مقالاتمقالات مختارة

السُّنة النبوية.. رؤية حضارية

السُّنة النبوية.. رؤية حضارية

بقلم محمد عبد الرحيم

وقعت السُّنة النبوية بين من حكم عليها دون أن يطلع على كتاب واحد من كتبها، ومن اقتطع منها أجزاء وقدمها للناس على أنها السُّنة دون أن يطبق القواعد العلمية التي وضعها العلماء للتعامل مع أسانيد الحديث ومتونها، ودون أن يُعمل قواعد فهم النص وتطبيقه على الواقع.

وفي وسط الصراع بين من ينظرون نظراً جزئياً للسنة ومن ينكرونها بالكلية حرمنا من الأنوار النبوية التي تضيء جوانب الحياة وتؤسس لحضارة عظيمة تقوم على الحق والخير والجمال والرحمة والإحسان.

في هذه السطور محاولة للكشف عن أحد جوانب السنة النبوية المشرقة وهو علاقتها بالحضارة.

السنة والعبور الكبير: وإذا أردنا أن نعرف النقلة العظيمة التي أحدثها الإسلام وسُنة نبيه صلى الله عليه وسلم يكفينا أن ننظر في تاريخ الإنسانية كم أمة عبدت الشمس، وكم قرناً ظل البشر يعبدون الشمس، وهل نتصور أن من يعبد الشمس يفكر في الانتفاع بما أودع الله تعالى فيها من موارد يمكن أن تسهم في بناء الحضارة؟

تشرق علينا السُّنة النبوية بأنوارها لنجد قول النبي صلى الله عليه وسلم «إِنَّ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ” (صحيح البخاري)، وآيات الله تتطلب التفكير، وبالتفكير الصحيح يرسخ الإيمان ويزداد وتتفتح آفاق العقل لينتفع بما في هذه الآية من طاقة سخرت لخدمة البشرية {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْن} (إبراهيم: 33).

هذا التوجيه النبوي أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله والإخبار الإلهي وسخر لكم الشمس والقمر والبيان الرباني عما في الشمس من نعم وجعلنا سراجاً وهاجاً، يقول الإمام الطبري المتوفى في 320هـ: سراجاً وهاجاً وقاداً مضيئاً ومن قبله ابن قتيبة المتوفى في عام 276هـ يقول وهاجاً وقاداً، فهم العلماء أن في الشمس طاقة وهذا الفهم ينقل الإنسان من النظرة الحالمة أو النظرة الشاعرة أو النظرة البلهاء إلى التفكير في محاولة الاستفادة من الكائنات القريبة والبعيدة مما يثمر دفع عجلة الحضارة وتيسير الحياة للناس.

السنة والمعرفة: وما من حضارة إلا وتقوم على مقدار من المعرفة والمعرفة الصحيحة أساس النظر السليم للكون والحياة ومشكلات الإنسان، وإذا أردنا أن ندرك قيمة المعرفة في السنة النبوية نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل فداء كل أسير تعليم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: “كَانَ نَاسٌ مِنَ الْأَسْرَى يَوْمَ بَدْرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِدَاءٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِدَاءَهُمْ أَنْ يُعَلِّمُوا أَوْلَادَ الْأَنْصَارِ الْكِتَابَةَ”(1).

ولا تتوقف رؤية السنة النبوية للتعليم عند حدود تعليم القراءة والكتابة بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يلفت انتباه أصحابه رضوان الله عليهم إلى النظر العميق المتأمل للكون من حولهم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لاَ يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَهِيَ مَثَلُ المُسْلِمِ، حَدِّثُونِي مَا هِيَ؟» فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ البَادِيَةِ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَاسْتَحْيَيْتُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنَا بِهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هِيَ النَّخْلَةُ»(2)، هذه النظرة الدقيقة المتأملة هي التي تكون شخصية مفكرة تستند إلى الملاحظة وهي أحد أبجديات النظر العلمي السليم المؤدي إلى اكتشاف ما ينفع الناس.

أدرك رواة السنة وحفاظها قيمة العلم في السنة النبوية فكان أن جمعوا الأحاديث التي تتعلق بالعلم في موضع واحد ووضعوا له عنوانا كتاب العلم ومن العجيب أن كتاب العلم يأتي بعد كتاب الإيمان وقبل كتاب الطهارة والصلاة والزكاة والحج هذا ما صنعه الإمام البخاري حين جمع كتابه صحيح  البخاري وما صنعه الإمام ابن ماجه حين جمع كتابه سنن ابن ماجه وما صنعه الإمام الدارمي حين جمع كتابه سنن الدارمي هذا بالإضافة إلى الكتب المستقلة التي جمع كاتبوها الأحاديث المتعلقة بالعلم فقط ضمن كتاب واحد وضمنوه أحاديث تتعلق ببيان فضل العلم وتحث على طلبه وترشد على الأخلاق التي ينبغي أن يكون عليها طالب العلم.

السُّنة والحضارة وصانع القرار:

كما أرشدت السُّنة النبوية صانع القرار أن يبني قراراته على أساس سليم من إدراك الواقع وأبعاده وأحد وسائل ذلك الإحصاء الدقيق والتمثيل النيابي وفي الإحصاء وضع الإمام البخاري في صحيحه عنواناً “باب كتابة الإمام الناس” وأورد فيه حديثين الأول: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اكْتُبُوا لِي مَنْ تَلَفَّظَ بِالإِسْلاَمِ مِنَ النَّاسِ»، فَكَتَبْنَا لَهُ أَلْفًا وَخَمْسَ مِائَةِ رَجُل”، والحديث الثاني عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، وَامْرَأَتِي حَاجَّةٌ، قَالَ: «ارْجِعْ، فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ»(3).

وكلا الحديثين يشيران إلى أن عملية الإحصاء أجريت أكثر من مرة وأن هذا الإحصاء كان مكتوباً.

أما عملية التمثيل النيابي فقد بدأ في مرحلة مبكرة بطلب من النبي صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة فيما يعرف بالنقباء والنقيب هو الذي يرفع أمور الناس للقائد وقد تم تعيينه بناء على الاختيار الحر المباشر وبقيت هذه الوظيفة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وإن اختلف المسمى حيث أصبح “عريف”..

جاء في صحيح الإمام البخاري حديثاً عن هوزان بعد أن انتصر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين

قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ هَؤُلاَءِ قَدْ جَاءُونَا تَائِبِينَ، وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ بِذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ» فَقَالَ النَّاسُ: قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّا لاَ نَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعُوا إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ» فَرَجَعَ النَّاسُ، فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ: أَنَّهُمْ قَدْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا.

أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرف من رضي برد الغنائم ومن لم يرض وكانت الوسيلة لذلك هي إخبار الناس لعرفائهم وهم نوابهم حتى يرفع العرفاء ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

والإحصاء الدقيق وما ينقله العرفاء من الأحوال والمطالب يساعد صانع القرار على اختيار ما ينفع الناس.

السنة والحضارة والحياة:

وهي الحضارة التي تحتفي بالحياة وتعتبرها نعمة وتسن العقيقة شكراً لله على ما وهب من بنين أو بنات وتعتبر حماية الإنسان من أبسط ما يؤذيه من مكفرات الذنوب قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَرَّ رَجُلٌ بِغُصْنِ شَجَرَةٍ عَلَى ظَهْرِ طَرِيقٍ، فَقَالَ: وَاللهِ لَأُنَحِّيَنَّ هَذَا عَنِ الْمُسْلِمِينَ لَا يُؤْذِيهِمْ فَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ”(4).

ولا يتوقف تقدير السنة النبوية للحياة الإنسانية فحسب بل تقدر كل صورة من صورها قال النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “بَيْنَا رَجُلٌ بِطَرِيقٍ، اشْتَدَّ عَلَيْهِ العَطَشُ، فَوَجَدَ بِئْرًا، فَنَزَلَ فِيهَا، فَشَرِبَ ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ، يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ العَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الكَلْبَ مِنَ العَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ مِنِّي، فَنَزَلَ البِئْرَ فَمَلاَ خُفَّهُ مَاءً، فَسَقَى الكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ “، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ لَنَا فِي البَهَائِمِ لَأَجْرًا؟ فَقَالَ: «فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ»(5).

وتجعل الإحسان للحيوانات من أعظم ما يمحو الأوزار قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ [بئر]قَدْ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ، إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَنَزَعَتْ مُوقَهَا[خفها]، فَاسْتَقَتْ لَهُ بِهِ، فَسَقَتْهُ إِيَّاهُ، فَغُفِرَ لَهَا بِهِ»(6)، والبغاء جريمة مستقذرة من كل صاحب فطرة مستقيمة ومع عظم هذه الجريمة إلا أن الله تعالى غفر لصاحبتها.

________________________________

(1) مسند أحمد ط الرسالة (4/ 92) وقال محققوه إسناده حسن.

(2) صحيح البخاري.

(3) صحيح البخاري.

(4) صحيح مسلم.

(5) صحيح البخاري.

(6) صحيح مسلم.

المصدر: مجلة المجتمع

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى