الشيخ علي الطنطاوي .. أديب الفقهاء وفقيه الأدباء | بقلم د. يوسف القرضاوي
الشيخ علي الطنطاوي أديب الفقهاء وفقيه الأدباء (1327- 1420هـ = 1909- 1999م)
{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} [البقرة:155-156] وأي مصيبة أكبر من فقد العلماء الأعلام المتميزين, الذين إذا أفتوا كان إفتاؤهم بعلم, وإذا قضوا كان قضاؤهم بحق, وإذا دعوا كانت دعوتهم على بصيرة؟
وقد قال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه: “إذا مات العالم, انثلمت في الإسلام ثلمة, لا يسدها إلا خلف منه”.
ولكن الذي يحز من القلب: أن نفقد من الأعلام, لا نجد من يملأ مكانه, ويسد فراغه من بعده إلا ما شاء ربك.
ولقد قدر علينا في هذه السنوات أن نفقد في مجال العلم الإسلامي, والدعوة الإسلامية, والمفكر الإسلامي – عددًا من جبل العمالقة والأفذاذ واحدًا بعد الآخر.
من الرجال المصابيح الذين هُمُ كأنهم من نجوم حية صنعوا
أخلاقهم نورهم, من أي ناحية أقبلت تنظر في أخلاقهم سطعوا
ودعنا في سنوات قليلة: العلامة الداعية الشيخ محمد الغزالي, والعلامة الفقيه الشيخ عبد الله بن زيد المحمود, والعلامة المحدث عبد الفتاح أبا غدة, والعلامة المفسر الشيخ محمد متولي الشعراوي, والعلامة الذي جمع بين الفقه والحديث الشيخ عبد العزيز بن باز, واليوم نودع العلامة الأديب الشيخ علي الطنطاوي.
كان الإمام أبو محمد بن قتيبة من أئمة القرن الثالث الهجري, وكان موسوعي الثقافة, كما يدل على ذلك إنتاجه الغزير والمتميز في اللغة والأدب, والتاريخ, وعلوم القرآن والحديث. وكانوا يعدونه خطيب أهل السنة المدافع عنهم, كما كان الجاحظ يعد خطيب المعتزلة, كما أطلقوا عليه لقبًا معبرًا عنه بحق, هو: أديب الفقهاء, وفقيه الأدباء!
وإني أرى هذا اللقب أو هذا الوصف جديرًا أن يطلق على علامتنا الشيخ علي الطنطاوي, الذي كان ينحو سبعين سنة من عمره المبارك الذي بلغ التسعين, مشعلًا من مشاعل الهداية, ونجمًا من نجوم التنوير, ولسانًا من ألسنة الصدق, وداعية من دعاة الحق والخير والجمال, وكان يجمع في عظاته بين العلم والأدب, أو بين الإقناع والإمتاع.
يتجلى هذا فيما سطره يراعه من كتب ومقالات، وما فاض به لسانه من خطب ومحاضرات أو دروس وإفتاءات، كان يرتجلها لتوه، ولا يكتبها أو يحضّرها.
عرفت الشيخ علي الطنطاوي في بواكير شبابي، حين كنت مشغوفاً بالأدب والشعر، منهوماً بقراءة كتب الأدب, وتتبع المجلات الأدبية، وعلى رأسها مجلة (الرسالة) التي كان يصدرها الأديب المعروف أحمد حسن الزيات, ويكتب فيها عمالقة الأدب, أمثال الرافعي والعقاد والمازني, وغيرهم من أدباء العرب.
وكان علي الطنطاوي أحد كتاب الرسالة, المحبين لدي, لنزعته الإسلامية, وسلاسته وعذوبة منطقه, وبراعة تصويره, فيما يصف به الأشياء والمعاني والشخصيات, كأنما هو مصور يسجل بـ(المصورة) لا أديب يسجل بالقلم.
وقد وقَّع في يوم من الأيام على مقالة: علي الطنطاوي القاضي الشرعي, فزاد ذلك من حبي إياه, وتقديري له, لما ربط بيني وبينه من وشائج العلم الإسلامي, والعلم رحم بين أهله, كما قال أسلافنا, وعرفت أن الرجل من علماء الإسلام الذين جمعوا بين العلم والأدب, وربطوا الفقه بالحياة.
وقد أشرف في سنة 1947م على تحرير الرسالة, حين مرض الأستاذ الزيات أو تمارض, وكلف الأستاذ الطنطاوي القيام على تحريرها.
وعرفت الأستاذ الطنطاوي بعد ذلك مؤلفًا خصوصًا في التاريخ, وقرأت كتابه عن عمر بن الخطاب في جزأين وغيره من الكتب.
ولما جاء إلى المملكة العربية السعودية, وتولى التدريس في كلية التربية, كان يدرِّس الثقافة الإسلامية, فاختار كتابي (الحلال والحرام في الإسلام) مرجعًا للطلاب في هذا المقرر, دون أن يلقاني, ولكنه سمع بي من زملائه من أهل الشام مثل الشيخ مصطفى الزرقاء والشيخ محمد المبارك.
وحين أصدرت كتابي (فقه الزكاة) أرسلت إليه نسخة هدية له, فكتب لي رسالة بليغة, ينوه بما بذلت في الكتاب من جهد, وينوه بمادته ومنهجه وبالنتائج التي انتهيت إليها, وبروح الاجتهاد التي تسري فيه.
وكذلك حين صدر كتابي (الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف) نوه به, وحث الشباب على قراءته, وذلك في برنامجه الأسبوعي الشهير في إذاعة المملكة, الذي استمر نحو ربع قرن, أعني: برنامج (نور وهداية).
بل كثيرًا ما نوه بعدد من كتبي في هذا البرنامج, والله يعلم أنه لم يكن يقصد مدحي, إنما كان يريد أن يدل المثقفين – والشباب منهم خاصة – إلى الكتب التي تتبنى خط الوسطية والاعتدال, والكتب المعبرة عن هذه الوجهة.
ثلاث مرات لقيت فيها الشيخ
ولقد سعدت بلقاء الشيخ الطنطاوي ثلاث مرات في حياتي:
مرة حين زرته في منزله بمكة المكرمة بالقرب من الحرم الشريف في عمارة الكعكي التي كان يسكن بها بجوار فندق شبرا, وذلك في أوائل السبعينيات على ما أذكر, وقد قيل لي: إنه يؤثر العزلة, ولا يكاد يستقبل أحدًا, فقلت: إني لا أريد شيئا إلا السلام عليه.
والحق أن الرجل حينما ذكر له اسمي, رحب بالزيارة, واستقبلني استقبالًا كريمًا, ولم أطل المكث عنده, رعاية لمشاعره, وشكرته على موقفه من كتبي, وقد أثنى ثناء طيبًا على ما قرأه منها. وهو قليل فيما أذكر.
ولقيته مرة أخرى في بيروت, مع الأستاذ محمد المبارك, والأستاذ الشاعر عمر بهاء الدين الأميري, في إحدى إجازات الصيف.
ولقيته مرة ثالثة في بيته بجدة, حين قعدت به السن, ولزم المنزل, ولم يعد يشارك في نشاط, وكان الذي صحبني إليه ابننا الشاب العالم النابه, المحب لي وله الشيخ مجد مكي, وكانت جلسة طيبة نافعة, وددنا أن تتكرر, ولكنها كانت الأخيرة, كما قدر الله.
نشأة الشيخ
نشأ الشيخ الطنطاوي في أسرة علمية, فجده الشيخ أحمد الطنطاوي من العلماء, وكان إمامًا في الجيش العثماني, وقد حدثنا عنه في مذكراته أو ذكرياته, وكان والده الشيخ مصطفى إمام مسجد, وكان يعمل أمينًا للفتوى مع الشيخ أبي الخير ابن عابدين مفتي الشام, وكان عمه أكبر عالم في علم الفلك الإسلامي, وكان خاله العلامة المحقق محب الدين الخطيب, صاحب مجلتي (الزهراء) و(الفتح) اللتين كان لهما دور كبير في إيقاظ المشاعر الإسلامية, وتصحيح المفاهيم الإسلامية, وربط المسلمين بالقضايا الإسلامية.
وقد تقلبت به الأيام في دراسته, وأخذ الثانوية من الشام, ثم جاء إلى مصر ليدرس فيها, وتجلى في مدرسة دار العلوم العليا, دخلها في السنة التي تخرج منها حسن البنا, ولكنه زامل سيد قطب في الدراسة, وكان معه في فصل واحد, وإن كان سيد يكبره بثلاث سنوات.
لم يستمر في دراسته بدار العلوم, وألح عليه خاطر لم يستطع له دفعًا, أن يعود إلى دمشق, وعاد إليها, والتحق بكلية الحقوق, وكان رفيقه فيه فقيه الأمة الشيخ مصطفى الزرقاء حفظه الله.
وتقلبت به الأيام ما بين التعليم والقضاء, حتى وصل إلى درجة مستشار بمحكمة النقض العليا.
حفظ الشيخ عشرات, بل مئات القصائد من الشعر الجاهلي والشعر الإسلامي والأموي, باعتباره الحجة في اللغة, كما حفظ من الشعر العباسي أيضًا, وقرأ الكثير من كتب الأدب والتاريخ, وعلوم الدين, والثقافة العامة, كما تعلم من مدرسة الحياة وكتاب الواقع, من خلال معايشته ورحلاته إلى مصر والعراق وإستانبول وأوربة وآسية وإفريقية, وقد وهب بصيرة نيرة, وحسًا نقديًا عاليًا, بدا ذلك في نقده الأدبي, ونقده الديني, ونقده الاجتماعي.
مشاركته في القضايا الوطنية
شارك الشيخ – وهو طالب- في مقاومة الاحتلال الفرنسي لسورية, وكان يحرض الطلاب, ويحرك الجماهير, ويسير المظاهرات, ويلهب الحماس بخطبه النارية, وبيانه الساحر, وأصابه في ذلك ما أصابه, حيث اعتقل وأودع السجن.
أيد الشيخ الوحدة الاندماجية مع مصر, مثل كل السوريين, وعلى رأسهم رئيس الجمهورية شكري القوتلي, الذي تنازل عن رئاسته, ليصبح المواطن العربي الأول في (الجمهورية العربية المتحدة).
ولكن حينما أصبحت الوحدة في عهد عبد الناصر خطرًا على الحريات وعلى حقوق الإنسان, وانتشر التجسس, وعاش الناس في رعب من السلطة, وغدا المكتب الثاني (المخابرات) هو الذي يحكم البلد.. وقف – مثل جمهور السوريين – مع الانفصال, وأيده بقوة, خطب خطبة تاريخية مشهورة, كان لها صداها الواسع, وتأثيرها البالغ على جماهير الناس, ومن بعد ضياع أول وحدة عربية حقيقية تقع على كاهل الحكم الاستبدادي المتسلط الذي كان له – كما قال القوتلي- ألف عين, ولكنه لا يرى, وألف أذن, ولكنه لا يسمع.
دفاع عن الإسلام في مواجهة القومية والاشتراكية
جند الشيخ طوال عمره قلمه ولسانه للذود عن حياض الإسلام, وحراسة قلاعه من المغيرين عليه, سواء من أعدائه الصرحاء المكشوفين, من الصهاينة والصليبيين, والشيوعيين, وأمثالهم, أم من المقنعين الذين يلبسون لبوس المسلمين, ويتسمون بأسماء المسلمين, وليسوا على شيء من هذا الدين, وهؤلاء هم الأشد خطرًا.
حينما ظهرت فتنة (القومية العربية) لتكون يومًا بديلًا للمسلمين عن الإسلام, وتكون مصدر ولائهم وانتمائهم, بدل الولاء للإسلام, والانتماء للإسلام, وقال من قال: إن العروبة أسبق من الإسلام ويجب أن تقدم عليه, وإن محمدًا لم يكن أكثر من عبقرية عربية, وإن العربي المسيحي أو اليهودي أقرب إلينا من المسلم الباكستاني, وحُرف التاريخ ليخدم هذه الأفكار, بل حرفت نصوص الدين ذاتها لتسير في هذا الركب.
حينئذ وقف الشيخ الطنطاوي في وجه هذه الدعوة المضلة, وكشف زيفها وباطلها, وسجل في ذكرياته موقفه من هذه الدعوة, وخصوصًا بعد أن ارتبطت بدعوة أخرى, هي دعوة الاشتراكية الثورية.
ومن المعلوم أن القومية ليس لها في نفسها مضمون عقدي أو فكري (إيديولوجي) فيمكن أن تملأ بالفكرة الليبرالية, أو بالفكرة الماركسية, او بالفكرة الإسلامية, ولكن دعاة القومية العربية في مصر, كدعاة البعث العربي في الشام والعراق: جعلوا مضمون القومية هو الاشتراكية اليسارية, التي ناصبها الشيخ العداء الصريح.
يقول في ذكرياته:
كان عندنا في الشَّام – ونحن صغار- مدرِّسون من فلسطين ومن تونس ومن المغرب، ومدرِّسون من الترك، ومن الأكراد، سرَدْتُ أسماء بعضهم فيما مضى من هذه الذِّكريات, فما كنَّا نسأل، ولا نفكِّر أن نسأل عن أجناسهم، ولا عن أقوامهم، ولا عن مواطنهم, كانوا مسلمين ويكفينا أنَّهم كانوا مسلمين, فنشَأَتْ ونحن صغار فتنة القوميَّات، فقال التُّرك: ترك، وقال العرب: عرب، وقال الأكراد: أكراد، فتفرَّق الشَّمل الجميع، وتعدَّدت الأمَّة الواحدة، فصارت أممًا.
كانت فتنة القوميَّة، وتَعِبْنا في جدال هؤلاء القوميين، نتبع في ذلك الأمير شكيبًا (شكيب أرسلان) وإخوانه، ويتبعنا من جاء بعدنا, كتبتُ في ذلك عشرات (عشرات حقًّا) من الخطب والمحاضرات؛ لنبيِّن للنَّاس أنَّنا لا نعادي العربيَّة، وإنَّما ندافع عن الإسلام، وأنَّنا نعرف للعروبة قدرها، ولكن تحت راية الإسلام.
ثم كانت فتنة الاشتراكية, وخدع ناس من أفاضلنا, فقالوا: (اشتراكية الإسلام) ألف في ذلك صديقنا الداعية إلى الله الرجل الصالح الدكتور الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله.
ولقد حضرت محاضرته في الجامعة السورية عن هذه الاشتراكية التي سماها إسلامية, على ندرة ما أحضر من المحاضرات, وكان إلى جنبي في الصف الأول أخي ورفيقي في كلية الحقوق وأحد أصدقاء عمري, الشيخ مصطفى الزرقاء, فكنت أعترض أخانا الشيخ السباعي كلما اختار حكمًا فقهيًا ضعيفًا يراه أقرب إلى الاشتراكية, وأقاطعه وأنا في مكاني, وكان بيني وبينه مناقشة بعد ذلك في الصحف, قلت له فيها, وقال لي وأنا أشهد له وقد مضى إلى لقاء ربه, أنه ما أراد بما كتب إلا الخير, وأن يقرب الاشتراكيين إلى الإسلام, والشيخ السباعي أمتن دينًا, وأكثر علمًا, من أن يكتب أو يقول ما يخالف الإسلام, ولكن الاشتراكيين كانوا أوسع حيلة, وأقوى أداة, وأكثر وسائل فاتخذوا كتابه ذريعة لتقرب المسلمين من الاشتراكية, وما أراد إلا أن يقرب الاشتراكيين إلى الإسلام.
وقد أخالف الشيخ الطنطاوي في موقفه من الدكتور الشيخ السباعي, وأرى أن كتابه لا يؤخذ عليه إلا الإسلام, أما مضمونه فهو اجتهادات, تنبع من صميم الفقه الإسلامي, وأن كنت أوافق الشيخ الطنطاوي في استغلال الاشتراكية الناصرية للكتاب التي طبعت ووزعت منه عشرات الألوف.
وإذا كان الشيخ قد وقف حايته وقلمه ولسانه وفكره للذود عن الإسلام, فلا غرو أن رشحته الجامعات والمؤسسات العلمية الإسلامية, لجائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام, وقد حصل عليها, وهو لها أهل.
العربية لسان الإسلام
يعتبر الشيخ الاعتزاز باللغة العربية – التي هي لسان الإسلام – جزءًا من الاعتزاز بالدين, وبالذاتية الثقافية, والهوية الحضارية للأمة, ويرفض استخدام الكلمات الدخيلة المنقولة من اللغات الأجنبية, إلا بعد تعريبها أو إيجاد البديل لها, كوضعة كلمة (الرائي) بدل كلمة (التلفزيون) وكلمة (الراد) بل الراديو, كما عرب كلمة (الكيلو) بـ(الكيل) وغيرها.
ومن هنا دافع الشيخ عن الفصحى دفاعه عن الإسلام, ودافع عنه الأدب الراقي, وقاوم الأدب السوقي, ودافع عن الشعر العمودي, شعر العرب ذي الوزن والقافية, ووقف ضد هذا البدع (الموضة) المستورد مما يسمى الشعر الحديث.
يقول رحمه الله: بدأت في أيامنا فتنة (الشعر المنثور) الذي سئل عنه الأستاذ المازني يومًا, فقال (على عادته في السخرية والتهكم): بل هو النثر المشعور! أو ما هذا الكلام المصفوف صفًا الذي ينشر في الجرائد على أنه شعر, وعلى أن أصحابه شعراء, ما فيه من الشعر إلا أنه طبع على هيئة أبيات القصيدة, فهو شعر المسطرة, أما موسيقا الشعر, وحَرب الشعر, وسمو الشعر, فما فيه منه شيء.
ولقد قدم شيء من هذا الشعر إلى الأستاذ العقاد, وهو رئيس لجنة الشعر في المجلس الأعلى للفنون والآداب – فكتب: يحول إلى لجنة النثر, أي أنه أراد أن يدخل دولة الشعر بجواز مزور, فرفضه ورده إلى موطنه.
صراحة متميزة
ومما امتاز به الشيخ على الطنطاوي: الصراحة, فهو يقول الحق كما يعتقده, لا يخاف لومة لائم, ونقمة ظالم, وإن كان في الفترة الأخيرة من حياته المباركة أقلَّ حدة مما كان عليه من قبل, فللسنين حكمها, وللزمن (بصمته) على الإنسان.
فلذلك نقد كثيرين, وهاجم كثيرين, وهاجم قومًا, ثم عاد فمدحهم, كما فعل مع الشاعر الأديب السوري الأستاذ شفيق جبري, فقد هاجمه حين كان مديرًا لديوان المعارف (وكيل وزارة), ثم عاد فمدحه بعد تركه للمنصب, واستشهد بنا بقول ابن هبيرة: ما رأيت مثل الفرزدق: هجاني أميرًا, ومدحني معزولًا!
وذكر أنه أخطأ أحد طلابه مرة, فوبَّخه أمام زملائه وقسا عليه, فلما عاد إلى البيت, وراجع المسألة, عرف أن الطالب كان على صواب, وأنه هو المخطئ, وعندما رجع إلى طلابه في اليوم التالي أعلن أمامهم صراحة أن الطالب كان على حق, وأنه أخطأ في حقه مرتين؛ أنه خطأه وهو مصيب, وأنه قسا عليه, على غير ما يليق بالعلماء مع تلاميذهم!
ومن الطريف أن نجد هذه الصراحة في مواقف كثيرة للشيخ مع نفسه, ومنها ما سجله في مذكراته في مناجاة أو محاسبة لنفسه, فقد كان الشيخ يكتب مقالاته بأجر, وهذا معروف عنه, ويهمني أن أنقل هنا هذه المحاسبة الصريحة من الشيخ نفسه حول هذه القضية, يقول رحمه الله في مذكراته أو ذكرياته:
لقد أمضيت حقبة من عمري في حلبة النضال أقاتل وحدي على ضعف يدي, وقلة عزمي, حاربت على جبهتين, جبهة الجهلة الجامدين, الذين يحرفون الدين ويغشون المسلمين, وجبهة الفاسدين المفسدين.
وما حدت بحمد الله عن هذا الطريق, وما كتبت بقلمي متعمدًا ما لا يرضي ربي, وإن كنت لا أبرئ نفسي من الخطأ.
وأنا أكتب من ستين سنة كاملة, وآخذ على ما أكتبه أجرًا, لأنني كاتب محترف, كتبت آلافًا وآلافًا من المقالات, وأنا أحاسب نفسي الآن, وطالما حاسبتها قبل الآن, فأتساءل: هل هذه الأجرة من الناس تذهب ما آمل من الثواب عند الله؟ وأخشى أكون قد قضيت لنفسي, وأنا أعرض قضائي على القراء, لأسمع ما لهم فيه من آراء.
وأنا أولًا أسأل نفسي فأقول: يا نفس هل كنت تكتبين ما يخالف الدين ولو أعطيت على كتابته الملايين؟ فأجد الجواب اليقيني الصادق, أن: لا.
وأسألها, إن لم يكن في الساحة من ينكر المنكر, غيرك يا نفس, وكان الإنكار واجبًا شرعًا, هل كنت تمتنعين عن إنكاره, لأنك لم تُعْطَى أجرة الكتابة؟ فأجد الجواب اليقيني الصادق, أن: لا. وأنا أقول الآن ما كنت أقوله من قبل, هو أني ما بدلت بحمد الله ولا غيرت, وما قلت يومًا كلمة الباطل وأنا أعرف بطلانه, وإن صرت أعجز أحيانًا عن أن أعلن كلمة الحق.
إن أول كتاب صغير نشر لي سنة 1348هـ, ما قلته فيه هو الذي قلته في آخر كتاب أعيد طبعه ليس سنة 1406هـ, وأن تبدل مني شيء فهو الأسلوب, كنت فتى فيه شدة, وفيه حدة, فألانتني الأيام قليلًا, وهدأت حدتي, وإن كانت لم تستطع أن تمحوها نفسي.
والشيخ لا يترك أخلاقـــــــه حتى يوارى في ثرى رمســــه
وذو الشوق القديم وإن تعزى مشوق حين يلقى العاشقينا
تراث ضخم
ترك الشيخ الطنطاوي تراثًا ضخمًا يتمثل في عشرات الكتب في الدين والفكر, والأدب والتاريخ, والتربية والإصلاح, ومنها (ذكرياته) التي نشرت في ثمانية أجزاء.
كما يتمثل في مئات أو آلاف المقالات, لم يودع أكثرها في الكتب, وأعرف أن الشيخ مجد مكي يحاول جمعها من مظانها, وقد جمع مقدمات الشيخ بنحو خمسين كتابًا فأخرجها في كتاب مع (مقدمة المقدمات) بقلم الشيخ.
كما ترك الشيخ مئات الأشرطة المسوعة – إن لم يكن آلافها – من دروس الشيخ ومحاضراته, وفتاواه في تلفزيون المملكة, وقد كان هو حريصًا على أن يسجل لنفسه كل ما يقدمه من أحاديث أو فتاوى.
وكم أتمنى أن تقوم (دور النشر) التي تنشر كتب الشيخ, أن تصدر مجموعة أعماله كاملة, ما نشر منها وما لم ينشر, لتستفيد الأجيال منها بصورة غير منقوصة.
الشيخ لم ينجب أبناء من صلبه
لم ينجب الشيخ ذكورًا, إنما أنجب خمس بنات, يتعز بهن – كما يعتززن به – كل الاعتزاز, إحداهن (بنان) زوجة الداعية الإسلامي المعروف عصام العطار, التي اغتيلت بداية الثمانينيات في مدينة آخن بألمانية, وحين بلغ نبأ اغتيالها لوالدها احتسبها شهيدة عند الله.
وله من بناته أحفاد وحفيدات يباهون بانتسابهم إلى الشيخ الطنطاوي, وكتبت إحداهن كتابًا عنوانه (هكذا علمني جدي علي الطنطاوي).
وإذا كان الشيخ لم ينجب أبناء من صلبه, فإن له أبناء كثيرين منتشرين في أنحاء العالم الإسلامي وخارجه, لا ينتمون إليه بالنسب والرحم, ولكن بالفكر والروح.
رحم الله شيخنا الطنطاوي, وغفر له, وتقبله في الصالحين من عباده, وأسكنه الفردوس الأعلى مع المقربين, وجزاه عن دينه وأمته, وعن العلم والأدب, والثقافة والدعوة؛ خير ما يجزي به الدعاة الصادقين, والعلماء العاملين, والأئمة الهادين المهديين, اللهم لا تحرمنا أجره, ولا تفتنا بعده, واغفر لنا وله آمين.
(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)