مقالاتمقالات مختارة

العلماء والسلطة.. من السيادة والحكم إلى التوظيف والتحكم

العلماء والسلطة.. من السيادة والحكم إلى التوظيف والتحكم

بقلم د. إبراهيم الطالب

لا يمكن لأحد أن يجادل في كون المغرب منذ كان دولة، ونظامه يعمل بالشريعة الإسلامية في التشريع والقضاء والاقتصاد والمالية وفي تدبير شؤون المجتمع والأسرة، وذلك إلى بدايات العقد الثاني من القرن العشرين، حيث تمكن الغزاة العلمانيون الفرنسيون من الهيمنة على كل مناحي الحياة في المغرب والتي استمرت طيلة 44 سنة.

وقد أبدع دهاقنة الاحتلال الفرنسي في تفتيت البنيات التشريعية والقضائية والاقتصادية والاجتماعية، والسياسية والتعليمية، والتي كان العلماء هم العماد فيها، بل الأساس في كل تنفيذ لسياسة الدولة، بوصفهم رجال الدولة ومثقفيها وأطرها التي كانت تخرجهم جوامعها ومساجدها.

فكيف تحولت مكانة العلماء من السيادة والحكم إلى التوظيف والتحكم؟؟

ولست أزعم في هذه العجالة أني سأستوفي الحديث عن كل جنبات الموضوع بل حتى عشر معشارها نظرا لطولها وتشعبها، ولكني أقنع بالإشارات الخاطفة عبر عناوين فرعية محددة كالتالي:

مكانة العلماء في مجتمع ما قبل الحماية:

لمّا كانت جميع النظم المعمول بها في مغرب ما قبل الاحتلال متفرعة عن الشريعة الإسلامية، كان العلماء هم عماد الدولة ورجالها فكان منهم أهل الحل والعقد الذين يشكلون مؤسسة الشورى، ويرجع إليهم الأمر في البت في النوازل والمحدثات، وكانوا هم من يعطي الشرعية الحقيقية للسلطان عبر نظام البيعة، وكان منهم القناصلة والسفراء والوزراء، والقضاة والعدول والمحتسبون، والأساتذة والخطباء، والولاة والعمال؛ ما يعني أن العلماء كانوا في قلب ممارسة السلطة بكل معانيها بل حتى أغلب السلاطين كانوا إما علماء وإما لديهم تكوين شرعي وتربوي ديني يجعلهم من أوفى رجال الدولة لشريعة الإسلام.

والباحث تفاجئه آلاف الوثائق التاريخية التي تشهد بأن الشريعة كانت هي الحاكمة لسياسة الدولة في مختلف الميادين، والمؤطرة لمواقفها في حالتي السلم والحرب، إلا ما نذر من مخالفات كانت غالبا تشجب وتنتقد من طرف العلماء والفقهاء.

الأمر الذي يجعل المطلع على تاريخ المغرب الحديث يلمس بوضوح ويقين أن المغرب قد تعرض لعملية تطوير قسري ممنهج على مستوى كل بنياته وعلى مراحل تدَرُّجية، من أجل تبديل نظام الحكم بالشريعة الإسلامية في كل المجالات بنظام علماني يفصل بين الأحكام الشرعية الإسلامية وتدبير الشأن العام.

العلماء إبان الغزو العلماني الفرنسي للمغرب:

ربما يمكن اعتبار  إجراء عزل السلطان عبد العزيز، عندما أراد الخروج عن أحكام الشريعة في الجبايات والعمل بنصيحة مستشاريه الأوروبيين في فرض ضريبة الترتيب، مع عدم استطاعته حماية الثغور (وجدة والشاوية) وضبط الرعية وإخماد الثورات، وما تلاه من تولية أخيه السلطان عبد الحفيظ “سلطان الجهاد” ببيعة مشروطة، ربما يمكن اعتباره آخر إجراء هام وكبير للعلماء على المستوى السياسي الرسمي قبيل الاحتلال الفرنسي.

وبعد ذلك كانوا المؤطر لحركات الناس والمحدد لمواقفهم من الاحتلال والوجود الأجنبي، وبعد فرض الحماية انقسم العلماء إلى ثلاثة مجموعات:

1- علماء مهاجرون اختاروا الخروج من المغرب لتحريمهم البقاء تحت حكم الكفار.

2- علماء مشاركون سواء في حكومة المخزن أو في التوعية والتعليم والخطابة والقضاء والحسبة، فضلوا عدم ترك المجال فارغا.

3- علماء مجاهدون التحقوا بصفوف القبائل المجاهدة والتي لم تستطع جيوش الغزو الفرنسي التغلب عليها إلا بعد سنة 1934.

وبعد القضاء على العمل الجهادي في المغرب أواسط الثلاثينيات، تغير وجه المغرب وكيانه، فتم تأسيس الأحزاب والنقابات وهيكلة الدولة وتنظيم الإدارات وتشكيل المؤسسات الحديثة الاقتصادية والتعليمية والقضائية والاجتماعية والسياسية والصحية والعسكرية، وسن القوانين المنظمة لمختلف القطاعات، فتطور المجتمع والدولة بشكل مهول، في حين تم إهمال القضاء الإسلامي إلى حد الإجهاز عليه تدريجيا، وكذا التعليم الإسلامي الذي لم يكن يوفر للطلبة الشواهد الكفيلة بإتمام الدراسة الجامعية؛ كما لم تكن شواهده تمكن أصحابها من ولوج قطاعات الشغل في الإدارات والوظائف، فاضمحل التواجد العلمائي وزهد الناس في العلوم الشرعية.

العلماء في مرحلة ما بعد الاحتلال إلى 16 ماي 2003:

لم يكن استقلال المغرب عن فرنسا استقلالا تاما كاملا، بل تم بشكل توافقي، اشترطت فيه فرنسا أن يكفل المغرب “المستقل” حماية مصالحها في المغرب، الأمر الذي فرض عليه أن يبقى رهينة للاقتصاد الفرنسي بل لم يستطع حتى التحرر من ثقافتها ومناهج تعليمها رغم محاولات التعريب والمغربة.

فكيف يمكن والحالة هذه الحديث عن استئناف العمل بالشريعة الإسلامية، وإرجاع مكانة العلماء في مجتمع مسلم مثل المجتمع المغربي الضاربة جذوره في الإسلام، والذي يشكل تاريخه جزء هاما من حضارة الإسلام في الشمال الإفريقي والأندلس؟؟

وأي مكان بقي للعلماء في مجتمع ودولة تطورا نحو العلمانية والنظم الغربية بشكل يستحيل معه استئناف العمل بالشريعة الإسلامية؟

بل إن ممثل حزب الشورى والاستقلال صرح في محادثات “إكس ليبان” أن حزبه حزب علماني وأن اليهود يجب أن يشكلوا جزء من الحكومة المقبلة.

السلطان محمد الخامس نفسه وهو أمير المؤمنين في أول خطاب للعرش بتاريخ 18 نونبر 1955 لم يعرج على أي ذكر للشرع ولا للشريعة وهو يتحدث عن تصوره للحكومة المقبلة حيث قال: “إن أول خطوة يجب أن يخطوها مغرب الاستقلال هي تأسيس حكومة عصرية مسؤولة، تعبر تعبيرا حقيقيا عن إرادة الشعب، وتجعل من بين المهام التي تباشرها، مهمة وضع أنظمة ديمقراطية على أساس الانتخاب وفصل السلط، في إطار ملكية دستورية قوامها الاعتراف لجميع المغاربة على اختلاف عقائدهم، بحقوق المواطن، وبالحريات العامة والنقابية”.

إرادة الشعب، والملكية الدستورية، وحقوق المواطن، والحريات العامة والنقابية، كلها مفاهيم تشكلت إبان مرحلة الاحتلال وأخذت مضامينَها من مرجعيتها الغربية العلمانية، الأمر الذي جعل العلماء لا يَرَوْن مكانا لهم في تدبير الشأن العام، خصوصا بعد الظروف السياسية التي أعقبت الاستقلال، وحالة الاقتتال البئيسة بين الأحزاب الكبرى، وتداعيات الاستقلال المنقوص ورفض جيش التحرير إيقاف عملياته العسكرية.

بل تَظهر المكانةُ التي أصبحت للعلماء بعد مرحلة الاحتلال، من نسبة التمثيل الذي خصص لهم داخل أول مؤسسة تمثيلية وهي المجلس الوطني الاستشاري (1956-1959) والذي يمكن أن يعتبر أول برلمان مغربي بعد الاستقلال، حيث أعطيت لهم 4 مقاعد من أصل 76 مقعدا عين فيها كل من: المشايخ العلماء: ماء العينين محمد، محمد بن الطاهر اليفراني، والحاج محمد التطواني، ومحمد داوود. وهي تمثيلية أقل أربع مرات ونصف من تمثيلية الفلاحين الذين أعطي لهم 18 مقعدا.

هذه التمثيلية تعكس المكانة التي أصبحت للعلماء في ظل دولة تغيرت 180 درجة عما كانت عليه، الأمر الذي صارت معه وضعية العلماء وضعية ملتبسة في أجواء اجتماعية وسياسية لا تقل التباسا.

أمام هذه الظروف فَهِم العلماء أن عليهم الحفاظ على الإسلام والشريعة ومقومات الهوية الإسلامية للبلاد، فاجتمعوا في رابطة علماء المغرب التي ضمت مختلف جمعيات العلماء المنتشرة في الأقاليم المغربية، وعقدوا مؤتمرهم التأسيسي في سنة 1960.

