مقالاتمقالات مختارة

الشرعيةُ: المفهوم وإشكالياته بين “الحداثة” و”التحديث”

الشرعيةُ: المفهوم وإشكالياته بين “الحداثة” و”التحديث”

بقلم د. إبراهيم البيومي غانم

في التاريخ المعرفي الحداثي لمفهوم الشرعية يبرز اسم جون لوك (1632 ـ1704م) باعتباره أول من استخدم هذا المفهوم كأساس لتحليل ظاهرة السلطة السياسية.

وكان دحض حجج السلطة المطلقة وتفنيد الوراثة كأساس للشرعية، من أهم ما قدمه جون لوك وهو يرد على روبرت فيفر مؤلف كتاب: “الحكم الأبوي. (Patriarcha)” ، وهو عبارة عن دفاع عن حق الملوك الإلهي “Divine Right of Kings”، المتحدر بالوراثة عن آدم عليه السلام بحسب روبرت فيفر.

وقد طرح لوك في سياق انتقاداته سؤالَ الشرعية في حال الإقرار بمبدأ السلطة الملكية المطلقة المتحدرة عن آدم. ورغم بساطة سؤاله؛ إلا إنه بالغ العمق. وهذا السؤال هو: من الذي يكون الوريث الشرعي لآدم وصاحب هذا الحق بهذه السلطة في دولة ما وفي حقبة بعينها؟

وهو يرى أنه: “لو فرضنا أن ورثة آدم كان لهم مثل هذا الحق، فليس ثمة سُنَّة طبيعية، أو شريعة إلهية تنصُّ على الوريث الشرعي في كل حال من الأحوال التي قد تنشأ، لذلك استحال تعيينُ صاحب الحق بالخلافة وبتولي السلطة تعيينًا ثابتًا”[1].

وبمثل هذا النقد المنطقي دقَّ جون لوك مسمارًا قويًّا في نعش السلطة التي كانت تستبد برعاياها بدعوى أن لها حقًّا إلهيًّا مطلقًا ووراثيًّا. وفتحَ هذا النقدُ الطريق أمام “الإرادة العامة” كأساس اجتماعي لشرعية السلطة السياسية الحاكمة.

وقَصد لوك بالسلطة السياسية معنى محددًا وإجرائيًّا هو: من له حق سن الشرائع وتطبيق عقوبة الموت، وما دونها من العقوبات؛ وذلك للمحافظة على المِلكية وتنظيمها، وكذلك من له حق استخدام قوة الجماعة في تنفيذ هذه الشرائع، ودفع العدوان الخارجي عن البلاد ـ وكل ذلك من أجل الخير العام.

ثم تطور الاستخدام الوظيفي لمفهوم الشرعية، فيما بعد، ليصبحَ دليلًا على الاختيار الحر من جانب المحكومين، لمن يتولى أمر السلطة السياسية وإدارة “الخير العام” لفترة محددة لا تتجاوزها إلا بتجديد الاختيار، مع لزوم الرضا الطوعي بسلطتها الأمرية في جميع الأحوال.

وقد تأكد بعد ذلك عنصر الطاعة الاختيارية كأساس للشرعية عبر صناديق الاقتراع الدوري والنزيه والعادل. ولم تعد الطاعةُ في زمن الحداثة مقتصرةً على المعنى الديني أو القانوني فحسب؛ وإنما اكتسبت معنًى اجتماعيًّا واسعًا؛ حيث أضحت تعني: “تقبُّل غالبيةِ أفراد المجتمع للنظام السياسي وخضوعهم له طواعيةً”؛ لاعتقادهم بأن هذا النظام يسعى لتحقيق أهدافهم الجماعية، ويعبر عن قيمهم وتوقعاتهم، ويتفق مع مُثلهم العليا ويسهر على حمايتها، ويحترم معاييرهم الأخلاقية والدينية والقومية.

وكان الإسهام النظري الأكثر تأثيرًا والأوسع انتشارًا في مسألة الشرعية مع مطالع القرن العشرين هو ما قدمه عالم الاجتماع الألماني الأشهر ماكس فيبر، الذي أعاد صوغ مفهوم الشرعية، وأعاد تعريف ماهيته، وأوضح أنماطَ الشرعية وآليات اكتسابها، ووظائفها الإدارية والاجتماعية والقانونية.

قبل نشأة الدولة الحديثة في أوروبا عصر النهضة، لم يكن معنى الشرعية السياسية مطروحًا للنقاش العام، رغم أنه كان محلَّ شكٍّ عميق، وتشكيك دائم عند أكثر فلاسفة التنوير، وكان محل رفض عند أغلبهم. ولم يهدأ لأولئك الفلاسفة بالٌ، ولم يقر لهم قرار حتى تمكنوا من إحلال مفهوم حداثي للشرعية، محل مفهومها التقليدي القديم.

كانت “الشرعية” مرادفةً لمزيج من وراثة الحكم في سلالة الملوك والأباطرة، وادعاء الباباوات أن معهم تفويضًا إلهيًّا للتصرف في مملكة الأرض والحكم الثيوقراطي، وما على عموم الرعية إلا الخنوع، وتقديم فروض الولاء والطاعة في كل وقت وحين.

ولكنَّ مياهًا كثيرةً جرت في نهر فكرة “الشرعية السياسية” منذ بدايات عصر النهضة والحداثة الأوربية إلى الواقع المعاصر. وأضحت “الشرعية” واحدةً من مفاهيم تأسيس الدولة الحديثة ذاتها على أساس “التفويض الشعبي” لا الإلهي، واختيار الحاكم اختيارًا حرًّا، عوضًا عن التفويض الإلهي ووراثة السلطة والحكم المطلق الذي كان محصورًا في سلالة ملكية بعينها. وأضحى أساس الشرعية هو “الإرادة العامة”، حسب منطق الحداثة السياسية، وخاصة بعد سقوط نظرية الحق الإلهي، وزوال شبح الحكم الثيوقراطي المغلق.

ومن أعظم الدروس السياسية التي كشفت عنها الحداثة السياسية للدولة في هذا الموضوع: أن الشرعية السياسية هي والرضا المجتمعي صنوان لا يفترقان في الغالب الأعم. وأن السخط المجتمعي والشرعية السياسية ضدان لا يجتمعان في الغالب الأعم. فالأمن والاستقرار وقوة التضامن الوطني والقدرة على الإنجاز؛ كلها مكافآت مضمونة عندما تكون الشرعية السياسية مبنيةً على الرضا المجتمعي والقبول الطوعي والاختيار الشعبي الحر.

والرضا المجتمعي الذي أعنيه في سياق الشرعية السياسية للدولة الحديثة هو: شعور مركب لدى القطاعات الواسعة – أو السواد الأعظم من الرأي العام – بالقناعة والثقة والارتياح النفسي، في وجوب المشاركة في اختيار مجموعة حاكمة تتولى السلطةَ السياسية لمدة زمنية محددة، والاعتراف بجدارتها على إدارة شئون المجتمع ورعاية الخير العام، على نحو يحقق هذا الشعور بالرضا والراحة والاستقرار.

ومن مؤشرات هذا الرضا الجمعي: أن تكون الضرورات الأساسية للحياة متوفرةً بيسر وسهولة للسواد الأعظم من المواطنين، وأن تكون لديهم مقدرة على النفاذ إليها والحصول عليها، وأن تكون رغباتهم وتوقعاتهم في مستقبل أفضل قوية ومتفائلة، وأن تكون الثقة بالذات الفردية والجماعية كبيرةً ومتماسكة. وأن تكون مظاهر الغضب والرفض والتمرد في حدودها الدنيا.

لم تترسخ الشرعيةُ بالمعنى السالف في الدولة الحديثة إلا مع ترسخ الديمقراطية في نظامها الاجتماعي والسياسي والقانوني. وأضحى الاستقرار، والنمو المطرد، وتحسن نوعية الحياة، واحترام كرامة المواطن، من أهم علامات توافر الشرعية والرضا المجتمعي. وأضحت الشرعية أيضًا من أهم نتائج انتظام التنافس السياسي التعددي، والتداول السلمي على السلطة.

وبعبارة أخرى: أضحى الرضا المجتمعي والشرعية السياسية وسيلةً فعالة لامتصاص موجات الغضب والعصيان، وأضحى أيضًا آلية سلمية تثبيت الطاعة والرضا العام.

ولكن الشرعية السياسية والاجتماعية بهذه الصيرورة، لم تتحقق في حالة الدولة الحديثة منذ وفودها إلى أغلب بلدان الأمة الإسلامية. ولهذا فإن الشعور الاجتماعي السائد تجاه السلطة في هذه البلدان هو مزيج من: الغضب والرضا، والامتثال والتمرد العلني أو الضمني، والعصيان والتحايل على القانون والإذعان له، وعدم الاعتراف بشرعية هذه السلطة أو تلك، والخضوع لها في آن واحد.

ولا معنى لهذه الظواهر إلا إنها براهين متضافرة على انتكاس “الدولة الوطنية/القومية الحديثة”عن مسار التحديث الذي كان يتعين السير فيه حتى نهايته. وهي أيضًا أدلة قوية على تراجع معنى الدولة الوطنية/الحديثة إلى مجرد “سلطة” تجمع رذائل الاستبداد الشرقي، إلى جانب أنها استبطنت رذائل الثيوقراطية الأوروبية الوسيطة، ورذائل التوتاليتارية الغربية الحديثة، حتى باتت “الدولة الحديثة” في أغلب مجتمعات الأمة الإسلامية مستودعًا كبيرًا لرذائل الاستبداد وقبائحه.

وقد تجلى هذا في تراجع مفهوم العمومية، وتآكل مفهوم المواطنة، وانحسار مفهوم الخير العام، وانتكاس حقوق الإنسان وكرامته إلى الحدود الدنيا، وما هو أدنى من الحدود الدنيا، ومحصلة هذا كله هو “تأزم الشرعية” واختناقها إلى حد التلاشي.

بالنظر إلى واقع “الشرعية” أغلب مجتمعاتنا العربية، يتبين أنها تعاني من عدة سلطويات متراكبة بعضها فوق بعض، أو بعضها داخل بعض؛ بما يطعن في أصل وجود الشرعية من أساسها. باستطاعتنا أن نتحدث عن السلطويات الحكومية التي تمارسها الفئات الحاكمة وحواشيها، وباستطاعتنا أن نتحدث أيضًا عن السلطويات الخارجية التي تمارسها قوى الهيمنة الأجنبية وتوابعها.

لكن الأكثر خفاءً من هذه وتلك هي: السلطويات التي تمارسها المراكز الحضرية والمدينية على المناطق الريفية والقروية. وهذه السلطويات غير مرئية في أغلب الأحيان، وهي تسهم في تهيئة المناخ لتغول السلطويات الأخرى الحكومية والأجنبية، ومن ثم تسهم في تآكل الأرضية الواسعة لبناء الشرعية الآمنة والقائمة على الرضا المجتمعي.

سلطوية المدينة، أو المركز الحضري، على الأرياف والقرى التي تشكل ما يقرب من نصف مادة الاجتماع السياسي في أغلب البلدان العربية؛ هي واحدةٌ أسوأ السلطويات التي تعوق التحديث والتنمية؛ ذلك لأنها تضرب “التوازن” الوظيفي/النسبي بين المدينة والقرية، وتسحق معنويات“الفلاح – أو القروي” وتفقده إدراكه الذاتي واعتزازه بنفسه كعنصر فاعل في بناء الاقتصاد الوطني لبلده، وتحول “قريته” من وضع الاكتفاء الذاتي وإمداد المدينة بفائض الإنتاج من الحبوب والخضروات والمنتجات الداجنة، وبعض المحاصيل النقدية؛ إلى وضع الاعتماد شبه التام للقرية أو المنطقة الريفية على ما يأتيها من أسواق المدينة؛ بما في ذلك “رغيف الخبز” الذي انقرضت صناعته في تلك المناطق أو يكاد؛ بعد أن كانت تصنع خبزها بنفسها منذ عهود قديمة ومتطاولة ودون انقطاع. وفي عتمة مثل هذا الإدراك؛ يجد الريفي أو القروي أن مشاركته في بناء الشرعية العمومية غير ذات جدوى، وفاقدة للمعنى.

تنتسب هذه السلطوية إلى نتائج التحديث باعتباره عمليات وإجراءات، لا إلى التحديث في حد ذاته باعتباره فكرةً للتنظيم وتقسيم العمل واعتماد نتائج البحث العلمي والنظر العقلي والرشادة في التصرفات والسلوكيات الفردية والجماعية.

فبطبيعة الحال، لا يفترض “التحديث” أن تكون المدينة مسيطرةً أو متسلطة على القرية، ولا أن تمسي القرية بخصوصيتها الإيكولوجية، ولا بنمطها العمراني، ولا بميزاتها النسبية في الاقتصادي القومي؛ خاضعةً للمدينة وإيكولوجيتها ونمطها العمراني وميزاتها النسبية، ومفتقرة إليها وتابعة لها. لا تفترض الحداثة شيئًا من هذا، ولم تعرفها مجتمعات أوروبا في تاريخ حداثتها أو تحديثها.

لكن الذي جرى في أغلب مجتمعاتنا هو أن سياسات التحديث والتنمية آلت في نهاية القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين إلى هيمنة شاملة للمدينة على القرية، وفقدت القرية أغلب ما كانت تمتلكه من ميزات إنتاجية نسبية؛ بعد أن فقدت إدراكها الذاتي وهويتها الخاصة؛ حتى إن نمطها العمراني وثيق الصلة بخصوصيتها الزراعية قد تم مسخُه بنمط مديني/استهلاكي مشوه، لا يتناسب مع الطبيعة الإنتاجية الزراعية للقرية.

حدث هذا بعد أن استقرَّ في الوعي الجمعي لأغلب مجتمعاتنا العربية – بالتزامن مع سياسة الانفتاح وما تلاها – أن “المدينة” هي مقر التجارة والخدمات والصناعات الصغيرة والمهن الحرة ذات الربحية العالية، ومن ثمَّ فالمدينة هي “دار الهجرة إلى الدنيا الحلوة”، وهي القريبة ماديًّا من القرية، فلم لا يهاجر إليها القرويون والريفيون بعامة؟

لم لا يهاجرون إليها وقد باتت في أعينهم، وفي واقع الحال أيضًا، أقصر الطرق إلى الثراء السريع والحياة المرفهة ومغادرة الفقر؟ بينما بقيت القرية مستودع الشقاء على مر الزمن، وظلت هي المختصة بالنشاط الزراعي الذي أضحى محلَّ ازدراء واسترذال من جانب النخب “الحداثية” التي تتمتع بميزات المدينة؟

“المدينة”، وبخاصة إذا كانت “عاصمة” البلاد، باتت تهيمن معنويًّا وماديًّا على ما عداها. وقد أضحى لها حضور تراتبي في الوعي العام يرتكز على أن “المدينة” – أيَّ مدينة – هي التي تمتلك “شرعيةَ التحضر”، وهي “أمل القرية”.

وعلى الجانب الآخر، فقدت “القرية” التقليدية مكانتها في هذا الوعي بوصفها وحدةً إيكولوجية مجتمعية كانت تبعث في الماضي على الاعتزاز بالانتماء إليها، وتمتلك شرعيةَ وجودها من ذاتها.

وكان ثمنُ هذا التغير العميق في علاقة المدينة بالقرية في جانب منه هو تهديدَ خبرات متراكمة منذ آلاف السنين في فنون الإنتاج الزراعي بالضياع، إن لم تكن تلك الفنون قد ضاعت بالفعل. وما تبقى منها ظل على حاله ولم تمتد إليه يد التطوير.

وبذلك الإدراك، تمارس المدينة “سلطوية” مدمرة معنويًّا وماديًّا على القرية عامة، وتعوق أي برامج للتحديث أو للتنمية أو للنهضة، على ما بين هذه المفردات من اختلافات وحذلقات يهتمُّ بها خبراءُ التنمية وواضعو الإستراتيجيات.

على من يهمُّه الأمر في مشارق مجتمعات أمتنا الإسلامية ومغاربها، أن يعي أن هذه السلطوية بالغة القسوة في تحطيم أسس الاندماج الوطني المجتمعي، وفي عرقلة أية جهود تستهدف بناءَ شرعية سياسية آمنة، وبخاصة على المستوى النفسي.

فابن القرية يشعر أنه أقلَّ حظًّا من ابن المدينة في الحصول على الخدمات وفرص التعليم والعمل والعلاج والسكن والترفيه وتقدير الذات، بينما يشعر ابن المدينة بشيء من التميُّز، وربما ينظر إلى ابن القرية نظرةً سلبيةً مليئة بالسخرية، وقد يصفه بصفات هزلية، على نحو ما تكرسه المسلسلات والأفلام والمسرحيات (وهي بالمناسبة فنون حداثية جدًّا!).

وتلك التحولات في المنظومة القيمية الريفية وعلاقتها بالقيم المدينية لم تكن لتحدث دون الأداء غير التنويري وغير الحداثي أبدًا؛ الذي تقوم به وسائلُ الإعلام “الحديثة” وبرامجها التي اقتحمت الحياةَ الريفية من مختلف جوانبها خلال العقود القليلة الماضية.

في عَتْمةِ تلك المعطيات، بات السؤالُ الحاسم هو: كيف يمكن التوصُّل إلى حلول جذرية لنمطين اثنين من التحديات، يهددان شرعية الدولة الحديثة وسلطتها العامة في أغلب مجتمعات الأمة الإسلامية في آن واحد وهما:

1- نمط التحديات المحفزة للاحتراب بين قوى وتيارات سياسية مختلفة، بدلًا من التنافس الحر بينها في المجال العام.

2- ونمط التحديات المتراكبة والموروثة والمتجذرة، التي تفرضها “السلطويات” المضادة للانفتاح وللتحول الديمقراطي في أغلب مجتمعات الأمة الإسلامية.

وأقصد بـ“السلطوية المضادة” في هذا السياق: استخدام أساليب قهرية للاستئثار بالسلطة والنفوذ والثروة والمكانة الاجتماعية، مع تعزيز هذه الأساليب القهرية بشعارات: الوطنية حينًا، والقومية أحيانًا، والأمن والاستقرار حينًا، والشريعة والشرعية في بعض الأحيان الأخرى.

إن بقاء هذين النمطين من التحديات دون حل جذري في واقع أغلب مجتمعاتنا يعني أن شرعية الدولة الحديثة ومستقبلها بات في خطرٍ داهم، وأن ساعة تقويض أركانها الأساسية قد اقتربت. ولكن هذا الخطر بحد ذاته قد يفتح بابَ الإصلاح والخروج من هذا المأزق: كيف؟

ثمة خطوات، وليس خطوة واحدة، من أجل تفكيك هذه الإشكالية التي تتزاوج فيها تحدياتُ الاحتراب الداخلي مع تحديات التسلط والحكم المطلق بشرعيته المعدومة.

الخطوة الأولى تقتضي إعادةَ تعريف مفهوم الشرعية. وأبسط معاني “الشرعية” يكمن في الإجابة على سؤال: كيف وصل الحكام إلى مقاعدهم في السلطة؟ وما الذي يبرر استمرارهم فيها؟

والخطوة الثانية هي وجوب التفرقة بين الجوانب الشكلية والجوانب الموضوعية للشرعية.

أما الجوانب الشكلية فغالبًا ما تأخذ صيغة “الانتخابات”، وتتركز في أن الفوز بأغلبية الأصوات يعني حيازة الشرعية. ولكن هذا المعيار العددي، أو الكمي، قد لا يكون معبرًا حقيقيًّا عن موضوع الشرعية وجوهرها المتمثل في عنصرين اثنين هما: المنعة، والكفاءة.

منعة من فاز بأغلبية الأصوات الانتخابية وقدرته الفعلية على حماية هذا الاختيار، وكفاءته في إدارة الشأن العام وإقامة العدالة وحفظ الأمن. وإذا غابت المنعة أو الكفاءة، أو كلاهما، انهدمت الشرعيةُ، أو انفتح الطريق إلى هدمها بأسرع ما يمكن.

والخطوة الثالثة هي وجوب اجتراح ثقافة سياسية عامة تقوم على أساس الحرية والشورى والاستشارة، وتؤمن بالرأي والرأي الآخر، وترجح أولوية الحوار السلمي على العنف واستخدام القوة، ورفض الظلم بكل صوره، وتنحاز إلى العدالة الاجتماعية بأوسع معانيها.

وكي تُثمر مثل هذه الثقافة في الواقع يتعين أن تترسخ مفاهيمها في مؤسسات التنشئة الاجتماعية والسياسية والدينية كلها؛ بدءًا من الأسرة، والمسجد والكنيسة؛ مرورًا بالمدرسة، والإعلام، وأجهزة الأمن العام، والبيروقراطية الحكومية، وصولًا إلى مؤسسات العدالة والقضاء والفنون والآداب، ومنتديات المجتمع المدني.

الهوامش: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]  كتاب: جون لوك، في الحكم المدني، نقله من الأصل الإنكليزي إلى العربية: ماجد فخري. بيروت: اللجنة الدولية لترجمة الروائع ـ مجموعة الروائع الإنسانية ـ الأونسكو/ السلسلة العربية، 1959، ص137.

(المصدر: مركز نهوض للدراسات والنشر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى