بعد أيام من ذهاب السادات للقدس. وكان رأي الشيخ الأشقر أن هذا الحدث يوازي في خطورته إسقاط الخلافة العثمانية، لما سينجم عنه من كسر عداء الأمة للمشروع الصهيوني، وتفكك مشروع مواجهته، والاختراق اليهودي الصهيوني للمنطقة. فكان هذا رأيه في فقه “المآلات” وبالتالي “وجوب” التصدي لمسار التسوية والتطبيع.

وفي المقابل، كان العديد من علماء الأزهر وخصوصاً “الرسميين” يباركون خطوة السادات؛ غير أن أبرز ما في ذلك المشهد هو منافحة أحد علماء التفسير الكبار في القرن العشرين عن زيارة أنور السادات ومسار التسوية السلمية؛ بل إنه خطب في مجلس الشعب المصري يوم 20 مارس/آذار 1978 وأقسم بالله أنه لو كان الأمر بيده لرفع السادات إلى مرتبة “من لا يُسأل عما يفعل”!!

وكان هذا الشيخ قد تولى منصب وزير الأوقاف في الحكومة المصرية، التي تابعت عقد المعاهدة مع الكيان الإسرائيلي. ولعل الشيخ رحمه الله (نسأل الله لنا وله حسن الخاتمة) تراجع فيما بعد عن تأييده للسادات وعن مثل هذه التعبيرات، حسبما نقله عنه البعض.

ولكن الخطير والمهم في الموضوع هو فقه التعامل مع الموقف في حينه، وليس بعد فوات أوانه، وليس بعد أن يكون الحكام والسلاطين قد استخدموا العلماء فيما يريدونه وجنوا حصاده؛ وبالتالي لم تعد هناك قيمة كبيرة لأن يُغيِّر عالم رأيه بعد أن “ذهبت الطيور بأرزاقها”!! ولذلك تُحسب لعلماء مصر -أمثال الشيخ عبد الحميد كشك والشيخ عاشور محمد نصر والشيخ صلاح أبو إسماعيل رحمهم الله- وقفتهم المعارضة للتسوية والتطبيع.

وينطبق على “فقه النوازل” الكثير من المواقف التي تحتاج إلى علماء أكفاء صادقين كالموقف من اتفاق أوسلو، ووادي عربة، والتدخل والاحتلال الأجنبي لبلدان المسلمين، والتنسيق الأمني مع العدو الإسرائيلي… وغيرها.

وقد رأينا بأعيننا علماء سوّغوا شرعية الانقلاب على الرئيس المنتخب محمد مرسي، بينما حرموا الخروج على عبد الفتاح السيسي، كما حرموا قبل ذلك الخروج على السادات وحسني مبارك. ورأينا بأعيننا من “المشايخ” في فلسطين من يجيز ضرب قوى المقاومة وملاحقتها، بحجة عدم جواز الخروج على السلطة الفلسطينية في رام الله، بينما يشجع القوى المعارضة على الخروج على السلطة في قطاع غزة بحسب مفاهيمه للشرعية والمشروعية.

إن القيمة الكبرى لمواقف العلماء أن يكون أحدهم هو “رجل الموقف” حين تختلط الأمور ويتشتت الناس، وتعمَّ الفتن وتشتد وطأة الظالم المستبد، ويصبح العالم “مشروع شهيد” يطبق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم “أفضل الجهاد كلمة حقّ عند سلطان جائر”، وقوله “سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله”.

وهذا النوع من المواقف -التي تجتمع فيها روعة الإيمان، وعزة الإسلام والجرأة والتضحية، وسعة الوعي، ووضوح فقه المقاصد والمآلات- هو ما يحتاجه الناس من العلماء، خصوصاً من رموزهم وكبارهم. وهي مواقف سدَّدت مسارات الأمة وحفظتها على مدار التاريخ؛ كما في موقف الإمام أحمد بن حنبل في فتنة خلق القرآن، وفي مواقف الشيخ العز بن عبد السلام… وغيرهما. أما أولئك الذين يُظهرون الحكمة بعد انعدام الحاجة إليها، فما أكثرهم، وفي المثل “ما أسهل أن تكون عاقلاً بعد فوات الأوان”!!

وهناك قاعدة جميلة مهمة كان يكررها الأستاذ الشيخ يوسف العظم رحمه الله، وهي “التقوى بلا وعي غفلة، والوعي بلا تقوى فجور”. ولذلك فإن اجتماع التقوى والوعي في شخص العالم يحميه من الغفلة، ولا يجعله مطية للحكام وأصحاب الأهواء.

هذا التوازن يحتاجه العلماء في تكوينهم العلمي وفي سلوكهم وممارساتهم. والعالِم يحتاج أن يكون أيضاً متوازناً بين عاطفته وواقعيته، وأن يكون متوازناً في حكمه مع المحبين والخصوم والأعداء، وفي بناء العلاقات، وفي اتخاذ القرار، وفي تقدير العواقب… وغيرها.

ومن جهة أخرى، فإن تنزيل فقه الأولويات على قضايا الأمة وحركة الأحداث هو من الأدوار المهمة للعلماء والمفتين. وقد لاحظنا مثلاً أن شيخاً مثل عز الدين القسام رحمه الله أفتى بتأجيل فريضة الحج للإنفاق من المال المتوفر على الجهاد ضد الاحتلال البريطاني والمشروع الصهيوني، وأفتى بعدم إنفاق الأموال على تزيين المساجد وأمر بإنفاقها على الجهاد.

وكان يقول: “يجب أن تتحول الجواهر والزينة في المساجد إلى أسلحة”، وقال: “رأيت شباناً يحملون المكانس لكنس الشوارع، هؤلاء مدعوون لحمل البنادق”، وقال: “رأيت شباناً يحملون الفرشاة لمسح أحذية الأجانب [يقصد الاحتلال البريطاني] هؤلاء مدعوون لقتل هؤلاء الأجانب”.

ولعل رسالة التابعي الجليل عبد الله بن المبارك من الثغور في الشام إلى التابعي الجليل الفضيل بن عياض في المسجد الحرام بمكة المكرمة تعطي مدلولات قوية في هذا الفقه، فقد أرسل إليه شعراً جاء فيه:

يا عابد الحرمين لو أبصرتنا ** لعلمت أنك بالعبادة تلعب
من كان يخضب خدّه بدموعه ** فنحورنا بدمائنا تتخضب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا ** رهج السنابك والغبار الأطيب

وأخيرا، مما يجدر التنبه له ضرورة أن يهتم العلماء بأن تترافق مع تخصصاتهم الشرعية تخصصات ثانية أو فرعية في الاقتصاد والاجتماع والعلوم السياسية والاجتماع والتربية… وغيرها. وذلك حتى يتمكنوا من التعامل بشكل سليم مع الواقع المعاصر وحركة الحياة؛ وتقديم إجابات حقيقية عن الإشكاليات التي تواجهها الأمة.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى