العطش نحو المقدس.. هل نشهد موت الإلحاد الحديث؟
إعداد أنس غنايم
تلقى الخبر عامة الناس، المتدينون واللامتدينون والسياسيون العلمانيون وغير العلمانيين والإعلاميون، باهتمام كبير، فأثارت هذه الواقعة الحديث مجددا عن عودة الديني وسلطته الروحية المتزايدة(2)، حيث لامست وفاته في كل أنحاء العالم وترا في الضمير لم يكن ينتظر سوى من يعزف عليه.(3)
في هذا الصدد تقول الباحثة الفرنسيّة تيريز دلباش إنّ “المغزى الوحيد الواضح لمشهد الحشود مختلفة الألوان والأشكال والمشارب التي قصدت روما في أبريل/نيسان من عام 2005 للمشاركة في جنازة البابا يوحنّا بولس الثاني لا يمكن تفسيره بغير (المجاعة الروحيّة)”.(3)
هذه “المجاعة الروحيّة” كما وصفتها “دلباش”، وأدركتها الجماهير، تكاد تكون السمة المُميّزة للإنسان المعاصر في عالمنا اليوم، غير أنّ أصولها ترجع إلى ما قبل ذلك، ففي العودة إلى القرن المنصرم، بدأ الفكر الأوروبي، ومنذ الحرب العالمية الأولى، في الربع الأول من القرن العشرين، يتحدث عن أزمة الحضارة الرأسمالية، والأزمات المرتبطة بالإنسان المعاصر. فما مظاهر هذه الأزمة؟! وما مدى تأثيرها على حضور الدينيّ وعودة المُقدّس؟! آفاق ذلك، وأسبابه، ونتائجه، هذا ما سنتعرف عليه صُحبة الفيلسوف والمؤرخ الفرنسيّ “فيليب نيمو”.
منذ مطالع القرن العشرين وحتى نهايته، نشأ تيار فلسفي، وأدبي، كان من أشهر رموزه أرنولد توينبي وروجيه غارودي وأدورنو وغيرهم من المُفكرين والأدباء والفلاسفة.
تمحور جُلّ حديثهم عن تخلّف وعود الحداثة، وعدم قدرتها على الوفاء بوعودها، وآية ذلك أنّ عصر التنوير، في شكله الكلاسيكي، قد بشّر بالإنسان الشامل، وكونية الفكر الإنساني، ووعود الاكتشافات الجغرافية، والعلمية، وحضارة الآلة، إلخ، بيد أن ما بدا محط إعطاء للوعود، أخلف وعوده، مختصرا الإنسان الشامل في “الإنسان الأبيض”، الذي لا يعترف بغير الإنسان الأوروبي، ومختصرا كونية الحضارة الإنسانية في “الاستعمار”، الذي أوكل إلى ذاته “نهب العالم الثالث” وتدمير ثقافات البلدان المستعمَرة.(4)
ولعل وعود عصر التنوير الأوروبي، الذي آمن بوحدة العلم والمستقبل، هي التي دعته إلى الإعلان عن حقبة إنسانية جديدة عنوانها: غروب الدين. فأكّد ماركس، وليس بعيدا عنه، لاحقا، ماكس فيبر، أن وضوح الظواهر الطبيعية التي تصدر عن تقدم العلوم، كما أنّ زيادة الطاقة الإنسانية التي تُشبع حاجات الإنسان، تدفع بالدين إلى “التلاشي”، والانزواء إلى الظل، أو الموت كما أعلن فريدريك نيتشه عن “موت الإله”، وليس أقلّ من اعتباره جزءا من مرحلة إنسانية منقضية، كما ذهب أوغست كونت إلى ذلك.(4)
غير أن تلك الوعود ما لبثت أن تلاشت في الهواء، جراء حروب عالميّة، وصراعات دامية، خلّفت جُثثا لا وقت للتعرّف عليها، وحالة من الاكتئاب، والقلق، جعلت العالم ينزل على ضيافة العدميّة واللامعنى. خاتمة هذه الوعود وفشلها كان في سقوط الاتحاد السوفيتي نهاية القرن العشرين.(4)
أفضت هذه الأوضاع المأساوية إلى سقوط فكرة التقدم، فلم يعد التاريخ الإنساني يسير مستقيما إلى عالم النعمة والرخاء، بل أصبح يسير نحو “الكارثة”، وكان على سقوط فكرة التقدم أن تُسقِطَ معها جملة أفكار ملتصقة بها، فلم تعد “العقلانية”، أو “دين العقل” كما كان يقال، معطى مباشرا له شكل البداهة واليقين، فذهب “زمن اليقين” وأخذ مكانه زمن الشك والتساؤلات.(4)
كما أنّ العلمانية فقدت بريقها، فبعد “تحرير العالم من سحره”، أي طرد الغامض والميتافيزيقي واللاهوتي منه، عاد العالم لـ “استعادة سحره القديم” من جديد، وبدا أنه بحاجة إلى “قوة مُقدّسة” تقف خارجه، وتضبط حركته وتأخذ بيد الإنسان إلى “الطريق القويم”.(4)
وفي ظل حالة التأزّم العام، وخطاب الفجيعة، والكارثة المحدقة بالعالم الغربيّ، الذي أشرنا إليه آنفا، انطلقت ترسانة تضم العديد من المفكرين الذين بشّروا بعودة ليس “الدينيّ” و”المعتقدات الدينية المألوفة” فقط، بل عودة الإيمان بـ “الغامض” و”الإلهي” و”الرمزي المقدّس” كما يرى الفيلسوف الفرنسي أندريه توزيل.(4)
ولتغدو المسألة الدينيّة، وعودة المُقدّس، مسألة أساسية في أعمال عديد من المفكرين والفلاسفة، أمثال: بول كلافال، وأندريه توزيل، وكريستوفر إليسون، ورولف فيغرسهاوس، وجييل كيبل، وإنزو بييس وغيرهم.(5)
وفي سياق هذه الأعمال يبرز عمل الفيلسوف الفرنسيّ “فيليب نيمو” الذي يحمل عنوان: “الموت الرحيم للإلحاد المعاصر”، والذي يُضاف إلى جملة الأعمال التي تتنبأ وتراهن على عودة دينية في قلب العالم الحديث، تتحدى العلمنة ونفي الدينيّ والمُقدّس.(5)
ينطلق عمل فيليب نيمو “الموت الرحيم للإلحاد المعاصر” من فكرة أساسيّة يكاد ينتظم بها عقد الكتاب، وهي أنّ تجربة التنوير والحداثة الأوروبيّة، وطيلة فترة جلوسها في “حضن الشيطان” كما يُحب تسميتها فيليب نيمو، مستعيرا توصيف “موريس كلافيل” للفترة التي وُجّهت كل الجهود فيها إلى دحر فكرة الإله (6)، لم تستطع القطع مع فكرة المُقدّس، والمُتعالي، والدينيّ.
وحاصل الأمر أنّ التجربة الأوروبيّة قطعت صلتها مع المسيحيّة، لا مع عموم المقدس، وكان أن قامت التجربة الأوروبيّة بتقديس غير المُقدّس بديلا يُستعاض به عن المسيحية، وتمثّل ذلك في أغلب الأحيان في الترويج لخطابات جديدة تزعم أنّها قادرة على أنْ تُفسّر العالم والإنسان بطريقة أكثر صدقا وفاعلية من المسيحيّة والأديان السماويّة.(6)
وإذا كان “مرسيا إلياد” يرى أنّ الوعي بظاهرة تحول الدنيويّ أو غير المُقدّس إلى مُقدّس، ورصد فكرة إنشاء “خبرة دينيّة” ذات طابع دنيويّ جذريّ للعالم والوجود البشريّ في الإطار الأوروبيّ، يحتاج إلى أكثر من مجرد مؤرخ أديان أو مؤرخ أفكار(7)، أي إلى فيلسوف، ومُفكّر، فهذا ما نجده ويتوفر في “فيليب نيمو”. وفي ذلك يرى نيمو أنّ هذه الخطابات والتيّارات يُمكن إجمالها في خمسة تيّارات أساسيّة:
يرى “فيليب نيمو” أنّ التقدم العلميّ المذهل للعلم منذ عصر غاليليو ونيوتن وبوفون وغيرهم، وتطور العلوم خلال القرنين التاسع العشر والعشرين، بدا وكأنه يُبشّرُ بعصر يُمكن للعلم أن يُفسّر فيه كل شيء، حيث سيمتلك العلم وحده حكمة إنسانية جديدة كاملة.(8)
هذه التباشير والآمال وما رافقها من زخم كبير، جعل من العلم الطبيعيّ يتحول إلى نزعة أيديولوجيّة، عُرفت بالنزعة العلمويّة أو مذهب العلمويّة (scientism)، والذي يعني في حقيقة أمره “القول بوجوب اتّباع مناهج العلوم الطبيعيّة في جميع حقول المعرفة لأنه المنهج الموثوق الوحيد للوصول إلى الحقائق، وأنّه لا حقيقة سوى ما توصلت إليه تلك المناهج العلميّة، وعليه فلا حاجة إلى مصدر آخر للمعرفة، فالعلم هو المصدر الوحيد وعلى أساسه تقاس الأمور، وكل ما خالف العلم من دين أو أخلاق أو فلسفة فهو باطل”.(9)
فتصوّروا أنّ العلم سيكون بعد وقت قريب قادرا على أن يحل كل شيء، وأن لا حقائق خارج المختبر. ويعود هذا التأسيس الفكري لهذه النزعة -كما يرى نيمو- إلى سان سيمون الذي دافع عن الفكرة التي مفادها “أنّه إذا حكمت القرون الوسطى العلاقات الحسنة بين السلطة الزمانية-السياسيّة والسلطة الروحيّة-المسيحيّة، فإنّه يلوح في الأفق “عصر عضوي جديد” تكون فيه السلطة الزمانية للصناعيين والسلطة الروحيّة للعلماء”، وبذلك سيحتل العلم موقع الدين بالكلية.(10)
مرورا بأوغست كونت -تلميذ سان سيمون- الذي سيقوم بتمديد هذه الرؤية، وذلك من خلال نظريته في “الحالات الثلاث” التي مرّت بها الإنسانيّة عبر وعيها وتطورها: 1- المرحلة اللاهوتية 2- المرحلة الميتافيزيقيّة 3- المرحلة الوضعيّة-العلميّة، والتي مؤداها أنّ الدين مرحلة سابقة قد انقضى أجلها. (10)
وصولا إلى العلمويين المعاصرين أمثال برتراند راسل وريتشارد دوكنز وغيرهم من علماء الطبيعيّات الذين ذهبوا إلى أنّ العلم سينتزع المعنى بصورة نهائية من كل تساؤل حول الله.(10)
يعبر بنا -فيليب نيمو- إلى ثاني النزعات التي ظهرت بديلا عن المسيحية، ونعني هنا الحركة الاحتجاجية التي قامت ضد المسيحية، تلك الحركة التي كان لها أعمق الأثر وأدومه -كما يرى نيمو-، فقد ظهرت أيديولوجيات تزعم أنّها لا تعوّض المسيحيّة في أفكارها وأطروحتها وطقوسها، ولكن في فعلها الخلاصيّ نفسه، وذلك عبر تغيير العالم والإنسان وعبر ولادة مجتمع جديد يكون “جنّة على الأرض”. (10)
ويقصد فيليب نيمو بهذه الحركات الخلاصيّة الحركات الكُبرى التي شيّعت القرنين التاسع عشر والقرن العشرين كالاشتراكيّة والشيوعيّة والفاشيّة والنازيّة، والتي تُمثّل تجسيدا علمانيا لنزعة الحركة الألفيّة * نفسها.
هذه الحركات لا تنظر إلى المسيحية باعتبارها خاطئة فقط، بل إنها مبدأ الشر، وذلك لأنها بحكم تحالفها مع أصحاب الامتيازات والقوى الاجتماعية الرجعية تُشكّل حاجزا أمام ظهور عصر الإخاء الإنسانيّ. ولن تبلغ الإنسانية السعادة عبر الإيمان والرجاء المسيحي، ولكنها ستبلغ ذلك عن طريق الثورة العُمّالية والنضاليّة. (10)
في الوقت الذي كان فيه الإيمان المسيحيّ والمُمارسة الدينية التقليدية تعرف ضمورا، كان هنالك ميل إلى المقدّس الوثنيّ خلال القرنين التاسع عشر والعشرين على السواء، وهذا الميل جاء على صورتين -كما يرى نيمو-:
1- مقدس ما قبل المسيحيّة: والذي عمل على إحياء “النزعات الفولكلوريّة، وتجميع أناشيد وقصائد شعبية، اكتشاف الخرافات الاسكندنافية العتيقة”.(10)
2- مقدّس الديانات غير الأوروبيّة: وقد وقع اكتشاف هذه الأساطير تحديدا بفضل الحركة البحثيّة الهائلة التي تمّت في إطار الاستعمار، الذي سمح بظهور علم الإناسة وبالدراسة المنظّمَة للثقافات الآسيويّة والأفريقيّة. ولم يكتفِ البعض بدراسة الهندوسيّة والبوذيّة، بل اعتنقوهما ليدرّبوا الأوروبيين على ممارسات اليوغا والتأمل وطقوس البوذيّة والمذاهب الباطنية.(10)
وكما أخذ الابتعاد عن المسيحية منعرجا دينيا، واجتماعيا، وعلميا، فلا بد لهذا المنعرج أن يَمُرَّ بالمنعرج الفلسفيّ -كما يرى نيمو-، وهذا ما تمثّل في انبثاق فلسفات تزعم ملامسة المطلق والوصول إليه وتملّكه.(10)
وهنا تجدر ملاحظة يذكرها -نيمو- وهي أنّ المنعرج الفلسفيّ في مفاصلته مع الدين ليس كالمنعرج العلميّ في مفاصلته مع الدين، فإذا كان العلم في نقده للدين تخلّى عن المطلق، كما عبّر أوجست كونت عن ذلك بـقوله: “لقد تخلى العلم عن “لماذا”.. لفائدة “كيف”؟!”.(10)
فإنّ الأمر في الفلسفة لم يحصل، إذ لم يقع التخلي عن الأسئلة النهائية حول الوجود الإنساني، ولكن كان هناك سعي إلى تقديم إجابات تقوم على العقل البشري وحده. والحديث هنا أقرب ما يكون عن الفلسفات ذات النزوع الكُليّ، والتي يُتصور إمكانية تأسيس المعنى بالاستناد إليها، كالفلسفة الوجوديّة ** وأعلامها الكبار كنيتشه وكيركيغارد وهاديجر وسارتر.(10)
خامسُ هذه المُقدّسات غير الدينيّة التي حلّت محلّ المسيحيّة، كما يشير فيليب نيمو، يتحدد في ذيوع وانتشار الفن في عصر الحداثة الأوروبيّة، وإدخال الموسيقى إلى شتى مناحي الحياة الحديثة. حيث رأى -نيمو- أنّه لا يمكن فهم هذا الحضور الطاغي للفن والموسيقى بدون استحضار عمليات اغتيال الدين ومتعالياته التي زاولها العقل الأوروبي منذ غاليليو إلى يومنا هذا.(10)
حيث اتخذ رفض المسيحيّة هنا شكلا حاول إعطاء طابع مطلق للفن، فعرف الوعي الأوروبيّ علم الجمال الرومنسي للعبقرية، والعقيدة الألمانيّة القائمة على ما يُسمّى “الموسيقى المطلقة”.(10)
وقد جعل عشاق الموسيقيّ الألمانيّ ريشارد فاغنر من مسرح باريوث، الذي كان يؤدي فاغنر عروضه عليه، شكل معبد حقيقيّ، لكن بدل أن تُقام فيه طقوس دينيّة وصلوات، تُسمع فيه موسيقى هدّارة، ويُشاهد على خشباته مسرحيّات.(10)
وهذا ما دفع بـ إيغور سترافنسكي إلى السخرية بشكل لاذع في العديد من كتاباته من هذا الخداع البائس -كما يسميه- (10)، كما أنّه لا أحد يُماثل في دوره، أو فعله، فعل إله، أو قسيس في أحسن الأحوال، كـ “قائد الأوركسترا على المسرح”!
ويرى نيمو هنا أنّ “الحالة الجماليّة” الطاغية، التي صارت تتخلّل جميع مناحي الحياة في أوروبا وأميركا، هي نتاج تحوّلات القيم والأخلاق الإنسانيّة التي لم تعد تتأسس بالضرورة على أبعاد ومفاهيم من قبيل الخير والشر أو الحق والباطل، إنما على مفاهيم الجمال.(10)
بعد رصده للتيارات والخطابات المُقدّسة غير الدينيّة، خلص نيمو إلى أنّ التجربة الأوروبيّة لم تنفك عن احتوائها للمقدّس. لكن المشكلة كانت في طبيعة هذا المقدس، الذي غلبت عليه صورة العلمنة، بحيث تمّت هندسة أشياء غير مقدسة على أشكال وصُور مُقدّسة، وهو ما سمّاه بدوره -فيليب نيمو- بــ “اللاهوت السلبيّ في مقابل اللاهوت الإيجابي!”.(10)
ليخلص بعد هذا أنّ جوهر أزمة الدين في الإطار الغربي تكمن في أنّ كل الاستبدالات المُعلمنة للدين، من النزعة العلمويّة إلى الحركات الألفية الخلاصيّة إلى الوثنيات والأديان “المتروحنة” إلى الفلسفات الكبرى والجماليات وتأليه الموسيقى، إلخ، لم تقدر على سد الفراغ الروحي والوجوديّ والمعنويّ الذي أحدثته التجربة الأوروبيّة من نفي للمسيحيّة.(10)
وآية ذلك أنّ كل هذه التيارات أُنهِكت من غير مُنهكٍ خارجيّ، ولذا يُسمّي فيليب نيمو أفولها الذي يُبشّر به “موتا رحيما” (10)، لم يكن جرّاء نزالات وصراعات ومعارك مع الدين.
وينبغي الإشارة في هذا السياق إلى ما أورده زيجمونت باومان من جهة أن ما استحدثته الحداثة الغربية من مقدّسات بديلة لم تتوفر على الصلابة التي تتوفر في المقدّس الديني، ومن هنا تكمن سيولتها.(11) وهي ليست فقط سائلة كما يرى باومن، بل هي ملحدة كما يرى نيمو، صحيح أنّها “مُقدّسات مُحدثة” لكن هذا لا ينسينا أنّها “مُقدّسات إلحاديّة”.(12)
إثر ذلك، تتلخص أطروحة نيمو في أنّ الغرب لم يفاصل مع المُقدّس، إنما فاصل مع المسيحيّة. لكن هذه المُقدّسات المُعلمنة أو “اللاهوت السلبي” التي اجترحته ليس قادرا على أن يكون سلوة ومفزعا للإنسان الحديث. وهنا يرى أنّ أرضيّة المُقدّس مهيّأة لعودة دينيّة، كتابيّة، وبالتحديد عودة للمسيحيّة مرّة أخرى.(12)
هكذا إذًا يرى نيمو أنّ مصير أهم الخطابات الإلحادية الحديثة كان الذُبول والاختناق والاستهلاك، ولم تعرف تلك الخطابات هذا المصير بسبب ضغط بعض القوى الاجتماعيّة ولا الصراعات العقديّة، إنما يرجع ذلك إلى خوائها الذاتيّ.(12)
فالنزعة العلمويّة مشكلتها أنه كلّما زاد العلم من توضيح المسائل قلّت ادعاءاته في الكشف عن سرّ الكون، فكل اكتشاف علمي ينبثق عنه مشاكل جديدة وأسئلة، وهي أمور كانت قبل ذلك غير مطروحة. وبهذا المعنى يمكننا القول إنه كلما تقدّم العلم فإنّ أفق البحث يتراجع.(12)
والحركات الألفيّة والمشاريع السياسيّة الكُبرى كالنازيّة والفاشيّة قادت العالم إلى حروب ومجازر فظيعة لا عهد للإنسان بها من قبل، وكذا الفلسفات الكُبرى، التي تورّطت في التأسيس والتسويغ الفلسفيّ للنازيّة كما هو الحال مع هايدجر، أو الفاشيّة كما هو الحال مع نيتشه.(12)
وكذا الأمر مع الأديان الوثنيّة التي لم تستطع تلبية الأشواق الروحيّة عند الإنسان، فالإنسان دوما ما يبحث عن شيء يتجاوزه، أكبر منه، يفزغ إليه، كما يقول علي عزت بيغوفتش (13)، وهذا ما لم يتوفر في النزعات الوثنيّة أو الأديان المتروحنة كالبوذيّة وغيرها. وعدا عن كونها لا تستطع حملَ رُؤى أخلاقيّة قصديّة تجاه العالم والإنسان والوجود والمصير، وإنما اختزلت في طقوس وأساطير.(14)
وكذا الحال مع النزعات الجماليّة وتأليه الموسيقى التي تحوّلت إلى أنغام صاخبة تحمل معها العنف والكآبة، وإذا كانت الأديان المتروحنة أو الوثنيّة اختزلت الإنسان في الطقوس، فإن النزعات الجماليّة نزلت بالإنسان إلى كونه محض مشاعر فقط.(14)
وبفشل هذه التيارات والحركات -كما يرى نيمو- سيعمّ الصمت هذا العالم، ليصبح كلام الله مسموعا، لأنّ كلامه كان دائما محتاجا إلى الصمت، لأنّ الله لا يُسمع في الإعصار ولا في الزلازل ولا في النار، ولكن يُسمع في “صوت نسيم خفيف”.(14)
قد يختلف المرء مع بعض نتائج فيليب نيمو التي خلص إليها، لكن ما لا يُمكن الاختلاف في شأنه أنّ الحالة الدينية كما حاجج عنها فيليب نيمو في صعود، لا في أفول، كما تُبشّر الخطابات الإلحاديّة.
ويكفي أن يُقلّب المرء كتاب “السوق الدينيّة في الغرب” الذي أشرف عليه كريستوفر إليسون ومجموعة من الباحثين في علم الاجتماع الدينيّ، ليلاحظ بنفسه الأرقام والإحصائيات التي توضّح بصورة لا شك فيها حالة الصعود الدينيّ.(15)
وختاما، يروي المؤرخ التونسي “محمد الطالبي” أنّه حين درس في فرنسا في القرن الماضي، كان نزيلا في ضيافة إحدى العوائل المسيحية طول فترة الدراسة، وكان ممّا ذكر أنّ صاحبة البيت حين علمت تردده على باشلار وبعض ملاحدة السوربون أهدته كتابا لفولتير، وحين فتحه وجد أنّها قد حفرت في وسط الكتاب فراغا على شكل صليب يمتد من أول الكتاب لآخره.(16)
قالت: هذا هو مصير فولتير وكل من يحارب ديننا، أي: يحارب المسيحية، ومن المعلوم أنّ فولتير كان ربوبيا ينتقص من الأديان، وعلى رأسها المسيحية في شكلها الكاثوليكي، وحتى قال عنه الموسيقي المعروف موزارت في رسالة بعثها إلى والده عندما توفي فولتير قال فيها: “أخيرا رحل عن العالم أكبر الأوغاد”.(16)
*** “عندما تصمت النزعات الإلحادية تصبح كلمة الله مسموعة”: هو عنوان لأحد فصول كتاب فيليب نيمو، مع ملاحظة أنّنا اكتفينا هنا فقط بعرض الفصول الأولى من كتابه.