مقالاتمقالات مختارة

السيرة النبوية في السياق المجتمعي… معالم ومعانٍ غائبة!

السيرة النبوية في السياق المجتمعي… معالم ومعانٍ غائبة!

بقلم أحمد التلاوي

تأتي السيرة النبوية كأحد أهم روافد الشريعة الإسلامية، باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من السُّنَّة النبوية التي هي المصدر الثاني الذي يأخذ عنه المسلمون شرعتهم وأحكامهم، بعد القرآن الكريم.

وفي هذا الإطار نالت السيرة النبوية من الدَّرْس والتناول في كتابات العلماء والمفكِّرين المسلمين عبر القرون الماضية، وحتى عصرنا الراهن، ما يتفق مع وزنها وأهميتها هذه.

إلا أن هذا الاهتمام رافقته بعض الأمور التي لم تفسح كثير المجال للاستفادة من السيرة النبوية في المجال الاجتماعي على وجه الخصوص.

ومن بين ذلك اهتمام علماء المسلمين المتقدمين والمتأخرين بالحديث النبوي الشريف وتصحيحه وتنقيته مما حاوله البعض من دسٍّ عمدًا أو غير عمدٍ، ولاسيما ما حاوله بعض اليهود، فيما يدخل في بند “الإسرائيليات”، أو قامت به بعض الفرق والمذاهب، مثل الشيعة، في إدخال بعض النصوص على النبي “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”؛ لتعضيد بعد الأمور المذهبية، والتي استُغِلَّتْ سياسيًّا بدءًا من القرن السادس عشر الميلادي.

وبمراجعة عناوين كتب التراث الإسلامي الأكثر انتشارًا وشهرة، وقيمةً علمية، فإننا نجد أن الكتب التي كانت تتناول السيرة النبوية وقفت عند سيرة ابن هشام، وسيرة ابن إسحق، و”الرحيق المختوم” للمباركفوي، فيما لم تتم إنتاجات في هذا المجال بنفس عمق وتخصص كتب الحديث النبوي والفقه في المذاهب الأربعة لأهل السُّنَّة والجماعة.

أما في عصرنا الحديث فقد ركَّزت أدبيات الصحوة الإسلامية الحديثة والمعاصرة على بعض الأمور التي وجدتها أولوية أكثر من غيرها في مجال دراسة السيرة النبوية، مثل التريبة الحركية، أو ما يتعلق بالجهاد وبناء الدولة، وهي نقاط حساسة؛ حيث إن أكثر ما يُنال منه الإسلام من جانب خصومه، هي نقطة أنه لم يحدد شكلاً واضحًا من أشكال الحكم، أو نظَّم شؤون السياسة بشكل واضح.

وفي حقيقة الأمر فإن هناك منطقًا مهمًّا يفرض البحث في السياق المجتمعي في القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية الشريفة بشكل عام، بصورة أكبر من التركيز عليه في الجوانب السياسية والحركية.

وهذا المنطق يتعلق بأن المعركة لإعادة إحياء وبعث الإسلام في نفوس أتباعه، إنما تتأصل بالممارسة الاجتماعية، ولو تأصل الإسلام في المجال الأخلاقي، النفسي والوجداني، وفي التطبيق العملي السلوكي على الأرض، والذي يشكل المجتمع بوتقة الإطار الجمعي له، فإنك لن تكون بحاجة إلى أي إطار منظَّم لفرض الإسلام في المجال السياسي، أو المجال الاقتصادي؛ لأن الدين سوف يكون حاضرًا في كل أمر الناس، فرادى ومجتمع.

لو تأصل الإسلام في المجال الأخلاقي، النفسي والوجداني، وفي التطبيق العملي السلوكي على الأرض، والذي يشكل المجتمع بوتقة الإطار الجمعي له، فإنك لن تكون بحاجة إلى أي إطار منظَّم لفرض الإسلام في المجال السياسي، أو المجال الاقتصادي

وفي علوم الاجتماع -ومنها علم الاجتماع السياسي والنظم والإدارة- فإنه من المعروف أن منظومة السياسة والحكم إنما هي تكون من صميم المجتمع، ومعبِّراً عن ثقافته وطبيعته .

وهذا واضح في طبيعة النظم السياسية التي استقرت هنا وهناك في العالم، في أكثر من مرحلة تاريخية، فالأنظمة الاستبدادية تنتشر في المجتمعات الأبوية ذات الطابع التقليدي المحافظ، كما في المشرق، أو في المجتمعات التي كانت تسيطر عليها الكنيسة وقت أن كانت أوروبا في مرحلة الحكم البابوي.

أما الأنظمة التي تتبنى الديمقراطية السليمة، فإنها تظهر في المجتمعات التي تكون على شكل معين من الانفتاح والتمكين لقيم الحرية الفردية، وتعلِي من مبدأ حقوق المواطن، وهو ما ينعكس في المجال السياسي في صورة ممارسة انتخابية، وهكذا.

وبالتالي فإننا نقف هنا على مفتاح شديد الأهمية لكنه مهمل إلى حدٍّ ما في عملية البناء الإسلامي، للدولة والمجتمع، وهو تمكين السيرة النبوية في المجال المجتمعي.

وفي حقيقة الأمر فإنه حتى على مستوى الوزن النسبي في المجال الزمني والموضوعي للسيرة النبوية، فإنه ومن خلال مصادر السيرة النبوية الموثوقة لو قِسْنَا بشكل تقريبي الزمن الذي قضاه الرسول الكريم “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم” في مجال الغزو والسياسة وما اتصل بذلك، سوف نجد أن حياته عليه الصلاة والسلام العادية كإنسان، زوج وأب وصديق وهكذا، هي الأصل ولها الغَلَبَة.

