العلم والمعرفة يهديان إلى التقوى والإيمان
بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
من أسباب الهداية حسب سنته سبحانه وتعالى في الهداية والضلال: العلم، وقد كانت أول آية نزلت في القرآن الكريم في الدعوة إليه ” اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ” (العلق : 1) . وتوالت آيات القرآن الكريم بما يضيق المجال عن حصره في الدعوة إليه بيان فضل العلماء. قال تعالى: ” وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا” (طه : 114) .وقال تعالى: ” يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ” (المجادلة : 11).
وقال تعالى: ” قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَايَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ” (الزمر : 9) . وقال تعالى: ” فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ” (محمد : 19) ، فأمر بالعمل بعد العلم.
وقد جاء القرآن الكريم يكشف لنا بوضوح عن تلك العلاقة الوثيقة بين العلم والهداية في آيات كثيرة، وذلك بحديثه عن العلماء واستعدادهم بما لهم من علم لخشية الله وحسن النظر في آياته والاعتبار بها وإدراك ما فصله الله منزلاً على رسوله وشهود وحدانيته سبحانه وتعالى. (السنن الإلهية، شريف الخطيب، 1/226)
قال الله عز وجل مبيناً أن العلماء هم الذين ينتفعون بالآيات المبثوثة في الكون، وهم الذين يستشعرون عظمة الله وقدرته، فيخشونه فيهديهم الله، قال تعالى: “أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ” (فاطر : 27 ـ 28) ، فالذين يستفيدون من اختلاف ألوان الثمار والجبال والناس هم العلماء، وهم الذين يخشونه حق خشيته، لأنهم العارفون به وبصفاته جل جلاله، وكلما كانت المعرفة للعظيم القدير الموصوف بصفات الكمال، المنعوت بالأسماء الحسنى، كلما كانت المعرفة به أتم، والعلم به أكمل، كانت هدايتهم كذلك أتم وأكمل.
وقال تعالى: ” هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ” (يونس : 5).
والعلماء هم أكثر استفادة وإدراكاً واتعاظاً واعتباراً، بالأمثال التي يضربها الله عز وجل في كتابه العزيز، ولأن امتلاكهم الأداء التي يعرفون بها عظمة وصدق هذه الأمثال، قال تعالى: ” وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ” (العنكبوت : 43)
الذين يعقلون عن الله عز وجل وأما مغلقي القلوب فيتخذونها مادة للسخرية والتهكم.
كما أنهم الأكثر استفادة من تبيين الآيات القرآنية وتوضيحها وتفصيلها وغير العالم يستوي عنده الإجمال والتفصيل، لأنه يملك لا الأداة التي يميز بها بين ذينك الأمرين قال تعالى: “قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ” (الأعراف : 32) .وقال تعالى: ” فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ” (التوبة : 11) .وقال تعالى:” وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ” (الأنعام، الآية: 97).
كما أن العلماء هم أكثر تأثراً بكلام الله سبحانه وتعالى وأسرع استجابة له وأعظم خشوعاً وإخباتاً لعظمته، وجلاله، وأعظم إدراكاً لمحكمه ومتشابهه مما يجعلهم أكثر تسليماً وإذعاناً لما يتضمنه من عقائد وأحكام. قال تعالى:” قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَتُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا” (الإسراء: 107ـ 109) . وقال تعالى:” هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَاتَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَايَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ” (آل عمران: 7).
وإن العلماء هم الذين يعرفون قدر كلام الله وعظمته وإعجازه، وإن هذا الكلام لا يمكن أن يصدر عن بشر فيدفعهم ذلك إلى الإيمان والتسليم والإذعان والاستفادة مما حوى من هدى وبيان. قال تعالى: “وَمَاكُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ” (العنكبوت: 48، 49).
والعلماء هم الأبعد عن إلقاءات الشيطان ونزغاته، ووسوسته وذلك لعلمهم بمداخله وأحابيله، فلا تزيدهم وسوسته إلا إيماناً ويقيناً وتسليماً بخلاف الجهلة الذين ينقادون لوسوسته وهم يحسبون أنهم يحسنون. قال تعالى:” لِيَجْعَلَ مَايُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ” (الحج: 53 ـ 54) . وقال تعالى:” شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” (آل عمران: 18) .
ولا تدل هذه الآية الكريمة على مجرد تشريف الله سبحانه لأهل العلم حيث جمع شهادته بالتوحيد إلى شهادة ملائكته وشهادتهم بذلك، ولكنها تدل كذلك على أن علمهم هو الذي يؤهلهم إلى شهود وحدانية الله عز وجل وإنفراده بالملك والتدبير، فالعلم من أول أسباب الهداية إلى معرفة طريق الله، والاستزادة منه سبيل إلى المزيد من هداه. (السنن الإلهية، 1/232)
ملاحظة هامة: اعتمد المقال في كثير من مادته على كتاب: “الإيمان بالقدر”، للدكتور علي الصلابي، واستفاد كثيراً من مادته من كتاب: “السنن الإلهية”، للدكتور شريف الخطيب.
_______________________________________________
المراجع:
- أركان الإيمان: الإيمان بالقدر، د. علي محمد الصلابي، دار المعرفة، بيروت- لبنان، الطبعة الثانية، 2011م.
السنن الإلهية في الحياة الإنسانية، د. شريف الخطيب، رسالة دكتوراه، جامعة أم القرى، مكة المكرمة 1987م.