السياق التاريخي والثقافي لتقنين الشريعة الإسلامية
قراءة أحمد التلاوي
على مدار عقودٍ طويلة، بعد ظهور الدولة القومية الحديثة في عالمنا العربي والإسلامي، شُغِلَت الكثير من دوائر العمل الإسلامي بقضية كيفية التوفيق بين الدولة، كإطار مؤسسي ودستوري وقانوني، وبين الشريعة الإسلامية وتصورات الحركيين عن الدولة الإسلامية الجامعة.
ومن بين النقاط المركزية التي دارت في هذا النقاش، وحَفِلَت بالكثير من الجهود، قضية تقنين الشريعة الإسلامية.
ومِن بين الذين تخصصوا في الكتابة للمكتبة العربية في هذا الاتجاه، الدكتور صوفي أبو طالب، والمستشار طارق البشري الذي بين أيدينا أحد كتبه المهمة في هذا الصدد، على صِغَر عدد صفحاته؛ حيث تناول فيه بعض الجوانب الجديدة، والتي كانت غير مطروقة في هذا الصدد، بالإضافة إلى صدوره في توقيت مهم، وهو صعود الأحزاب والحركات الإسلامية بعد ثورات ما يُعرَف بالربيع العربي، وبدء مناقشة كيفية تحولهم إلى بديلٍ للحكم في بلدانهم.
مع الكتاب
الكتاب جاء في 15 مقالاً انطلق البشري فيها من مركزية مهمة سار فيها على نهج أستاذه، الفقيه القانوني الأشهر، الدكتور عبد الرزاق السنهوري، الذي وضع أو ساهم في وضع المنظومات القانونية والدستورية لعدد من الدول العربية في مرحلة ما بعد استقلالها مباشرة؛ مِن أنَّ أهمَّ المسارات التي يمكن منها التوفيق بين الفقه الإسلامي والشريعة الإسلامية وبين الدولة الحديثة، هي المسار القانوني.
ومن ذلك؛ فهو يؤكد في السياق العام لمقالاته، على أنَّ هذا المسار المهم، هو أحد أبرز المسارات التي يمكن من خلالها التجديد الفقهي والتشريعي الإسلاميَّيْن، من أجل ملائمة التطورات والمعاملات الحداثية.
وبشكل عام، تطغى الخلفية المهنية والأكاديمية للبشري على سياقات طرحه؛ حيث يبدأ مقالاته بالتأكيد على أهمية القانون بحيث تجاوز في ذلك النظرة القريبة لأهمية القوانين في حياة المجتمعات، إلى مستوى اعتبارها واحدةً من أهم صور نواتج الاجتماع الإنساني، وضرورات وجود المجتمعات.
ومن أجل الاقتراب من هدفه الأساسي من الكتاب، وهو التأكيد على عدم تعارض مفهوم منظومات القوانين الوضعية مع الفقه والشريعة الإسلامية؛ فإنَّه يؤكد على أنَّ السياقات التي تحتويها المنظومات القانونية الوضعية في المجتمعات المختلفة، تتشابه مع تشابه احتياجات البشر وسياقات حياتهم، لأنَّ هذه المنظومات توضع لترتيب أحوال الناس وتنظيمها، وهو أحد أهم جوانب إنزال اللهِ تعالى لشرائعه على الناس.
وفي حقيقة الأمر؛ فإنَّ أهمية ما تناوله البشري في هذا الاتجاه، هو أنَّه لا يصحح فحسب للأطراف المعارضة لتطبيق الشريعة الإسلامية ووجود حكومة إسلامية، مفاهيمها عن نموذج الحكم الإسلامي، وإنَّما هو كذلك يصحح الكثير من الأمور لدى بعض الحركات التي تنسب نفسها للمشروع الإسلامي، والتي تجد مفاهيم الدولة الحديثة كلها دنسًا، بما فيها منظومة القوانين.
كما أنَّه يرد على ربط بعض الإسلاميين بين ضرورة الوصول إلى الحكم وتطبيق الشريعة الإسلامية؛ حيث يقول بأنَّ منظومات القوانين تكفُل تطبيق الفقه والأحكام الشرعية من دون وجود نظام حكمٍ إسلامي بالكامل.
ويرى البشري وجود هيئات مثل المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في مصر، والمؤتمرات التي يقيمها، ووجود دور للأزهر الشريف في عملية التشريع، هي أدلة واضحة على إمكانية استمرار إطار الدولة الحديثة وتطبيق الشريعة الإسلامية.
وفي المقابل؛ فإنَّه يرى أنَّ الدول الإسلامية التي ظهرت عبر التاريخ، أو ما أطلق عليه دول الخلافة، من العباسيين وحتى العثمانيين، كانت عندما تتحدث عن تطبيق الشريعة؛ فإنَّ غالب الحال أن التطبيق في صورته الأعظم، إنما يتم في مجال الأخلاق والسلوك، وليس في منظومات الحكم ذاتها.
وهو بذلك يتفادى الربط الذي يقوم به بعض خصوم النموذج الإسلامي، بشكل آليٍّ، بين الدين والشريعة، وبين أخطاء ممارسات أنظمة الحكم التي ظهرت في كثير من هذه الدول.
في هذا الإطار، تناول البشري في مقالاته الكثير من الجوانب التاريخية للفرعَيْن الأساسيَّيْن للكتاب؛ القانون والمدارس الفقهية الإسلامية، ومن بين ما ركَّز عليه في هذا الإطار، مدارس التجديد الفقهي والفكري الإسلامية التي ظهرت منذ القرن التاسع عشر في مصر، وفي كثير من أنحاء العالم الإسلامي.
وأبرز ما تناوله فيها، كيف أنَّ هذه المدارس لم تنفصل في طروحاتها عن السياقات المُستَجدَّة للحضارات الإنسانية، بما فيها الدولة ومنظوماتها القانونية والمؤسسية.
وفي الأخير؛ فإنَّه بوضع الكتاب في سياقه الزمني الذي تم تأليفه وصدروه فيه؛ سوف نجد أنَّها محاولات من جانب البشري للتوفيق بين طروحات الإسلاميين لتطبيق الشريعة، في إطار بزوغ نجمهم ووصولهم إلى سُدَّة الحكم في أكثر من بلدٍ عربي بعد ثورات ما يُعرَف بـ”الربيع العربي”، وبين متطلبات الحفاظ على الوضع القائم الذي كانت ولا تزال ترتبط به قوى عديدة، سياسية واجتماعية، تحول دون نقضه بالكامل.
مع المؤلف
المستشار طارق عبد الفتاح سليم البشري، وهو قاضٍ معروف، ومفكر مصري اهتم بجوانب الفكر الإسلامي وقضايا العمل الإسلامي وتاريخ مصر السياسي.
شَغِل منصب النائب الأول لرئيس مجلس الدولة المصري، ورئيسًا للجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع عدة سنوات قبل أنْ يتقاعد، ثم تمَّ تعيينه من جانب المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي تسلَّم الحكم في مصر عقب تنحِّي الرئيس الأسبق حسني مبارك على إثر ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011م، كرئيسٍ للجنة التي كانت معنيَّةً بتعديل الدستور المصري.
والبشري من مواليد الأول من نوفمبر من العام 1933م، في حيِّ الحلمية في القاهرة، وهو من أسرة البشري، ويعود جذورها إلى منطقة محلة بشْر في مركز شبراخيت في محافظة البحيرة في شمالي مصر.
تخرج طارق البشري في كلية الحقوق بجامعة القاهرة عام 1953م، وعيِّنَ بعدها في مجلس الدولة، واستمر في العمل به حتى تقاعده عام 1998م.
أثَّرت روافد كثيرة على ميوله الفكرية وكتاباته، منها تولِّي جدُّه لأبيه، الشيخ سليم البشري، شيخ السادة المالكية في مصر، شياخة الأزهر الشريف، بينما كان والده، المستشار عبد الفتاح البشري، رئيسًا لمحكمة الاستئناف حتى وفاته عام 1951م، كما أنَّ عمَّه عبد العزيز البشري، كان من أهم أدباء مصر في النصف الأول من القرن العشرين.
وكان قومي التوجُّه كغالب حال مفكِّري وشباب مصر في الخمسينيات والستينيات، ولكن عقب هزيمة المشروع القومي العربي في حرب يونيو 1967م، تحوَّل إلى الاتجاه الإسلامي، وكانت مقالته “رحلة التجديد في التشريع الإسلامي” أول ما كتبه في هذا الاتجاه.
من بين أهم مؤلفاته، “الحركة السياسية في مصر 1945 – 1952″، وصدر عام 1972م، و”المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية”، وصدر عام 1981م، و”الديمقراطية ونظام 23 يوليو 1952″، وصدر عام 1987م، و”دراسات في الديمقراطية المصرية” (1987م)، و”بين الإسلام والعروبة” في جزأين (1988م)، وصدرت غالب كتبه عن دار الشروق ومكتبة الشروق الدولية القاهريتَيْن، كما شارك في وضع منهج الثقافة الإسلامية بجامعة الخليج العربي بورقة عنوانها: “نحو وعي إسلامي بالتحديات المعاصرة”، عام 1988م.
بيانات الكتاب:
اسم المؤلف: طارق البشري (مستشار)
اسم الكتاب: السياق التاريخي والثقافي لتقنين الشريعة الإسلامية
مكان النشر: القاهرة
الناشر: مكتبة الشروق الدولية
تاريخ النشر: سبتمبر 2011م
الطبعة: الأولى
عدد الصفحات: 71 صفحة
(المصدر: موقع بصائر)