فحاولوا من خلالها لعب دورهم وممارسة التأثير على الحياة العامة، من خلال توصيات مؤتمراتهم التي طالبوا فيها باحترام الشريعة الإسلامية والعودة إلى إقامتها ومنع الخمور، ونددوا بكل المخالفات الشرعية من قمار وربا وسفور، وعبروا عن مواقفهم من الانحرافات العقدية والسلوكية.

كما حرصوا على استقلالية مؤسستهم من خلال التنصيص عليها في نظامها الأساسي الذي تمت الموافقة عليه في المؤتمر الثالث المنعقد بفاس بتاريخ 31 مارس 1968، والذي تضمنت مادته الأولى التنصيص على ذلك:

“تأسست رابطة دينية عامة تثقيفية تهذيبية غير متأثرة بمذهب سياسي ولا خاضعة لهيئة أخرى كيفما كانت، انبثقت من مؤتمر علماء المغرب المنعقد بالرباط بتاريخ 18-19 شتنبر 1960، وقد سمَّت نفسها “رابطة علماء المغرب” ولها فروع ملحقة بها في باقي جهات المملكة، فهذه الجمعية يجب أن لا تخضع لأية هيئة حكومية أو غيرها، طبقا لظهير الحريات العامة”.

لكن هذه الاستقلالية لم تدم حيث استطاع وزير الأوقاف السابق عبد الكبير المدغري اختراقها فأصبحت تابعة للوزارة تعبر عن رأي الدولة خصوصا بعد النصف الثاني من عقد تسعينيات القرن الماضي أي بعد موت الرواد المؤسسين.

العلماء بعد أحداث الدار البيضاء 2003:

في بدايات العهد الجديد عرف المغرب أحداثا دموية إرهابية ووجهت أصابع الاتهام إلى الخطاب الديني الإسلامي، وانخرط المغرب في الحرب العالمية على الإرهاب بقيادة أمريكا، وعين أحمد توفيق وزيرا للأوقاف بدل عبد الكبير العلوي المدغري في سنة 2002.

فانقلب التوفيق على مؤسسة العلماء التي تعتبر خاضعة لقانون الحريات العامة، وقام بما يشبه حلها بشكل مخالف للقانون، حيث غير اسمها فصارت تحمل اسم “الرابطة المحمدية للعلماء” لتفقد كل استقلالية، بل أصبحت كمركز لتحقيق التراث لا علاقة له بالواقع، وفضل أمينها العام السيد أحمد العبادي أن ينهج منهج التقريب بين العلمانيين الحداثيين والعلماء، وبالتالي انحرفت الرابطة عن أهدافها التي حددها مؤسسوها بل صارت تناقضها في بعض أعمالها.

في حين قام الوزير التوفيق بوضع خطة لهيكلة ما أسماه الحقل الديني، ووضع من أهم أهدافها عسكرة المساجد ومراقبتها والتحكم في المجالس العلمية وضبط الخطاب العلمائي حتى يتماشى مع متطلبات النظام، فجعل لمناديب الوزارة الذين هم إداريون سلطة مطلقة على علماء المجالس العلمية، في أكبر عملية لعسْكرة المجال الديني بالمغرب.

لقد صرح التوفيق غير ما مرة أنه جاء بمشروع يتساوق فيه الديني مع السياسي، لكن على مستوى الممارسة نرى السياسي في مشروعه يتحكم في الديني، بل جعل الدين في خدمة السياسة.

وقد تطلبت عملية إخضاع الدين للسياسة أن يعزل كل خطيب أو واعظ أو إمام له علاقة بالتيارات الإسلامية، بل شملت عمليات العزل كل من تعرض لانتقاد الممارسات السياسة التي تمس بالدين أو شجب الانتهاكات التي يقوم بها العلمانيون لجناب الشريعة والدين.

الأمر الذي يمكن نعته بمحاولة خلق طبقة من العلماء شبيهة بالإيكليروس، تحتكر الخطاب الديني والفتوى، بحيث ينظر لكل خطاب أو فتوى من غيرها فاقدة للشرعية خارجة عن الدولة والدين.

إننا حقيقة في حاجة ماسة إلى تقييم حقيقي لمشروع أحمد التوفيق في الشأن الديني، وما يجريه من عمليات متوالية على تدين المغاربة، وما يتخذه من إجراءات تحكمية تروم ضبط مجال اشتغال العلماء والوعاظ والخطباء، وتحييدهم التام عن أن يكونوا مؤثرين في الواقع والفكر، بحيث يجعلهم معرضين للعزل عند ممارسة أي نقد للسياسات أو بيان لما يخالف منها مقتضيات الشريعة والعقيدة، الأمر الذي جعل الناس تفقد الثقة في مؤسسات الدولة العلمائية وتبحث عن إشباع حاجتها الدينية خارجها.

وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.

(المصدر: هوية بريس)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى