الشيخ أسامة الرفاعي.. بين مفتي الشريعة ومفتي الدولة (2)
بقلم معتز الخطيب
عالجت في مقال الأسبوع الماضي – تحت عنوان “الشيخ أسامة الرفاعي وحديث الإفتاء” – مشكلة تمثيلية المفتي الجديد المعيّن من قبل المعارضة السورية في إسطنبول، سواء لجهة انتخابه أم لجهة ممارسته لمهامه بوصفه معبرا عن “الجمهورية العربية السورية”. وفي هذا المقال أعالج الدور المنوط بالمفتي، وكيفية ممارسته له، وعلاقته بالإرث الفقهي والتقليد العلمي.
مزج الشيخ أسامة الرفاعي -في كلمته التي سماها “حديث الإفتاء” بمناسبة تسميته مفتيا للجمهورية العربية السورية- بين اصطلاح “المفتي” (مفتي الشريعة) في الفقه الإسلامي وبين “منصب المفتي” (مفتي الدولة) في ظل دولة ما بعد الاستعمار.
وثمة فروق عديدة بين منصبي الفتوى في الشريعة وفي الدولة، فالمفتي في الشريعة “قائم مقام النبي صلى الله عليه وسلم” (كما عبر الإمام أبو إسحاق الشاطبي) أو هو “موقع عن الله” (كما عبر الإمام ابن قيم الجوزية) من جهة “إخباره” عن الله سبحانه إما نصا أو اجتهادا في حدود علمه وطاقته البشرية، وقد يخطئ في اجتهاده، ثم إن تصدي مفتي الشريعة لمنصب الفتوى لا يحتاج إلى تعيين جهة ولا انتخاب مجموعة له، فمداره على العلم والكفاءة التي لها شروط محددة في المذاهب الفقهية.
والأصل في المفتي -وفق التقليد الفقهي- أنه “المجتهد” (بشروطه المذكورة في كتب الفقه والأصول)، ولذلك تحدث الفقهاء عن مراتب للمفتي، وقالوا إن الذي ينقل أو يحكي آراء علماء المذهب ليس بمفتٍ على الحقيقة.
ومن هنا نعلم أهمية التمييز بين إنتاج المعرفة وبين نقلها، كما نعلم أن كثيرا من المتصدرين للفتوى اليوم لا ينطبق عليهم وصف المفتي بالمعنى الاصطلاحي، لأنهم ليسوا من منتجي المعرفة، بل إن بعضهم -مع نقص كفاءته- لا يتقيد بنقل أقوال المذاهب الفقهية أيضا، كما رأينا -مثلا- في فتوى قتل الشرف الصادرة عن المجلس الإسلامي السوري، والأصل في التقليد الفقهي أنه يجب على المستفتي ألا يعمل بقول المفتي لمجرد إفتائه، بمعنى أنه لا يتعين -ديانة- الاستجابة لمفتٍ بعينه دون غيره.
أما منصب المفتي الرسمي فالحال فيه مختلف، ويمكن أن نميز هنا بين مرحلتين له:
الأولى: مرحلة الإمبراطورية العثمانية التي كانت أول من أنشأ منصب المفتي الرسمي للدولة، ومارس فيها المفتي (شيخ الإسلام) دورا تشريعيا، خصوصا في عهد سليمان القانوني، فكان يُسأل المفتي في التشريعات القانونية للإمبراطورية حتى تكون متوافقة مع الشريعة (مثل معروضات شيخ الإسلام أبي السعود أفندي).
الثانية: مرحلة دول ما بعد الاستعمار التي يعد منصب المفتي الرسمي فيها منصبا سياسيا، إذ مهمته إضفاء شرعية على النظام الحاكم، وتدبير مسألة الفتوى على مستوى الدولة، وإدارة الشعائر الدينية الجماعية التي تضفي طابعا إسلاميا على النظام يستمد منه شرعيته ولو كان ظاهرا، أي ليس للمفتي دور في بناء السياسات والتشريعات ولا في تقويمها، وقد يتسم في بعض الأحيان بطبيعة شخصية إلى جانب طبيعته الرسمية، وهنا قد تصدر تصرفات من قبل المفتي ناتجة عن طبيعته الشخصية (جرأة أو جبنا)، وإن كان ذلك يتوقف على طبيعة النظام الحاكم والهامش الذي يتيحه للحركة أيضا، وعلى النفوذ الشعبي الذي يتمتع به شخص المفتي الرسمي، وهي تعكس ممارسات هجينة يختلط فيها منظوران لمنصب المفتي: المنظور الشرعي التاريخي والمنظور السياسي الحديث.
أما الرفاعي فيبدو مسكونا بهاجس تاريخي حول دور الشيخ -عموما- في المجتمع، ثم يُسقطه على منصب المفتي الذي هو موظف عند الدولة ودوره استشاري فقط، ويمكن مناقشة هذا المزج الذي يقوم به الرفاعي بين مفتي الشريعة ومفتي الدولة، والدور المنوط بالمفتي الجامع للصفتين (الشرعية والرسمية) في تصورات الرفاعي من خلال أمرين:
الأول: القصص والأمثال التي ذكرها في “حديث الإفتاء” والتي تمثل -وفق منظوره- المفتي النموذجي أو الذي يحتذى.
الثاني: الفتوى التي أصدرها خلال حديثه الأول بوصفه “مفتيا للجمهورية العربية السورية”، والتي صدّرها بقوله “أخاطبكم كمفتٍ”.
أولا: قصتا النووي وأبو اليسر عابدين والمفتي النموذجي
في ما يخص الأمر الأول ذكر الرفاعي قصتين أو مثالين لبيان الدور الواجب على المفتي، في المثال الأول حكى لنا قصة مفتي سوريا الأسبق أبو اليسر عابدين (أحيل إلى التقاعد عام 1963، وله إرث علمي منشور) مع وزير السياحة في حينه، وأنه ذهب إليه في مكتبه وأنكر عليه الإعلان عن حفلة لراقصة في مقهى بدمشق، ثم صارت القصة حديث الصحافة في ذلك الوقت.
وفي الثاني حكى لنا قصة الإمام محيي الدين النووي (توفي عام 676 هجري، وهو أحد أئمة المذهب الشافعي) مع الظاهر بيبرس، حيث أمره النووي بأن يمول الجيش من ماله الخاص، ورفض الانصياع لرغبته في تمويل الجيش من أموال الناس.
يقدم هذان المثالان -من منظور الرفاعي- فكرتين مركزيتين: الأولى: الدور النموذجي لمفتي الدولة، والثانية: أن المفتي إذا استقام استقام الناس معه، وإذا فسد فسد الناس معه.
-
الدور النموذجي للمفتي
في المثال الأول (أبو اليسر عابدين)، نجد أنفسنا أمام تصرف يتصل بالأخلاقيات الاجتماعية العامة وواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا يستوي فيه فعل المفتي وغيره، لأنه أمر بالمعروف، والشريعة تخاطب عموم الأفراد بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (أما تغييره باليد فهذا شأن آخر).
أما في المثال الثاني (النووي) فهو من صميم الاجتهاد الفقهي بالمعنى الاصطلاحي، لأنه يتعلق بفرض الحاكم ضرائب على التجار لتمويل الجيش لقتال التتار بحجة المصلحة العامة، أي أنه يتصل بالأحكام السلطانية من جهة، وبحقوق/ أموال الناس من جهة أخرى، وللمذهب الشافعي -الذي ينتمي إليه النووي- تشديد في التصرفات السلطانية على خلاف مذهب الحنفية مثلا.
فالمثالان يقدمان تطبيقا عمليا لمبحثين من مباحث الشريعة، وهما: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاجتهاد الفقهي أكثر مما يقدمان نموذجا نضاليا أو حركيا لما يجب أن يكون عليه حال المفتي الرسمي، بل إن كلا المثالين لا يتطلب وجود “منصب المفتي” أصلا، فهما يخدمان الفكرة الدينية ولا يخدمان فكرة “تعيين مفتٍ” أو ضرورة وجوده لممارسة هذا الدور بعينه!
ثم إن علماء آخرين في عصر النووي -مثلا- وافقوا السلطان على ما أراد، وخالفهم الإمام النووي من دون أن تكون له صفة رسمية، ولكن سلطته العلمية في المذهب الشافعي ممتدة عبر قرون، لكفاءته وإسهاماته العلمية واندراجه ضمن التقليد المذهبي الفقهي.
