مقالاتمقالات مختارة

الشيخ نور الدين عتر وفتنة السلطة

الشيخ نور الدين عتر وفتنة السلطة

بقلم معتز الخطيب

في الأسبوع الماضي، رحل عن عالمنا شيخنا العلامة المحدّث نور الدين عتر -رحمه الله تعالى- وقد كان -في ظني وظن الكثيرين- من بقية السلف الصالح؛ فقد اجتمع فيه من الخصال والفضائل ما يُجسد -عمليا- ما سطره بعض العلماء في “آداب العالم والمتعلم”، وترجع هذه الآداب -في رأيي- إلى 3 محاور رئيسة هي: آداب العالم مع نفسه، ومع تلامذته، ومع العلم وكتبه وحمَلته من السابقين والمعاصرين، وسأخصص هذا المقال لبيان موقف الشيخ من السلطة، وهو مما يتصل بأدب العالم مع نفسه (أي عمله وأين يضع نفسه؟)، على أن أخصص مقالا آخر للحديث عن الشيخ وآداب العلم.

يذكر الإمام بدر الدين بن جماعة (733 للهجرة) أن من آداب العالم في نفسه “أن يحافظ على القيام بشعائر الإسلام وظواهر الأحكام… والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى بسبب ذلك، صادعا بالحق عند السلاطين، باذلا نفسه لله. لا يخاف فيه لومة لائم”، وأنه “لا يفعل شيئا يتضمن نقص مروءة أو ما يُستنكر ظاهرا وإن كان جائزا باطنا؛ فإنه يُعرّض نفسه للتهمة، وعِرْضه للوقيعة، ويوقع الناس في الظنون المكروهة، وتأثيم الوقيعة”، “ولا يرضى من أفعاله الظاهرة والباطنة بالجائز منها، بل يأخذ نفسه بأحسنها وأكملها؛ فإن العلماء هم القدوة، وإليهم المرجع في الأحكام، وهم حجة الله تعالى على العوام”.

تحيلنا هذه الاقتباسات المنتقاة بعناية إلى 3 أمور:

أولها: أن سَمْت العالم أن يجمع بين حفظ الشعائر والأحكام الظاهرة، وفعل الخير المتمثل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأعلى مراتبه إنكارُ منكر السلطة أو السلطان.

ثانيها: أن من واجبات العالم الأخلاقية أن يُجنّب الناس سوء الظن به، بحيث لا يفعل فعلا موهما يكون سببا في ما يجلب لهم الإثم؛ بفعله المحتمل لوجه سلبي ولو كان جائزا في حقيقة الأمر؛ فوظيفته أن يحمل للناس الخير وأن يحملهم على حسن الظنون، لا أن يكون سببا في جلب الآثام لهم، والإضرار بهم (فكيف بمن يؤيد الظالم على المظلوم فيُضر بهم على الحقيقة؟).

ثالثها: أن العالم يُشدد على نفسه، ويسلك -بفعله – مسلك الأكمل والأحسن، ولا يقف عند حدود الجائز والمباح (الحد الأدنى)؛ لأن من شأن الناس أن يتساهلوا بالمقارنة معه، فإنْ وقف عند حدود الجائزات والمباحات ربما أوقع الناس في الحرام؛ لأنه قد يُظَن به أنه يتصرف وفق الأكمل (الحد الأعلى) فيتقاصر بعض الناس بفعلهم دونه، فيقعون في الحرام، فيكون فعله سببا في تأثيمهم.

تحيلنا هذه المقدمة النظرية إلى مناقشة موقف العلامة عتر -رحمه الله- من ظلم السلطان، فرغم أن الشيخ لم ينخرط في أي نشاط سياسي أو حركي يعكر عليه تفرغه العلمي؛ إلا أنه كان هناك محاولة لاستثمار واقعة موته لدعم النظام السوري، وأكتفي هنا بذكر موقفين: أحدهما تمثل في تنظيم عزاء رسمي للشيخ من قبل وزارة الأوقاف، وقد خطب فيه وزير الأوقاف مبلغا تعزية الرئيس السوري في الشيخ، وثانيهما: أن أحد تلامذة الشيخ ممن انحازوا إلى النظام نَسب إليه -بعد وفاته- أنه كان يرى أن “هذه الأحداث فتنة تعصف بالبلاد والعباد”، وأنه أوصى بـ”لزوم الجماعة والتحذير من الفُرقة، وبالالتفاف حول أهل العلم الخُلّص”، فأوهم أن الشيخ قريب من مواقف الداعمين للنظام.

اعتاد النظام -من خلال وزارة الأوقاف- على تدجين الخطاب الديني، واستثماره لتزويد النظام بالشرعية الدينية التي يفتقدها، وهو الذي استثمر كثيرا في الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي -رحمه الله- ثم في ابنه محمد توفيق من بعده، فنجح أيما نجاح، وحاول مع آخرين غيرهما ففشل، والآن يحاول هو والمقربون منه الاستثمار السياسي في حدث وفاة الشيخ عتر الذي كان من القلة القليلة، التي بقيت في دمشق، ولم تتلوث بوحل الفتنة، التي عصفت بالعلماء فشقتهم صفين: صف لم يحتمل فغادر (وعلى رأس هؤلاء شيخ قراء الشام الشيخ كريم راجح)، وصف بقي إلى جانب السلطة الظالمة يؤيدها ويطبّل لها (كمشايخ مجمع الفتح الإسلامي ومجمع كفتارو وبعض أساتذة كلية الشريعة بدمشق).

وإذا كانت ممارسات وزارة الأوقاف لا تستحق المناقشة، فإن الحكاية التي ساقها أحد تلامذة الشيخ من أساتذة كلية الشريعة تستدعي المناقشة هنا، خصوصا أنه سبق له أن حكى عن الشيخ كريم راجح موقفا رماديا من الثورة، ثم اتضح لاحقًا أنه غير صحيح بمواقف واضحة وصريحة من الشيخ نفسه بعد أن خرج من سوريا، والآن يتكرر الأمر نفسه في حق الشيخ عتر، الذي رحل عن عالمنا، ولا يملك التوضيح أو التصحيح. فهذه الحكاية لا تصح ويَرِد عليها أمور:

“الفتنة” مصطلح متشعب المعاني دينيا وسياسيا وتاريخيا حتى بات لفظا مجملا يفتقر إلى بيان، ففي دلالته السياسية أطلق -تاريخيا- على الاضطراب السياسي والاقتتال الداخلي، وقد جرى بعض شراح الحديث على أن المراد بالفتنة ما ينشأ عن الاختلاف في طلب الملك حيث لا يُعلم المحق من المبطل

الأول: أنه لو صح هذا الكلام، فقد كان أولى بالشيخ أن يصرح برأيه في حياته؛ بيانا للحق الذي يعتقده مع انتفاء الموانع؛ إذ إن مثل هذا الموقف لا يزعج النظام ولا يهدد حياة الشيخ فلماذا لم يصرح به؟.

الثاني: أن الجزء الثاني من الحكاية -وهو أن الشيخ أوصى بلزوم الجماعة وأهل العلم الخلّص- يتنافى مع كتمان هذا الموقف وعدم التصريح به؛ فلو كانت الجماعة هنا جماعة النظام، فكتمان هذه النصيحة لتُعلن بعد وفاته يعود بالنقض على الكلام نفسه، ويبطل مقصد لزوم جماعة النظام. فضلاً عن أن أهل العلم الخُلّص -بالاستناد إلى أحاديث وآثار كثيرة عن السلف سيأتي بعضها لاحقا- هم الذين لا يدخلون على السلطان ولا يؤيدونه في ظلمه. فالعلماء الخلّص إما صمتوا واعتزلوا حين لم تعد تجدي الفِعال، وصبروا على ضغوط النظام وموظفيه، كما فعل الشيخ رحمه الله تعالى، أو خرجوا من سوريا؛ لأنهم لم يُطيقوا فتنة النظام، وكان المطلوب منهم فوق طاقتهم. أضف إلى ذلك أن “الجماعة” المطلوب لزومها لم تعد قائمة؛ فنصف الشعب السوري خارج البلد بين مهجر ولاجئ بسبب النظام نفسه، ومن المفارقة أن النظام الذي دمر الجماعة الوطنية صرح -بلسان رئيسه- أن سوريا أصبحت أكثر تجانسا؛ أي بعد أن هُجر ملايين المسلمين السنة منها. فعن أي جماعة يتحدث هؤلاء؟ ثم إن الجماعة لا تقوم على قوة السلاح والبطش؛ بل على فكرة مصلحية -وهي التعبير عن مصالح عموم أفرادها- وعلى مبدأ أخلاقي وقانوني، وهو الشرعية (سواءٌ كانت دينية أم سياسية) بأن تعبر عن إرادة مواطنيها.

الثالث: أن “الفتنة” مصطلح متشعب المعاني دينيا وسياسيا وتاريخيا حتى بات لفظا مجملا يفتقر إلى بيان، ففي دلالته السياسية أطلق -تاريخيا- على الاضطراب السياسي والاقتتال الداخلي، وقد جرى بعض شراح الحديث على أن المراد بالفتنة ما ينشأ عن الاختلاف في طلب الملك حيث لا يُعلم المحق من المبطل، ومثل هذا لا يتحقق في الثورة السورية التي تظهر فيها المظالم والحقوق لكل ذي عينين. ومن التعبيرات بالغة الدلالة هنا قول الحسين بن علي لمعاوية بن أبي سفيان -في أثناء محاورة بينهما- “وما أعلم فتنةً أعظمَ من ولايتك أمرَ هذه الأمة”؛ فالفتنة لا تكون في مجرد الاحتجاج والثوران؛ بل في سياسات الحكم التي قد تُوْدي بالجماعة كلها، كما هو ماثل للعيان في سوريا التي دُمرت من أجل بقاء شخص.

رغم أن تمني الموت منهي عنه في السنة النبوية؛ إلا أنهم استثنوا من ذلك ما إذا كان لمصلحة دينية، وهي الخوف من أن يفتتن الرجل في دينه، وأي فتنة أعظم من أن يبيع المؤمن دينه بدنيا غيره عبر مساندة نظام مجرم، وهي الفتنة التي عصم الله تعالى منها شيخنا عتر -رحمه الله- في حين وقع فيها كثيرون في زمن الثورات.

تمثلت مادة الفتنة والتفرق -تاريخيا- في اتجاهين: (1) طلب الإمامة والاختلاف على الإمام وسياساته، (2) وسياسات الحكام وخلافات الأسر الحاكمة وشغَب الجند والنزاع بين الدويلات التابعة للخلافة، وذلك مع تطور الدولة وامتداد الحكم؛ لكن تعبير الفتنة تحول في الأزمنة المتأخرة إلى رافد أساسي لفكرة “الطاعة السياسية”، التي حوّلها مشايخ السلطة إلى عقيدة دينية تتمثل في مجرد معارضة السلطة، وقد جعلوا المعارضة السياسية أساس الفتن ومبدأها، فكانوا أداة من أدوات الاستبداد وذريعة لشرعنة الظلم واستمرار قهر الناس.

ومن المواقف الدالة هنا أيضا، أن الفتنة قد تُستعمل وفق تصور ديني خلاصي فردي؛ فقد سئل الإمام عبد الرحمن بن مهدي -وهو أحد أئمة الحديث الكبار- عن الرجل يتمنى الموت مخافة الفتنة على دينه؟ فقال “ما أرى بذلك بأسا؛ لكن لا يتمناه من ضر به، أو فاقة. تمنى الموتَ أبو بكر وعمر ومن دونهما”، ورغم أن تمني الموت منهي عنه في السنة النبوية؛ إلا أنهم استثنوا من ذلك ما إذا كان لمصلحة دينية، وهي الخوف من أن يفتتن الرجل في دينه، وأي فتنة أعظم من أن يبيع المؤمن دينه بدنيا غيره عبر مساندة نظام مجرم، وهي الفتنة التي عصم الله تعالى منها شيخنا عتر -رحمه الله- في حين وقع فيها كثيرون في زمن الثورات.

الرابع: أن الثابت بخط الشيخ أنه وقع على بيان علماء حلب بتاريخ 7 أغسطس/آب2011 إلى جانب آخرين، وجاء فيه “انطلاقا من مسؤوليتنا أمام الله تعالى، ومن الغيرة على وطننا ووحدته وصيانته من كل سوء؛ فإن علماء حلب يستنكرون -وبشدة- ما يحدث على أرض الوطن الغالي من سفك للدماء البريئة، وانتهاك للأعراض الحصينة من أي جهة كانت، ويحملّون القيادة -باعتبارها الطرف الأقوى- النصيب الأكبر من المسؤولية عن ذلك. وهاهم أولاء يناشدون أولي الأمر -وغيرهم ممن بيدهم الزمام- العمل على إيقاف ذلك فورا، وإفساح المجال لممارسة حرية التعبير والرأي، ومنع الجهات التي لا تمثل الدولة -على اختلاف تسمياتها- من التصدي الشرس للمتظاهرين السلميين، والكف عن الاعتقالات التعسفية، وإطلاق سراح معتقلي الرأي كافة، والإسراع بتعديل الدستور -المادة الثامنة بشكل خاص- كما أنهم يناشدون سائر فئات الشعب الحرص على وحدة أبناء الوطن الغالي، والعمل على تمتينه، والحفاظ على ممتلكات الوطن العامة والخاصة”.

وهذا بيان لو قورن بمواقف الشيخ البوطي في الزمن نفسه لاتضح الفرق الشاسع بين الموقفين، والشيخ عتر لم يُثنِ على مواقف البوطي السياسية مرة واحدة، وكان من عادة الشيخ ألا يذكر أحدا بسوء؛ فقد كان عفيف اللسان، ولكن من يعرف الشيخ يمكن أن يدرك -بالقرائن- امتعاضه من مواقف الشيخ البوطي التي خالف فيها مسلك العلماء من السلف فضلا عن المحدّثين الذين كان الشيخ عتر كَلِفا بطريقتهم. وقد كان أستاذنا الشيخ وهبة الزحيلي -رحمه الله- شديد الانتقاد لمواقف البوطي السياسية أيضا كما صرح لي، وقد كنت ألتقيه سنويا في سلطنة عمان على هامش الندوة الفقهية العُمانية حتى سنة 2013، رغم أنه لم يُدْلِ -علنا- بأي تصريح مؤيد أو معارض؛ فصمته كان بالغ الدلالة كصمت شيخنا عتر بعد 2011، وهو من الجهاد في زمن فتنة السلطة، ولا سيما أنهما آثرا البقاء في سوريا وعدم الخروج.

الخامس: أن المقربين من الشيخ يعلمون أنه لم يكن يرضى بسياسة الظلم والبطش التي اتبعها النظام، وهو المعنى المعبر عنه نصا في البيان الذي وقعه 2011. لم يكن الشيخ عتر ثوريا؛ لكنه لم يكن أيضا يرضى بالظلم فضلا عن أن يكون من أعوان الظلمة أو من حاشيتهم، وقد تكون عزلته فيما بعد مرتبطة بتعقيدات الأزمة وخروجها عن السيطرة، ففي سنة 2013 خرجت المسألة من يد السوريين وباتت في يد لاعبين دوليين. فقد وقع الشيخ البيان حين رأى أن التدخل مفيد لتطويق الأزمة، ثم انسحب حين لم يعد يجدي الفعل الفردي، ولكنه -مع ذلك- عصم نفسه من الفتنة، التي عصفت بالمشايخ وزلت بكثير منهم. لم يكن الشيخ يريد أن يغادر سوريا تنفيذا لوصية والده له بعدم مغادرتها، كما حكى لي بنفسه، ولهذا لم يأبه لكل العروض في العمل خارج سوريا (عمل أستاذا في المدينة المنورة لنحو سنتين، وذلك لخصوصيتها وبركتها).

كان الشيخ يعي جيدا فتنة السلطان وقد عاينها جيدا في شخص صديقه وزميله في الدراسة شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي -رحمه الله- الذي فتنته السلطة وتغير حاله، فبعد أن كان مبغضا ومنتقدا لفساد الحكومة علنا، صار تابعا ومستسلما لإرادتها، وقد حكى هذا الشيخ بنفسه لبعض تلامذته، فكيف يمكن له أن يرضى مسلك الشيخ البوطي مع السلطة، وقد شهد البوطي لعناصر جيش النظام الذي نكّل بالناس أبشع تنكيل بأنهم مثل الصحابة بل أفضل؟، فالشيخ عتر كان يزن كلامه بميزان، وقد وصفت -مرة- الشيخ أحمد بن محمد الشُّمُنِّي بالإمام، فشطب على كلمة “الإمام” وكتب بخطه “الشيخ”؛ لكن لما راجعته بأن بعض كتب التراجم وصفته بالإمامة قَبِل ذلك اتباعا لمسلك الأئمة السابقين، ودقتهم في التراجم. فهل كان ليرضى بصنيع البوطي، وهو الذي يُجِل درجة صحبة النبي وفضلها أيما إجلال بحيث لا يدانيه فضل؟.

السادس: ذكر ابن جماعة من آداب العالم أيضا أن “ينزه علمه عن جعله سلما يتوصل به إلى الأغراض الدنيوية من جاه أو مال أو سمعة أو شهرة أو تقدم على أقرانه”، وأن “يصون العلم كما صانه علماء السلف، ويقوم له بما جعله الله تعالى له من العزة والشرف”، وقد كان شيخنا -رحمه الله- متحققا بهذا، فلم يبذله لسلطان أو ذي جاه، وآثر التزهد في الدنيا والبعد عن الأضواء، ويمكن تقسيم طريقة السلف في التعامل مع السلطة إلى مسلكين: أولهما: ذم الدخول على السلاطين واعتزالهم، وقد أفرد ذلك بالتصنيف الإمامُ السيوطي (911 للهجرة) وغيره، وثانيهما: الدخول عليهم بقصد النصح، وذلك لمن أمن على نفسه الفتنةَ، وقد صُنفت في هذا مصنفات في نصيحة الملوك أو السلاطين. ومن اللافت أن الإمام ابن عبد البر (463 للهجرة) بعد أن أورد جملة من الأحاديث والأخبار والآثار التي تحذر من مخالطة السلطان قال “معنى هذا الباب كله في السلطان الجائر الفاسق، فأما العدل منهم الفاضلُ: فمداخلته ورؤيته وعونه على الصلاح من أفضل أعمال البر… ولكنها مجالسُ؛ الفتنةُ فيها أغلبُ، والسلامة منها تركُ ما فيها، وحسبك ما تقدم في هذا الباب من قوله صلى الله عليه وسلم: من أنكر فقد بَرِئ، ولكن من رضي وتابع فأبعده الله عز وجل”، وهو يحيل إلى الحديث النبوي الصحيح “يكون عليكم أمراء تعرفون منهم وتنكرون، فمن أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع فأبعده الله …” (رواه مسلم، وأبود داود والترمذي وغيرهم).

إن استنطاق الشيخ عتر بعد وفاته بموقف مؤيد لمواقف الممالئين للسلطة، هو حاجة لهؤلاء وليس بيانا لموقف الشيخ حقيقة، فهم يفتقرون إلى شرعية يسترون بها عوراتهم

ولقد كان شيخنا يسلك المسلك الأول (العزلة والكراهية)، وهو مسلك كثير من السلف، وقد قال الإمام التابعي أبو قِلَابة عبد الله بن زيد (كان بصريا وسكن الشام زمن الأمويين) “يا أيوب (يقصد تلميذه أيوب السَّخْتِيَانيّ) احفظ عني 3 خصال: إياك وأبواب السلطان، وإياك ومجالسة أصحاب الأهواء، والزم سوقك؛ فإن الغنى من العافية”. وقال الصحابي حذيفة بن اليمان “إياكم ومواقف الفتن. قيل: وما مواقف الفتن يا أبا عبد الله؟ قال: أبواب الأمراء؛ يدخل أحدكم على الأمير، فيصدقه بالكذب، ويقول له ما ليس فيه”. ويحكي سفيان الثوري في مسألة الافتتان بالسلطان فيقول “كان خيار الناس وأشرافهم والمنظور إليهم في الدين الذي يقومون إلى هؤلاء فيأمرونهم -يعني الأمراء- وكان آخرون يلزمون بيوتهم ليس عندهم ذلك، وكان لا يُنتفع بهم ولا يُذكرون، ثم بقينا حتى صار الذين يأتونهم، فيأمرونهم شرارَ الناس، والذين لَزِموا بيوتهم ولم يأتوهم خيارَ الناس”. (رواه أبو نعيم، وابن عبد البر).

هكذا كان من يؤثرون السلامة ويخشون على أنفسهم يعتزلون حرصا على ديانتهم، وقد قال وَهْب بن مُنَبّه “إن جمع المال وغشيان السلطان لا يُبقيان من حسنات المرء إلا كما يبقي ذئبان جائعان ضاريان سقطا في حظار فيه غنم، فباتا يجوسان حتى أصبحا”، فكيف لعالم زاهد يحرص على اتباع المنهج النبوي أن يضحي بحسناته من أجل تصرف أرعن أو شهادة باطلة أو حظوة زائلة؟

يبدو جليا بعد كل ما سبق، أن استنطاق الشيخ عتر بعد وفاته بموقف مؤيد لمواقف الممالئين للسلطة، هو حاجة لهؤلاء وليس بيانا لموقف الشيخ حقيقة، فهم يفتقرون إلى شرعية يسترون بها عوراتهم، فمن حكى عن الشيخ هذا الموقف السياسي لم يذكر شيئا عن خصاله ومزاياه العلمية؛ في حين اكتفى باستنطاقه بموقف سياسي يريده هو ليدعم موقفه المخزي مما يسمى “الأحداث”، وهو تعبير رمادي يستعمله سوريو الداخل تهربا من أي تبعة أو مساءلة، ويستعمله بعض المشايخ تهربا من مسؤولياتهم الأخلاقية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو في إنكار وكراهية منكر السلطة، وهو أضعف الإيمان لسلامة دينهم على الأقل. نسأل الله تعالى العصمة من الفتن ما ظهر منها وما بطن.

(المصدر: الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى