مقالاتمقالات المنتدى

العلامة يوسف القرضاوي في ذكرى رحيله الأولى .. كلمات في نشأته ومنهجه الاجتهادي

العلامة يوسف القرضاوي في ذكرى رحيله الأولى

 كلمات في نشأته ومنهجه الاجتهادي

 

 

بقلم أ. عماد الدين عشماوي (خاص بالمنتدى)

 

في ذكرى رحيله الأولى هذه بضع كلمات قليلة في حق شيخنا وعلامتنا المرحوم بإذن الله الدكتور يوسف القرضاوي من بعض حقه الكثير على أجيال كثيرة من هذه الأمة.

نشأة القرضاوي

ولد القرضاوي في أسرة فقيرة يتيم الأب، بينما كانت والدته ربة منزل مصرية بسيطة تهتم أكثر بشئون أسرتها ورعايتها. فنشأة نشأة عصامية برعاية عمه، وقد تركت هذه التربية العصامية التي عاشها القرضاوي أثراً واضحاً في مسيرته العلمية فجعلته باحثاً مثابراً، وأنتفع بها كثيراً في بقية حياته المديدة، بل إن تلك التربية كانت عاملاً رئيسياً في إنجازه لموسوعاته عن الزكاة والجهاد وغيرها من كتاباته الكثيرة على مدى أكثر من ثلاثة أرباع القرن من المثابرة التي لا تعرف الكلل.

 المحيط الاجتماعي والعلمي

كان محيط القرضاوي الاجتماعي مليئاً بالشخصيات الدينية والفكرية التي أثرت كثيراً في حياته وشكلتها، ومن أهمهم المشايخ “شيوخ قريته صفط تراب، ومعلمه في الكتاب، ثم في المدرسة الثانوية، مثل الشيخ عبد المطلب البتة  الذي يعتبر المجدد الأول في حياة القرضاوي”[1] ، ثم شيوخه في كلية أصول الدين، ثم الشيوخ الذين لم يدرسوه لكنه كان على صلة بهم في مرحلة التكوين، ثم شيوخه في الإخوان، ثم أساتذته في معهد الدراسات العربية العالية، ومن أبرز هؤلاء: الشيخ البهي الخولي، محمد الغزالي، عبد العزيز كامل، سيد سابق، محمد البهي، عبد الله دراز، محمود شلتوت”[2] . كما كانت قراءاته المبكرة لتراث “رواد التجديد في التاريخ الإسلامي من القدامى والمحدثين: الإمام الغزالي صاحب الإحياء، الراغب الأصفهاني صاحب الذريعة إلى مكارم الشريعة، الإمام ابن القيم، الإمام ابن تيمية، الإمام الشاطبي، الإمام الدهلوي، رشيد رضا، محمود شلتوت، محمد يوسف موسى، على الخفيف، محمد المدني، محمد أبو زهرة، مصطفى الزرقا، مصطفى السباعي، وغيرهم”[3]  زاداً وأي زاد في تكوينه الفكري وتأسيس ثقافته الإسلامية.

في ظل هذه البيئات الخصبة المليئة بالقامات الفكرية الملتزمة بالهدي الإسلامي الساعية للنهوض بالأمة بدأت ميول القرضاوي الدينية والسياسية تتشكل، وقد ظلت تلك آثار الفترة راسخة في وجدانه وممارسته العملية طيلة حياته فيما بعد حتى وفاته، فعلى الرغم من انهماكه في العمل الفكري بالدرجة الأولى إلا أنه ظل يشارك في كل محطات النضال السياسي في حياة أمتنا العربية والإسلامية حتى وافته منيته رحمه الله.

في مدرسة الإخوان المسلمين

انتمى القرضاوي للإخوان مبكراً بعد سماعه لأحد أحاديث الشيخ حسن البنا، وقد تعلم في مدرسة الإخوان المسلمين معنى الإسلام الشامل والجهاد بمفهومه الشامل، ثم كانت حياته المديدة التي شرق فيها وغرب، وتنقل من الأزهر الشريف إلى قطر وإلى العالم الواسع . فقد غرست فيه جماعة الإخوان الإيمان بفكرة المجتمع وأن الإنسان ليس فرداً مطلقاً بل هو جزء من مجتمعه، وهو ما نراه واضحاً في التوجهات التي توجهها في الفكر والسياسة وفي قراراته المصيرية في غالب حياته فيما بعد.

ماذا أضافت مدرسة الإخوان للقرضاوي؟

يقول القرضاوي أن مدرسة الإخوان حققت له ما يلي:

1-وسعت أفقه بفهم الإسلام فهما شاملا.

2-أسقطت عنه فريضة العمل الجماعي لنصرة الإسلام.

3-انتقل من مجرد واعظ ديني إلى داعية إسلامي فلم يعد همه محصورا في الحفاظ على التدين الفردي في نفس المسلم، وإن كان هذا ضروريا ولا بد منه، ولكن لا بد من يقظة إسلامية عامة تصحو بها العقول وتحيا بها القلوب.

4-انتقل من الهموم الصغيرة إلى الهموم الكبيرة، ومن المطامح التي تتعلق بشخصه إلى الآمال المتعلقة بأمته.

5-أزالت دعوة الإخوان الحواجز النفسية والثقافية التي تفصل بين تعليمه الديني والتعليم العام فاستفاد من خرجي المدارس المدنية.

وصايا ثلاث عن حسن البنا

يقول القرضاوي في مذكراته: “حفظت ثلاث وصايا عن الشيخ حسن البنا: الاجتهاد في العلم، والاستقامة في الدين، والمحبة بيننا”[4].

وقفات مع منهج الإخوان في اختيار القيادات

 تحدث القرضاوي في مذكراته عن بعض النقاط الهامة التي كان يود أن تقوم بها قيادات جماعة الإخوان معه فيما يتعلق بتكوينه العلمي والفكري، وقد رأى أنها لو تحققت لكان له شأن آخر أفضل مما صار إليه-وهو هنا يوجه القيادات المسلمة لضرورة فهم طبيعة وتكوين كل شخصية تصلح للدعوة والاستفادة من قدراتها الحقيقية بعد تقييمها بشكل صحيح- حيث يقول: “كان يمكنهم أن يوجهوا مثلي إلى تدريب قلمه على الكتابة، بدل أن تستنفد كل طاقته في الخطاب الشفهي، ولم أكن أكتب إلا عناصر الموضوع الذي أتحدث فيه”[5]

كما يقول متحسراً: “لقد التقطني الإخوان، فوجهوني في نشر الدعوة هنا وهناك، واعتصروني اعتصارا، دون أن يكون لهم أدنى اهتمام لتوجيه مثلي إلى ما يجب أن يقرأه وأن يعده للقاءاته ومحاضراته في البلدان المختلفة، فكنت أن الذي يختار الموضوع، وأحدد عناصره، وأملأ فراغه بما يتراءى لي، وأقرأ له في إطار ما لدي من كتب وهي محدودة جدا في ذلك الوقت. صحيح أنه كان عندي من الوسائل والإمكانات الشخصية ما يشد الناس إلي، ولكن كان يمكن أن يكون أدائي أفضل، وإنتاجي أغزر، وموضوعاتي أخصب، لوكان معها التوجيه والتنظيم والإعداد العلمي، ثم التقويم والمراجعة للدعاة وأدائهم وأثرهم في كل مدة من الزمن”[6]. وهكذا تضيع المواهب للأسف عندما لا نتنبه لها جيداً.

ضياع فرصة تعلم الإنجليزية

يقول القرضاوي عن رغبته وقدرته على تعلم لغة ثانية، هي اللغة الإنجليزية “وكان حرصي على تعلم الإنجليزية نابعاً من شعوري بحاجة العالم والداعية المسلم إلى تبليغ رسالة الإسلام إلى الناس بلغاتهم، فالإسلام رسالة عالمية….ففي تعلم اللغات إضافة فكر آخر، وثقافة أخرى، وتجارب آخر للإنسان[7] .

وعن ضياع تلك الفرصة لعدم تنبه قادة الإخوان لقدراته على تعلمها يقول: “وكان يمكنهم أن يوجهوني إلى تعلم(اللغة الإنجليزية) وأن يساعدوني ماديا عليها، وقد كان لدي قدرة لغوية غير عادية، ولدي وقت فراغ، خصوصا في عطلات الصيف، ولو تم هذا لكان فيه خير كثير، لي وللدعوة التي نذرت حياتي لخدمتها. ولكنهم لم يفعلوا، بل لم يخطر لهم ذلك ببال”[8]

لماذا تأخر القرضاوي في الكتابة والتأليف؟

يقول القرضاوي عن أسباب تأخره في الكتابة والتأليف “اعتبر نفسي بدأت الكتابة والتأليف متأخرا نسبيا. ذلك أني كنت مشغولا بالدعوة الشفهية، وبالخطاب الارتجالي، طوال المرحلة الثانوية والجامعية بالأزهر. فكنت أخطب وأدس وأحاضر ارتجالا، إلا ما قد أعده من محاور ونقاط رئيسية في مذكرات خاصة. ولم ينبهني أحد-ممن هم أكبر مني- أن لدي ما يمكن أن يكتب ويحرر، وأن من المهم للداعية أن يستخدم القلم، كما يستخدم اللسان”[9]