لو قِسْنَا بشكل تقريبي الزمن الذي قضاه الرسول الكريم “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم” في مجال الغزو والسياسة وما اتصل بذلك، سوف نجد أن حياته عليه الصلاة والسلام العادية كإنسان، زوج وأب وصديق وهكذا، هي الأصل ولها الغَلَبَة

والسيرة النبوية فيها الكثير مما يضبط المشكلات الأخطر التي تمر بها المجتمعات المسلمة في وقتنا الراهن في المجال المجتمعي، مثل العنوسة، والخلافات الزوجية، والطلاق، والغش في المعاملات بين الناس، وفي المجال التجاري والمجال المجتمعي بشكل عام.

وكثيرٌ من الأمراض التي نقرأ عنها في مجتمعاتنا العربية ذات الغالبية المسلمة، هناك معالجات كاملة لها في السيرة النبوية ، وبشكل يمكن أن يؤسس لحالة اجتماعية مختلفة تمامًا عمَّا نراه الآن في واقعنا المعاصِر.

فهو –على سبيل المثال باعتبار أن هذا الأمر هو أكبر مشكلاتنا المجتمعية– كان يزوِّج الناس بمهرٍ بسيط أو حتى بآية من القرآن الكريم، ولم تذكر السيرة النبوية أنه أيد الطلاق كحلٍّ للمشكلات الزوجية، وكان يقوم بدور المربِّي والمعلِّم بين أصحابه، وبين جماعة المسلمين بشكل عام، بحيث تنتفي المشكلات التي نجدها قد تفشَّت بين ظهرانينا الآن من خلافات ومشاحنات أوصلت جرائم السرقة والقتل والاغتصاب إلى مستويات فلكية في المجتمعات العربية والمسلمة.

ولقد أسَّست تربيته “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم” للمسلمين البيئة الفكرية وغرست التصورات العقلية التي تؤهل المجتمع لقبول ذلك وغيره، من خلال نزعٍ لأفكار الزخرف وإعلاء المادة الرخيصة على حساب القيم الأخرى الحقيقية الأهم، والمتعلقة بمفاهيم دور الإنسان في الدنيا والمطلوب منه فيها، وواجبات المسلم وما إلى ذلك، والتي تتضمن أمورًا أخطر وأكبر من الانشغال بجمع المال؛ لأجل الزواج أو التدليس في المعاملات، وما شابه من أمور.

أسَّست تربيته “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم” للمسلمين البيئة الفكرية وغرست التصورات العقلية التي تؤهل المجتمع لقبول ذلك وغيره، من خلال نزعٍ لأفكار الزخرف وإعلاء المادة الرخيصة على حساب القيم الأخرى الحقيقية الأهم

بالإضافة إلى التأكيد -من الأصل- على ما قاله القرآن الكريم في أكثر من موضع، من أن الحياة الدنيا متاع، وزائلة، والأهم هو الإعداد للآخرة، وبالتالي تكون العبادة والأخلاقيات السوية، هي معايير تقييم الإنسان، وليس المادة، مع التأكيد بطبيعة الحال على ضرورة العمل لكسب العيش والحياة بالكرامة التي تليق بالإنسان كما خلقه الله عز وجل.

إن هَديه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الكثير من الأمور التي تستعصي علينا في الوقت الراهن، لهو من أهم ما يمكن لإقامة دولة إسلامية موحدة تسود العالم حضاريًّا من جديد؛ حيث المجتمع المسلم هو أعقد وأهم مراحل الوصول إلى تحقيق مستهدفات المشروع الإسلامي.

وهذه العقدة يفهمها خصوم الأمة أكثر من الأمة نفسها؛ فهم يلعبون على إفشال القيم الإسلامية –والسيرة النبوية مصدرها التطبيقي الأهم لكونه الأشمل والأوضح– في المجتمعات المسلمة، من مستوى الفرد والأسرة، وحتى المجتمع بشكل عام.

وبالتالي فإننا بحاجة إلى أعمال أكثر عمقًا وشمولاً للسيرة النبوية في المجال المجتمعي بمعناه الواسع الذي يشمل الأخلاق والسلوك، والتربية المفاهيمية المتعلقة بالصواب والخطأ، أو التربية المعيارية، وصولاً إلى النواحي التطبيقية، المشكلات المجتمعية ودقائقها، وكيف كان يعالجها الرسول “صلَّى الله عليه وسلَّم”، مما يتضمن طائفة واسعة من المشكلات المزمنة التي تعانيها مجتمعاتنا في الوقت الراهن.

إننا بحاجة إلى أعمال أكثر عمقًا وشمولاً للسيرة النبوية في المجال المجتمعي بمعناه الواسع الذي يشمل الأخلاق والسلوك، والتربية المفاهيمية المتعلقة بالصواب والخطأ، أو التربية المعيارية، وصولاً إلى النواحي التطبيقية، المشكلات المجتمعية ودقائقها، وكيف كان يعالجها الرسول “صلَّى الله عليه وسلَّم”

إن معالجة الأمور والمشكلات العادية اليومية، هي ما يصنع الأرضية الراسخة التي تنهض عليها كل معالي الأمور التالية ، فلا يمكن الحديث عن بناء من دون أساسات متينة، أو الوصول للعمل من دون ركوب وسيلة مواصلات، وكلها من البديهيات المنطقية التي بحاجة إلى جهد متخصص وشامل لأجل الوصول بها إلى عموم المسلمين.

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى