بقلم أ. فتحي النادي
تنشأ بين بني البشر روابط تربطهم ببعض، روابط الدم والنسب والولاء والمصالح والالتفاف حول نفس الأفكار. والعصبيات تنشأ من احتياج الإنسان لأخيه الإنسان ليتقوى به؛ ولأن الفردانية لا تقيم الأسر أو العائلات أو المجتمعات فضلاً عن إقامة الدول والإمبراطوريات.
لذا قال ابن خلدون: “إن العصبية بها تكون الحماية والمدافعة والمطالبة وكل أمر يجتمع عليه”.”والعَصَبِيَّةُ: أَن يَدْعُوَ الرجلَ إِلى نُصْرةِ عَصَبَتِه والتَّأَلُّبِ معهم على من يُناوِئُهُم ظالمين كانوا أَو مظلومين.العَصَبِيَّةُ والتَّعَصُّبُ: المُحاماةُ والمُدافعةُ، وتَعَصَّبْنا له ومعه: نَصَرناه”.وبمعنى أبسط فالعصبية: “مناصرة من يهمك أمره في حق أو باطل”.
ابن خلدون: “إن العصبية بها تكون الحماية والمدافعة والمطالبة وكل أمر يجتمع عليه”.”والعَصَبِيَّةُ: أَن يَدْعُوَ الرجلَ إِلى نُصْرةِ عَصَبَتِه والتَّأَلُّبِ معهم على من يُناوِئُهُم ظالمين كانوا أَو مظلومين”.
ويراها عابد الجابري بأنها “رابطة اجتماعية سيكولوجية شعورية ولا شعورية معًا، تربط أفراد جماعة ما قائمة على القرابة ربطًا مستمرًا يبرز ويشتد عندما يكون هناك خطر يهدد أولئك الأفراد كأفراد أو كجماعة”. وقد كانت العصبية عماد الدعوة والدولة.
فعن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم: قال لوط ﴿لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ قال: قد كان يأوي إلى ركن شديد، ولكنه عنى عشيرته، فما بعث الله -عز وجل- بعده نبيًّا إلا بعثه في ذروة قومه. قال أبو عمر: فما بعث الله -عز وجل- نبيًّا بعده إلا في منعة من قومه.
قال ابن حجر: “يقال: إن قوم لوط لم يكن فيهم أحد يجتمع معه في نسبه؛ لأنهم من سدوم وهي من الشام، وكان أصل إبراهيم ولوط من العراق، فلما هاجر إبراهيم إلى الشام هاجر معه لوط، فبعث الله لوطًا إلى أهل سدوم، فقال: لو أن لي منعة وأقارب وعشيرة لكنت أستنصر بهم عليكم ليدفعوا عن ضيفاني.
عابد الجابري: “العصبية رابطة اجتماعية سيكولوجية شعورية ولا شعورية معًا، تربط أفراد جماعة ما قائمة على القرابة ربطًا مستمرًا يبرز ويشتد عندما يكون هناك خطر يهدد أولئك الأفراد كأفراد أو كجماعة”.
ولهذا جاء في بعض طرق هذا الحديث كما أخرجه أحمد من طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: قال لوط: (﴿لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ قال: فإنه كان يأوي إلى ركن شديد، ولكنه عنى عشرته، فما بعث الله نبيًّا إلا في ذروة من قومه) زاد ابن مردويه من هذا الوجه: (ألم تر إلى قول قوم شعيب: ﴿وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ﴾)، وسمى العشيرة ركنًا؛ لأن الركن يستند إليه ويمتنع به، فشبههم بالركن من الجبل لشدتهم ومنعتهم”.
لذا قال ابن خلدون: “إن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم”.
وقد جاء الإسلام ليجعل العصبية في خدمة الدين والحق، وليس في خدمة الأهواء، وجعل العصبية للدين مقدمة على العصبية للنسب والدم، فقال -تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة: 24].
وقال: ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [المجادلة: 22].
ثم جاءت الدولة والتي حاول رجالاتها تهذيب العصبيات القبلية التي كانت في كثير من الأحيان سببًا في التناحر، وضعف الدولة.
ولما ضعفت العصبية العربية في الحفاظ على دولة الخلافة قام مقامهم الأتراك وغيرهم من القوميات الإسلامية.وقد حلت بعض العصبيات محل عصبية القبيلة (أي: الدم)؛ فقد كانت عصبية الولاء عند الفتح الإسلامي وبعده.
وعند المماليك كانت عصبية الأستاذية؛ إذ إن المملوك يفدي أستاذه بدمه، ويكون ولاؤه التام والخالص له، حتى وإن كان في سبيل ذلك حياته ومهجة قلبه.
لذا فإن “العصبية في أصلها ومبدئها رابطة طبيعية أولية قوامها القرابة النسلية البيولوجية (قرابة الدم)، ثم اتسع مجال استعمالها لتشمل مختلف أشكال العُصَب أو العصبات وأشكال القرابة التي تربط بين أفرادها وتشد بعضهم إلى بعض كـ: القرابة العرقية أو المذهبية أو الفكرية أو الأيديولوجية أو السياسية، ومنها العصبية الوطنية الحديثة”.
وفي الدولة الحديثة لم يتم الاستغناء عن العصبيات، لكن صورها قد تغيرت، فظهرت الأحزاب السياسية، والنقابات المهنية، والتنظيمات السرية والعلنية، والحركات الفكرية والأيديولوجية.
والعصبية للدولة مقدمة على كل العصبيات، فلا عصبية تعلو فوق العصبية لها.وكل العصبيات توظف لخدمة الدولة، ولا تقدم مصلحتها فوق مصلحة الدولة، وإلا اعتبرت خائنة
والعصبية للدولة مقدمة على كل العصبيات، فلا عصبية تعلو فوق العصبية لها.وكل العصبيات توظف لخدمة الدولة، ولا تقدم مصلحتها فوق مصلحة الدولة، وإلا اعتبرت خائنة، وغير موالية للدولة.ولم تعد العصبية القبلية هي أم العصبيات؛ ففي كثير من البلدان تم تجاوزها، وإن كانت في بلدان أخرى تعمل لها اعتبارات، وتقيم تفاهمات.
وقد تتنازل الدولة عن بعض حقوقها للقبيلة مثل: القضاء وبعض الامتيازات الأخرى.وعند الإسلاميين يوجد إشكال في أولوية العصبيات؛ إذ يحارون في تقديم العصبية للحركة والجماعة على العصبية للدولة، أم العكس!
والإشكال يكمن في وجهة نظرهم في التماهي بين الحركة وبين الإسلام، على العكس من نظرتهم للدولة، التي قد تعمل في بعض الأحيان أو كثيرها على عكس ما يريده الإسلام، في التشريع والاقتصاد والاجتماع والحروب.
فعصبيتهم للحركة أو الجماعة يعتبر عندهم هو العصبية للإسلام، على العكس من العصبية للدولة.لذا تنظر بعض الدول بعين الريبة للحركات والجماعات الإسلامية.
وفي البلاد العربية ترك الاستعمار بعض المشاكل التي تفخخ الدولة، وقد تؤدي إلى نسفها في بعض الأحيان؛ فالإسلام عالج العصبيات، وجعل العصبية للدين مقدمة، فتعامل العربي بأخوة مع الحبشي والبربري والسوداني والكردي.
لكن بعد محاولة إزاحة الإسلام عن المشهد، وظهور الدول الحديثة تم النفخ في العصبيات العرقية والطائفية؛ فتجد الحروب العرقية في غرب السودان مثلاً، والتوتر الطائفي في مصر بين المسلمين والمسيحيين، والمشاكل في المغرب العربي بين العرب والأمازيغ.
فما تم معالجته في كثير من الدول من ناحية العصبيات كان هو القنبلة الموقوتة التي يمكن أن تنفجر في أي لحظة وتنسف الحدود السياسية التي أوجدها الاستعمار.
(المصدر: إسلام أونلاين)