بقلم د. صلاح الدين محمد النعيمي
إن من أهم بوابات الاصلاح وأوسعها وأعظمها رواجاً وأثراً في المجتمعات والدول، بوابة حرية الكلمة أو ما بات يطلق عليه اليوم في عالمنا المعاصر بحرية التعبير عن الرأي، وذلك من خلال طرح الآراء واحترام الرأي الآخر المخالف عن طريق الحوار والنقاش .
تعريف حرية التعبير عن الرأي عند المعاصرين:
(هي أن يتمكن كل انسان من التعبير عن آرائه وأفكاره ومعتقداته ــ الدينية السياسية الاقتصادية ونحوها ــ بأية وسيلة من الوسائل المتاحة في كل زمان، فله أن يعبر بالقول أو بالرسائل أو بوسائل النشر المختلفة كالبريد أو البرق أو الإذاعة أو المسرح أو السينما أو التلفزيون أو الصحف والمجلات أو الموبايل أو عن طريق الواتساب والفايبر أو الانستكرام والاسكايبي، أو مواقع التواصل الاجتماعي كالفيسبوك واليوتيوب والتويتر أو أي وسيلة أخرى عن طريق الشبكة العالمية الانترنت أو غيرها).
ولحرية التعبير عن الرأي قيمة حضارية عالمية استفادت منها الدول المتقدمة في بناء ثقافتها وحضارتها وعمرانها، وكانت من أهم أسباب تطورها وتقدمها وتعايشها السلميّ، أفليس من باب أولى لأمة محمد ــ صلى الله عليه وسلم ــ صاحبة الرسالة السماوية العالمية أن تستفيد من هذه الحرية الكلامية وأن يحترم أحدنا آراء الاخرين.
بيد أن هذا المصطلح وللأسف قد أخذ أبعاداً اجتماعية وسياسية واقتصادية ارتبطت بممارسات الأفراد والجماعات والتكتلات أخرجته عن حقيقته التي وجد من أجلها، فأصبحت الاساءة والتشهير بالآخرين والاعتداء على الحرمات والمقدسات والأعراض والتجاوز على إنسانية الإنسان ديدنا لمن ينادون بحرية التعبير عن الرأي.
تعريف حرية التعبير عن الرأي في الشريعة:
قال العلامة ابن عاشور: (وأما حرية الأقوال فهي التصريح بالرأي والاعتقاد في منطقة الإذن الشرعي) وهذا القيد (الإذن الشرعي) يشمل كلاً من موضوع الرأي وصاحبه ومجالاته ومقاصده ومآلاته ووسائل التعبير وأساليبه لأنها جميعا تشارك في انتاج هذا الرأي واخراجه الى ميدان الواقع.
وأما المجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورته التاسعة عشرة فقد عرف حرية التعبير عن الرأي بما نصه: (المقصود بحرية التعبير عن الرأي تمتع الإنسان بكامل ارادته في الجهر بما يراه صوابا ومحققا النفع له وللمجتمع سواء تعلق بالشؤون الخاصة أو القضايا العامة).
ويلاحظ هنا أن تعريف حرية التعبير عن الرأي من المنظور الإسلامي يتميز عن التعريفات الأخرى بدخول قيدين عليه، وهما:
1ـــ كون الرأي داخلا في منطقة الإذن الشرعي.
2ـــ وكونه محققا نفعا عاما أو خاصا .
موقف الإسلام من حرية التعبير عن الرأي:
الإسلام نظام شامل ومتكامل يشمل كل نواحي الحياة، ولقد أقر الإسلام ومنذ اليوم الأول بحرية التعبير عن الرأي واعتبره حقا مقدساً لبني البشر، فالإنسان حر بفطرته، بل الأكثر من ذلك فإن الإسلام اعتبر حرية الكلمة نوعا من أنواع الجهاد في سبيل الله فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام:
«سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَرَجُلٌ قَالَ إِلَى إِمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَقَتَلَهُ»
والله تعالى قد ميزّ الإنسان عن سائر مخلوقاته بنعم لا تعد ولا تحصى كنعمة اللسان، أو اليد، أو الجسد (لغة الجسد) وله التعبير بها أو بغيرها عما يدور في خلده من عواطف واشجان وأحزان ورغبات وارادات وأفكار، بالكلمة أو الكتابة أو الإشارة ونحوها، وكذلك نعمة العقل التي هي من أهم النعم.
لذا وجب على كل ذي لب أن يتحكم في سلوكياته وتوجهاته وتصرفاته وكلماته، وأن يتحلى بالحكمة وآداب الحوار، وأن يكون شعاره الدائم الكلمة الطيبة صدقة، فليس عيبا ان نختلف، ولكن العيب ان يتعدى بعضنا على الآخر.
من هنا نجد أن الشرع الحنيف نهى عن الآراء والأقوال التي تؤدي الى وقوع مفسدة أو اضرار بالناس كاللغو وباطل الكلام وكل ما لا يعود بالنفع على الفرد والمجتمع.
وهذا ما أكده القرآن في سورة الأحزاب بقوله تعالى:
[ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً(71) ].
فمعنى قوله تعالى: [اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا] أي: عدلا يعني به في منطقه وفي عمله كله، والسديد الصدق، فيوفقكم لصالح الأعمال، ويعفو لكم عن ذنوبكم، فلا يعاقبكم عليها.
ومن أمثلة حرية التعبير عن الرأي:
فالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وسيرة صحابته الابرار وآل بيته الاطهار رضي الله عنهم، مليئة بنماذج تدل على سماحة الإسلام وقبوله لحرية التعبير عن الرأي فمن ذلك:
1 ـــ الملائكة عليهم السلام :
نعم الملائكة عبروا عن رأيهم في خلق الإنسان، وسورة البقرة توضح لنا ذلك بجلاء، قال تعالى: [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ….]
فقالت الملائكة معبرة عن رأيها [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]
2 ــ الأنبياء عليهم السلام:
الأنبياء ــ عليهم السلام ــ عبروا عن آرائهم، فهذا سيدنا موسى ــ عليه السلام ــ بعد أن رأى جبروت فرعون وظلمه لرعيته، قال معبراً عن رأيه وداعيا على بطش فرعون:
{ وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ } [يونس: 88]
3 ــ الصحابة رضي الله عنهم:
الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ كانوا يفصحون عن آرائهم بصراحة، لأنهم تربوا في مدرسة محمد ــ صلى الله عليه وسلم ــ الذي علمهم أن يقولوا الحق ولا تأخذهم في الله لومة لائم، فهذا ـــ الفاروق عمر ــ رضي الله عنه ــ عبر عن رأيه بقوة في أسرى بدر بقتلهم جميعاً وان يُمكن من أحد أقاربه ليقتله، وكان برأيه مخالفا لرسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ ولأبي بكر ــ رضي الله عنه ــ وقد نزل القرآن مؤيدا لرأيه.
ضوابط حرية التعبير عن الرأي:
الكلمة هي عنوان الفعل فلها مكانتها وأثرها، ومن أجل ذلك يجب أن تكون للكلمة حرية شريطة أن تضبط تلك الحرية بضوابط الشرع، فالكلمة قد تفرح وقد تحزن وقد تجمع وقد تفرق وقد تبني وقد تهدم وقد تضحك وقد تبكي وقد تكون الكلمة السيئة سببا لفتنة لها بداية وليس لها نهاية.
وقد أخرج الامام مَالِكٌ في موطئه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ــ صلى الله عليه وسلم ــ قَالَ:
((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أو لِيَصْمُتْ…)).
من هنا نجد أن الإسلام مع اقراره واهتمامه بحرية الكلمة لدى الإنسان، إلا أنه وضع لها ضوابط لكي لا تخرج عن حقيقتها وتكون سببا للهدم لا للبناء.
فعَنْ أَبي سَعيدٍ الخُدريِّ ــ رضي الله عنه ــ قَالَ: سَمِعتُ رِسُولَ اللهِ ــ صلى الله عليه وسلم ــ يَقولُ: (مَن رَأى مِنكُم مُنكَرَاً فَليُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَستَطعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَستَطعْ فَبِقَلبِه وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإيمَانِ) رواه مسلم.
والواجب أن لا تأمر بشيء إلا وأنت تدري أنه معروف، وأن لا تنه عن شيء إلا وأنت تدري أنه منكر.
وقد وضع العلماء لحرية التعبير عن الرأي ضوابط كثيرة، أهمها الآتي:
1ـ أن يكون الهدف الرئيس من التعبير عن الرأي مرضاة الله تعالى وخدمة مصلحة من مصالح الناس الخاصة أو العامة، وأن يكون الرأي المعبّر عنه مستنداً إلى مصادر موثوقة وأن يتجنب ترويج الإشاعات
2- عدم الإساءة للغير بحجة حرية الرأي سيما فيما يمس حياته أو الطعن بعرضه أو التشهير بسمعته أو الاستهزاء بدينه أو مذهبه أو برموز مذهبه مما يعتقد بهم أو معتقداته كالشعائر الدينية المؤمن بها أو مقدساته سواء المقدسات الإسلامية أو مقدسات الأمم والأديان الاخرى أو قوميته أو عشيرته أو لغته ونحو ذلك، ونشر ذلك بأي وسيلة كانت.
3- الموضوعية في طرح الآراء ولزوم الصدق والتجرد عن الهوى والمجاملات والشعور بالمسؤولية الدنيوية والأخروية، والمحافظة على مصالح البلد والمجتمع وعلى القيم والآداب، وعدم الإخلال بالنظام العام للأمة وإحداث الفرقة بين المسلمين.
4ـ أن تكون وسيلة التعبير عن الرأي مشروعة ومعتبرة في الشرع، للتوصل الى الحقيقة أو الكشف عنها شريطة النية الصالحة وعدم الانتصار للنفس، ولا يجوز استخدام الوسيلة الملغاة وغير المشروعة للدفاع، لأنها ستؤدي الى مفسدة كبيرة لا يحمد عقباها.
وأخيراً على الدولة أن توفر الضمانات الكافية لحماية حرية التعبير عن الرأي المنضبطة بالشريعة والمراعية للمسؤولية بِسَنّ القوانين الحامية لذلك، والتشريعات، وبالقضاء العادل، واتخاذ كل الوسائل المتاحة لمنع استخدام حرية التعبير عن الرأي كذريعة وأداة للإساءة إلى الثوابت والمقدسات والرموز وكل ما شأنه أن يؤدي الى فتنة، وليكن شعارنا قول رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم:
«إن لله تبارك وتعالى خزائن للخير والشر، مفاتيحها الرجال، فطوبى لمن كان مفتاحا للخير مغلاقا للشر، وويلا لمن جعله مغلاقا للخير مفتاحا للشر» الطبراني في الكبير برقم 5812 (حسن) .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
والله تعالى أعلم بالصواب
المصدر: مجلة رؤية – العدد 2.