القرضاوي يتحدث عن تطوره الفكري

وعن تطوره الفكري يقول القرضاوي في مذكراته: “لقد كان يغلب علي في الأربعينيات حماس الشباب، وخيال الشاعر، وأسلوب الواعظ، ولكني-طوال حياتي- لم أكن جامدا ولا مقلدا تقليدا مطلقا، فكنت منذ المرحلة الابتدائية أناقش شيوخي، وأقبل منهم وأدع، وكنت وانا في المرحلة الثانوية أدرس الفقه متخيرا من المذاهب، كما لم أجنح إلى الغلو ولا إلى التسيب في أي فترة من عمري؛ كانت الوسطية كأنما هي جزء من كياني، فطرة فطرني الله عليها. يتبين ذلك في أول مؤلف حقيقي أدخل به ميدان التأليف، وهو كتاب “الحلال والحرام” وفيه تجلى منهج الاعتدال والتيسير، كما يتجلى فيه روح الاجتهاد والتجديد، بوصفه منهجا جديدا في كتابة الفقه المعاصر”[10]

 

وعن منهجه الاجتهادي

يقول القرضاوي عن منهجه الاجتهادي الذي استقر عليه بعد تمكنه من أدواته الفقهية والشرعية وخبراته الطويلة في الفكر والعمل أن هذا المنهج الاجتهادي يقوم على: “الإيمان بحكمة الشريعة وربط النصوص بعضها ببعض، ووصل النصوص بواقع الحياة والتيسير، والانفتاح على العالم والحوار، وأبرز مرتكزاتها: البحث عن المقصد قبل إصدار الحكم، وفهم النص في ضوء ملابساته، والتمييز بين المقاصد الثابتة والوسائل المتغيرة، والملاءمة بين الثوابت والمتغيرات، والتمييز بين العبادات والمعاملات في الالتفات للمعاني”[11]،  كما يؤكد أن من أهم أهداف منهجه هذا ” أن نحل مشكلات عصرنا بعقولنا مستفيدين من الفقه القديم ومضيفين إليه الاجتهادات الجديدة التي تربطنا بالأصل ولا تفصلنا عن العصر”[12]، وأن “الاجتهاد الذي نعنيه ينبغي أن يتجه أول ما يتجه إلى المسائل الجديدة والمشكلات المعاصرة، وينبغي أن يعيد النظر في القديم ليقومه من جديد في ضوء ظروف العصر وحاجاته”[13]

خاتمة

يمكن القول أن الزاد الوفير من: القيم الاجتماعية الريفية، والإيمان المشبع بالخلفية العلمية في الأزهر وحفظ القرآن المجيد، والانغماس في حياة مصر السياسية، والالتحاق المبكر بجماعة الإخوان، ووجود المشايخ المجددين في مقتبل عمره وتأثره بهم، والرغبة الجامحة في القراءة، كلها جميعاً كانت المخزون الذي امتلأ به عقل وقلب القرضاوي الشاب وهو يخوض مرحلة تثبيت جذور حياته الفكرية والتي نتناولها.

فقد تعلم القرضاوي، مبكراً، أثناء دراسته كيف يستند إلى تجربته الخاصة وإلى تراثه ولا يتنكر له بل يوظفهما في عملية الإدراك والتفسير، كما وازدادت جرأته على النقد والتحليل المستند لخبراته وتراثه من خلال تشجيع أساتذته له في المدرسة والكتاب والجامعة وفي جماعة الإخوان وفي مختلف المؤسسات التي عمل بها، فالبيئة التي عاش فيها كانت محفزة ومشجعة من: أساتذته وأصدقائه وجماعته التي انتمى إليها، كل ذلك ساعده على اكتشاف نفسه وتحقيق بعض إمكانياته الإنسانية، وقد أثرت هذه الروح فيه ولازمته طيلة حياته.

كما كانت فترة عمله في مكتب شيخ الأزهر ومع وزير الأوقاف الدكتور البهي مليئة بالخبرات التي أوضحت له جوانب المشهد الثقافي العربي والإسلامي، وبلورت لديه  قضية ضرورة التجديد الفقهي ومخاطبة الناس بلسان عصرهم دون الخروج على الشرع والتزام منهج التيسير في فقهه..

كما أن الاهتمام بالسياسة وبهموم الوطن: سياسة وطنه مصر، وأمته العربية والإسلامية جعل السياسة جزءاً من حياته، وإلى هذه الفترة من حياته يمكننا أن نرجع توجهاته السياسية وتغيراتها وصولاً إلى مرساته الاخيرة في الإسلام الحضاري. وآثار ذلك في كتاباته وآرائه.