وإن أخذنا المثال الأول (الخاص بالراقصة) -وهو مثال نموذجي في رأي الرفاعي- ونزلناه على الرفاعي نفسه في إسطنبول فسيعود عليه بالسلب، لأنه لا يمارس ما مارسه أبو اليسر عابدين مثلا، بل لا يستطيع ذلك لو أراده في بلد علماني منفتح اجتماعيا وقانونيا، أي يفصل الدين عن الدولة لا عن المجتمع، ومن ثم فالحرية السائدة في البلد الذي يعيش فيه تختلف عن مفهوم الحرية الذي يقدمه الرفاعي في “حديث الإفتاء”، حيث يوضح أن الحرية مشروطة “بما يرضي الله”، الأمر الذي سيضعه في مأزق حول ما إذا كان يطالب بحرية للسوريين تختلف عن الحرية التي يقرها أو يستسلم لها في إسطنبول، وما إذا كانت ولايته الشرعية -بوصفه مفتيا وفق تصوره- مقتصرة على أصحاب الجنسية السورية فقط، وهو ما يعيدنا مجددا إلى الخلط بين مفتي الشريعة ومفتي الدولة القومية.
2. صلاح المفتي وصلاح الناس
وفي ما يخص الفكرة الثانية، وهي أن المفتي إذا استقام استقام الناس معه وإذا فسد فسد الناس معه فكأنه يحيل في هذا إلى مفتي الدولة (المفتي الرسمي) لا إلى مفتي الشريعة، وعلى أي حال فالمثالان لا يساعدانه، لأن الاستقامة الدينية غير مرهونة بسلوك المفتي (صلح أم فسد) ولا بسلطة الدولة التي يفترض الرفاعي أن مفتي الدولة يجب أن يمثلها ويستخدم سلطته لمنع المنكرات فيها، فالاستقامة إنما تتم بالتربية والدعوة لا بالفتوى، ومن ثم ميز العلماء بين الفتوى والتقوى، كما أن السلطة والفتوى لا تساعدان الناس على التخلق بقدر ما تمنعانهم من المعصية ظاهرا على الأقل، وكأن الرفاعي يستبطن في هذا التصور فكرة أن الناس على دين ملوكهم أو مفتيهم، وهو تصور تاريخي مُتَجاوَز في ظل الدولة التي يريد أن يمارس فيها دور المفتي الرسمي.
الفتوى إذن في التراث العلمي الفقهي هي كفاءة ومؤهلات أولا وليست مجرد ثقة أو ديانة، فالثقة تأتي في المرتبة الثانية
بل إننا إن رجعنا إلى الإرث الإسلامي نفسه فسنجد التمييز بين مسألتين في المفتي: (1) العلم (2) الثقة أو الديانة، فصلاح المفتي نفسه معدود لدى العلماء من الآداب، لأن صلاح المفتي إنما يرجع لأسباب خارجة عن الفتوى ذاتها وبنيتها ومنهجيتها، فقد يؤثر حال المفتي في فتواه وقد لا يؤثر بحسب الأحوال والأشخاص، ولكن كفاءته أو عدم كفاءته العلمية تؤثر لا محالة في فتواه، نعم حسن سيرة المفتي وتحريه موافقة الشريعة في أفعاله وأقواله هو مطلوب لأنه قدوة، وبكونه قدوة يحصل به “كمال البيان” وليس بالضرورة “كمال الاقتداء”، خصوصا في مجتمعات تعددية كالتي نعيش فيها.
وبهذا يمكن التمييز هنا بين المنهجي والشخصي، أو الموضوعي والذاتي في النظر إلى الفتوى والمفتي، ومن هنا ناقش فقهاؤنا السابقون “فتوى المفتي الفاسق” مثلا، فذهب بعض فقهاء الحنفية إلى أن الفاسق يصلح مفتيا، لأنه إنما يجتهد لئلا يُنسب إلى الخطأ، وذهب ابن قيم الجوزية من الحنابلة إلى أن فتيا المفتي الفاسق تصح بشرط ألا يكون معلنا فسقه وداعيا إلى بدعته، وبشرط أن يعم الفسوق ويغلب على المجتمع، فالرأي الأول ميز بين الشأن الفردي للمفتي وبين الشأن العلمي المتمثل في فتواه، وفي الرأي الثاني نجد أن ابن قيم الجوزية كان حريصا على بقاء ودوام “بيان أحكام الشريعة” للناس حتى لا تتعطل الشريعة نفسها إذا ما رهناها لتوفر المفتي النموذجي الذي يطابق حاله مقاله، فهذه مسألة كمالية لا ضرورية، ولما كان الواجب هو اعتبار الأصلح فالأصلح كان تحديد من هو أصلح مسألة نسبية تخضع للزمان والمكان والأشخاص.
فالفتوى إذن في التراث العلمي الفقهي هي كفاءة ومؤهلات أولا، وليست مجرد ثقة أو ديانة، فالثقة تأتي في المرتبة الثانية، ولهذا ذهب الإمام الخطيب البغدادي (توفي عام 463 هجري) -مثلا- إلى صحة فتاوى أهل الأهواء، لأن شرعية الفتوى إنما تقوم على تعليلات وتسويغات، وتتحقق بالاستناد إلى تقليد فقهي موضوعي (غير مشخص كما هو الحال لدى الجماعات الدينية المعاصرة).
وسلامة الفتوى لا تتحقق بمجرد كونها صادرة عن شيخ هذه الجماعة أو تلك أو هذه الجهة أو تلك ممن يزعم المرجعية والسلطة العلمية لنفسه بناء على محاصصات وتحزبات، بل لا تتحقق كذلك من باب أولى بمجرد كونها صادرة عن منصب “مفتي الجمهورية”، وهذا فارق مهم بين مفتي الشريعة ومفتي الدولة أو من يسعى لتمثيلها أو يتصارع معها على ممارسة سلطتها أو مشاكلتها في بعض وظائفها.
وهذه النقطة توضح أيضا إحدى السمات المركزية التي تَسِم الفتوى في المجال السني وتفصلها عن المجال الشيعي الذي قد يتورط بعض الحركيين الإسلاميين في محاولة التشبه به وتقليده حين يسعون إلى الإلزام بالفتوى، سواء بسلطة الدين أم بسلطة الدولة، فالسلطة في الإسلام السني إنما هي للتقليد الفقهي (الممثل في المذاهب السنية المعروفة) وليس للأشخاص ولا الهيئات التي يتم تشكيلها هنا أو هناك.
الشمولية ومحاولة الضبط والسيطرة هي من سمات الدولة الحديثة ذات السيادة التي لا تتحقق سيادتها إلا عبر الضبط والتحكم والتقنين، في حين أن الشريعة الإسلامية -قبل الدولة القومية- تعددية على مستويات عدة تتمثل في: أصول الفقه والفروع الفقهية والقضاء، ومن ثم فإن توحيد الفتوى من خلال تعيين مفتٍ رسمي هي فكرة سلطوية حديثة لا تستقيم مع الإرث الفقهي الغني الذي استمر لقرون
يقودنا “دور المفتي” -وفق تصورات الرفاعي- إلى إرساء تصور أحادي للفتوى يشبه تصور النظام أو وزير أوقافه عنها، فكلاهما يسعى جاهدا إلى محاولة ضبط وتقنين الفتوى والمجال الديني تحت سلطته أو سلطة جماعته، وكلاهما يدعي تمثيل الإسلام “رسميا” تحت سقف “الجمهورية العربية السورية”، ويتجلى هذا في أمرين رئيسيين:
الأول: من خلال إلغاء منصب المفتي السني من قبل نظام الأسد وإحلال مجلس مكانه مع ادعاء أنه “تعددي” وتمثيلي للتوجهات الدينية المختلفة في البلاد من جهة، ومن خلال ما سميت “استعادة” منصب المفتي أو “عودة الأمور إلى نصابها” من قبل المعارضة في إسطنبول من جهة أخرى، فقرار النظام وقرار المعارضة ربما أديا إلى توهم أن وجود مفتٍ رسمي ضرورة دينية (وجودا وعدما)، وكأن جماعة المسلمين السوريين مهددة في ظل غياب منصب المفتي رغم وجود روابط وهيئات عدة، والرفاعي نفسه إما رئيس لها أو عضو فيها، مثل رابطة علماء الشام، ومجلس الإفتاء السوري، ورابطة العلماء السوريين.
ومع كل ذلك، يؤكد الرفاعي في كلمته أن البلد لا بد له من مفتٍ رسمي، وإذا ما عدنا إلى لحظة تأسيس مجلس الإفتاء السوري التابع للمجلس الإسلامي السوري فسنجد أنه إنما أنشئ -بحسب بيان سابق له- نظرا لاستمرار الثورة السورية ووجود نوازل عديدة تحتاج إلى الفتوى، و”من أجل عدم تفرد أي جهة بالفتيا في تلك النوازل”، أي أن إنشاءه كان بهدف ضبط شأن الفتوى والتحكم فيها كجزء من الصراع مع النظام.
الثاني: تصور أن دور مفتي الجمهورية دور شمولي، وهو ما عبر عنه الرفاعي بقوله “ليتداعى إليه السوريون جميعا لمعرفة شؤون دينهم ودنياهم، فديننا شامل لجميع شؤون الحياة”، وهو بهذا يقفز من فكرة شمولية الدين إلى شمولية دور مفتي الجمهورية، وشتان بين الأمرين، فهو يقع في المشكلة نفسها التي وقع فيها الإخوان المسلمون حين خلطوا بين شمولية الدين وشمولية حركتهم هم، ومن البديهي أنه لا المفتي ولا المجلس السوري لديهما معرفة شاملة تؤهلهما للفتوى في تفاصيل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية، فحتى مجمع الفقه الإسلامي الدولي الممثل لمنظمة التعاون الإسلامي بجميع دولها قام على تعدد التخصصات وضم خبراء من حقول معرفية متعددة خلال العقود الأربعة الماضية.
فالشمولية ومحاولة الضبط والسيطرة هي من سمات الدولة الحديثة ذات السيادة التي لا تتحقق سيادتها إلا عبر الضبط والتحكم والتقنين، في حين أن الشريعة الإسلامية -قبل الدولة القومية- تعددية على مستويات عدة تتمثل في أصول الفقه والفروع الفقهية والقضاء، ومن ثم فإن توحيد الفتوى من خلال تعيين مفتٍ رسمي هو فكرة سلطوية حديثة لا تستقيم مع الإرث الفقهي الغني الذي استمر لقرون، وهي فرع عن سلطة الدولة الحديثة التي ضاقت بالتعددية القانونية رغم أن التاريخ الإسلامي شاهد على وجود تعددية قانونية أيضا تمثلت في قضاة المذاهب الفقهية الأربعة وغيرها من أحكام أهل الذمة الخاصة بهم، والقانون العثماني الملّي، فالمسألة أبعد من مجرد الاقتصار على مسائل “إجرائية” تتصل بثنائية التعيين والانتخاب كما تصور بعضهم، وإلا لماذا بحث العلماء قديما مسائل مثل التزام المفتي الواحد بمذهب واحد، وتعدد اجتهادات المفتين، ومراتب المفتين، وترجيح المستفتي بين فتاوى المفتين عند اختلافها، ومفتي الناحية أو البلد، وغيرها من المسائل؟
لا يمكن إذن ادعاء أن للمفتي دورا شاملا لمسائل الدين والدنيا، فالديني في التراث الفقهي معياره “الإخبار بحكم الله”، وهذا الإخبار له حالتان: منصوص وغير منصوص، أما في المنصوص (الذي ورد به القرآن والسنة ولا يحتمل إلا معنى واحدا) فيمكن الجزم بأنه حكم الله، وأما في غير المنصوص (أي في المساحات الاجتهادية الواسعة) فهناك قولان فيه:
الأول: ألا يقول فيه: حكم الله، لأنه في الواقع اجتهاد المفتي، ويحتمل الصواب كما يحتمل الخطأ، وحكم الله القطعي غير معلوم لنا، لأن النص هو المعبر عن إرادة الله تعالى.
الثاني: أنه يقول فيه: حكم الله، ولكنه حكم الله في نظر المفتي وبحسب ما أداه إليه اجتهاده فهو صواب نسبي، أي بالنظر إلى اجتهاده ونظره هو، وهذا يعني أن بقية الأنظار الاجتهادية سيتحقق فيها الأمر نفسه، ومن ثم سيتعدد حكم الله بتعدد المجتهدين، وهذا من شأنه أن يعطي شرعية متساوية لجميع الاجتهادات، وحينها لن تنفع المناصب نفسها في الإلزام برأي واحد دون غيره إلا بقوة السلطة أو الدولة، وهو ما يسعى المجلس السوري إليه، وهكذا عاد بنا الأمر إلى الشأن السياسي والممارسة السياسية لا الدينية، والممارسة الدينية لا إلزام دينيا فيها كما لا تأثيم في مخالفتها.
ثم إن مسائل السياسة مسائل مصلحية يتعقد فيها الأمر حينما تدخل في صراعات تنافسية على السلطة كتلك التي تجمع بين مكونات أو توجهات المجلس الإسلامي السوري، ومن ثم لا يمكن الحديث فيها عن إخبار بحكم الله، بل عن موقف سياسي تقديري لهذا الطرف أو ذاك.
ولم يوضح لنا المفتي الجديد تصوره للعلاقة بين دور مفتي الجمهورية والجهات السياسية الأخرى، وواجباته تجاه الفرقاء السوريين، وما إذا كان سيحتفظ بمسافة واحدة من جميع الأطراف، وعدم تحويل الفتوى إلى أداة دينية تنافسية في ظل مثل هذه الصراعات والتجاذبات بعد أن كانت -في التقليد الفقهي الإسلامي- إخبارا عن حكم الله وتحريا لإرادته نصا أو اجتهادا.
ثانيا: الفتوى الأولى للرفاعي بوصفه مفتيا للجمهورية
الأمر الثاني الذي يمثل الخلط بين مفتي الشريعة ومفتي الدولة يتمثل في الفتوى الأولى التي أصدرها الرفاعي أثناء “حديث الإفتاء”، وهي المثال الأبرز المعبر عن حالة منصب الفتوى (فتوى الدولة) وعدم توفره -بالضرورة- على مقتضيات وشروط فتوى الشريعة، الأمر الذي يؤكد ضرورة التمييز بينهما من وجه آخر بالإضافة إلى كل ما سبق من فروق، كما يمثل غلبة الجانب الوعظي لدى الرفاعي على الجانب العلمي.
في فتواه الأولى قال الرفاعي “أخاطبكم كمفتٍ.. ما لم يكن الإنسان متجردا عن المعاصي مبتعدا عنها فإن دعاءه لا قيمة له.. فمن أول شروط الدعاء أن يكون الذي يلجأ إلى الله بعيدا عن المعاصي”، وهذا الكلام الذي قاله الرفاعي بصفة الفتوى لا صلة له بالفتوى، بل هو أشبه بكلام الوعاظ الذين تتمحور وظيفتهم حول ترغيب الناس في التوبة، ولا شك أن التوبة من الذنوب واجبة في كل وقت وليس لأجل الدعاء فقط، أما العقل الفقهي فيعمل بمنهجية ولغة مختلفة، لأنه يتحرى “حكم الله” كما سبق، وبناء على هذا فإن التوبة ليست شرطا في الدعاء عند الفقهاء، وقول الرفاعي إن الدعاء “لا قيمة له” كلام غير فقهي، لأن الفقهاء يميزون بين أمرين هنا:
الأول: حصول الأجر والثواب من الداعي، فالداعي يثاب على دعائه ولو كان عاصيا، لأن الدعاء عبادة في ذاته فإذا وقع وقع أجرها، فالجهة هنا منفكة بين فعل الدعاء وحصول الاستجابة من الله تعالى، فنحن نقوّم هنا فعلين مختلفين.
الثاني: تحري الداعي ما هو أرجى للقبول من الله تعالى، ولا شك أن الإقلاع عن المعاصي أرجى لقبول الدعاء، ولكن لا يعني هذا أن الإقلاع شرط لصحة الدعاء أو لقبوله من الله تعالى، فالله تعالى أطلق القول فقال سبحانه “أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء”.
ثم إن العلماء يقسمون المعاصي إلى 3 أقسام: الكبائر والصغائر والتبعات (أي حقوق العباد المتعلقة بالذمة)، فإن أراد الرفاعي الصغائر فلا يَعرى عنها أحد من المكلفين، وتكفيرها من قبل الله تعالى عدمي لا ثبوتي على الصحيح من أقوال العلماء، بمعنى أنه بمجرد أن يجتنب العبد الكبائر تُكفَّر عنه صغائره التي كان عملها، وهو ظاهر الحديث النبوي في هذا المعنى، وإن أراد بالمعاصي التبعات فهي لا تسقط إلا برد الحقوق إلى أصحابها لأن الدعاء لا يُسقطها.
وإذا ما طالعنا كتب الفقه وجدنا 3 مسائل توضح كيف أن ما سماها الرفاعي “فتوى” لا صلة لها بالفقه، وهذه المسائل هي:
الأولى: دعاء الكافر، وقد اختلف فيه الفقهاء، هل يستجاب؟ وقد جرت الفتوى في المذهب الحنفي على جواز استجابة دعاء الكافر (ليس بالضرورة كل كافر)، وهو قول جماعة من فقهاء الشافعية أيضا.
الثانية: مناقشة الفقهاء مسألة تأمين المسلم على دعاء الكافر أيضا، ومذهب جماعة من الشافعية جواز التأمين بل ندبه إذا دعا لنفسه بالهداية وللمسلمين بالنصر مثلا.
الثالثة: دعاء المظلوم ولو كان كافرا أو فاجرا، وأنه يستجاب، لعموم النصوص في استجابة دعائه ولبعض الروايات في ذلك، قال الإمام القرطبي “فيجيب [الله] المظلوم، لموضع إخلاصه بضرورته بمقتضى كرمه [سبحانه]، وإجابة لإخلاصه وإن كان كافرا، وكذلك إن كان فاجرا في دينه، ففجور الفاجر وكفر الكافر لا يعود منهما نقص ولا وهن على مملكة سيده [سبحانه]”.
بل حتى ما يذكره الوعاظ والقصاص من اشتراط الندم في التوبة هو محل نظر عند الفقهاء الذين يرون أن التوبة إنما تكون بالإقلاع عن الذنب والعزم على عدم العود إليه، أما الندم على الذنب ففيه قولان: الأول أن الندم شرط صحة للتوبة، والثاني: أنه شرط كمال وليس شرط صحة، بمعنى أنه تصح التوبة في حال الإقلاع والعزم على عدم العودة إليه وإن لم يقع الندم عليه، والأقرب أنه شرط كمال، وهذه التوبة يجب استصحابها في كل وقت، والله أعلم.
كان على المفتي الجديد أن يترك الحديث العام عن “الدور الشامل”، وأن يتقيد بالتقليد الفقهي الذي يضبط أداء مفتي الشريعة، وأن يكون وفيا له ما دام قد تصدى للفتوى، وكان عليه أن يوضح لنا خطته وواجباته تجاه الفئات التي ذكرها ذكرا مجملا كالمعتقلين والمرأة واللاجئين بدل أن يمارس دور الواعظ ويتحدث عن واجبات السوريين أنفسهم تجاه هؤلاء، في حين أن المقام مقام بيان منصبه هو ودوره هو، خصوصا أنه يرى أن دوره شامل.
فأي دور سيكون لمنصب المفتي الجديد في معالجة سوء وضع السوريين المتنامي في تركيا وحقوقهم والتخفيف من أزماتهم وتحسين ظروف عيشهم؟ ثم إن شكل علاقة المفتي الرسمي بالأقليات الدينية لا يفي بحقه وضع عمامة الشيخ بهجت البيطار على رأس فارس بك الخوري (القصة التي ذكرها الرفاعي لإثبات العلاقة الودية)، ولم يتحدث عن موقفه من أصحاب التيارات الفكرية الأخرى المعارضة للنظام أيضا ما دام يرى دوره شاملا.
من الأفضل للرفاعي أن يقيد دوره -كمفتٍ- في ما يحسن من أدوار اجتماعية وتوجيهية، وأن يستثمر شعبيته في حل مشكلات الناس والتقريب بين الفرقاء، وأن يترك مسألة الفتوى لمجلس علمي متخصص يجمع مختلف التخصصات على شاكلة المنهج الذي اتبعه مجمع الفقه الإسلامي الدولي، بحيث يأتي في كل قضية بأهل الاختصاصات المتعددة التي تشتبك معها إلى جانب الفقهاء (لا الوعاظ).
كما أن على المفتي أن يستأنس بقرارات المجامع الفقهية والفتاوى الصادرة عن الجهات المختصة في أماكن مختلفة، وأن يتعاون مع جهات الفتوى في أماكن مختلفة من العالم للاستعانة بها ولتعزيز دوره أيضا، عسى أن يعينه ذلك على تجاوز الإشكالات الشرعية التي أثرتها في مقالاتي، وقد أصبحت بهذا المقال 3 مقالات، والله الموفق.
المصدر: الجزيرة