فقد تكونت ذائقته الفقهية على مهل بعد أن سلكت سبل التراث والمعاصرة ذللا واستخرج منها أجمل رحيقها،  وكان عمره المبارك المديد والاستضافة الكريمة من دولة قطر وسفرياته الطويلة للعالم أجمع وتلاقح فكره مع أفكار ومداس فكرية وعقول نابهة عديدة في الأمة وخارجها واشتراكه في مؤسسات ومجامع فقهية مراكز دراسات متعددة تضم خيرة العقول والفقهاء والعلماء. فقد كانت تجربته الثرية في قطر والسفر لبلدان العالم شرقا وغربا وشمالا وجنوبا أحد الروافد الرئيسية لتكوين وتوجيه أفكاره فيما بعد، حيث عاين الحياة. في ضوء الشرع فأنتج ثماره الفكرية الزكية.

ويمكن القول، إجمالاً، إن مذهب القرضاوي ومشروعه الفكري قد تشكلا من خلال سمات شخصيته وظروف حياته والقضايا التي آمن بعدالتها، فهو لم يكن صاحب اهتمام أكاديمي بالأفكار لذاتها، بل كان مسلماً ملتزماً بميثاقه مع ربه ورسوله وأمته قدم أفكاره وأعماله من أجل بعث جديد لأمة الإسلام.

وكما يمكن القول أخيراً أن رحلة القرضاوي الدعوية والفكرية, وعملية تشكل أفكاره (الثمر) التي هي نتاج  جذوره (حياته الثقافية والعملية بأسرها) وبذوره (تكوينه في صفط تراب) هي سيرة القرضاوي الذي عرفناه: الإنسان الذي عاش عصره والتقي في فضاء حياته الخاص بالعام، كأحد أبناء أمة الإسلام الذين وقفوا في مركز العالم ثابتين لا تزحزحهم مادية حضارة العصر ولا الهزيمة المؤقتة لأمة الشهادة ليكون الدين لله ويتحقق الإنسان بالنفخة الربانية العاصمة من بؤس الحضارة الغربية المادية التي أتعبت أبناء آدم، وهي التي خاض من خلالها تجاربه وخبراته الحياتية التي أصبحت جزءاً من النموذج المعرفي والتحليلي الذي استخدمه في أعماله الفكرية، وهي التي هيأت له أن ينتج آثاره التي أثرى بها حياة أمته حتى انتشرت خطبه وكتبه بين أبناء العالم الإسلامي “لما لها من مذاق غير مذاق الآخرين، ووقعاً في النفوس غير وقع الآخرين” كما قال له يوماً الشيخ أبو القايد الجزائري”[14]

رحم الله القرضاوي رحمة واسعة وغفر له وأسكنه فسيح جناته، واعان أله وتلاميذه وعارفي فضله على إحياء تراثه-ليس بالنشر فقط- ولكن بمدارسته مدارسة علمية لتفيد منه الأمة بكافة أطيافها: حكاما وساسة، واقتصاديين وعلماء اجتماع، ومبدعين وفنانين وأدباء، وآباء وأمهات، ومعلمين وباحثين، ورجالا ونساء، وشبابا وشابات وأطفال، فقد ترك القرضاوي ثروة فكرية هائلة يمكن لكل هؤلاء الاستفادة منها إن أحسنت الأمة القيام بحقوق علمائها عليها.

[1] القرضاوي، يوسف. ابن القرية الكتاب، دار الشروق، القاهرة، 2001م، ط1،  ج1 ص 14-15

[2]  الخطيب، معتز ، يوسف القرضاوي فقيه الصحوة الإسلامية: سيرة فكرية تحليلية. مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي. بيروت، لبنان، ط1، 2009م، ص142-146.

[3] المرجع نفسه، ص146-147.

[4] القرضاوي، يوسف. ابن القرية والكتاب، ج1، مرجع سابق، ص 287.

[5] المرجع نفسه، ص 312.

[6] المرجع نفسه، ص309.

[7] القرضاوي، يوسف، ابن القرية والكتاب، دار الشروق، القاهرة، 2002، ج2، ص240.

[8] القرضاوي، يوسف، ابن القرية والكتاب، ، ج1، مرجع سابق، ص 312.

[9] القرضاوي، يوسف، ابن القرية والكتاب، ج2، مرجع سابق، ص331.

[10] القرضاوي، يوسف، ابن القرية والكتاب، دار الشروق، القاهرة، 2011، ج4، ص818-819.

[11] معتز الخطيب، يوسف القرضاوي فقيه الصحوة الإسلامية، مرجع سابق، ص188، وهو ينقل عن كتاب القرضاوي دراسة في فقه مقاصد الشريعة.

[12]  المرجع نفسه، ص249.

[13]  المرجع نفسه، ص190 وهو ينقل عن كتاب القرضاوي الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد.

[14] ص 542 المذكرات ج4

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى