بقلم د. أكرم كساب
أود الإشارة إلى أن بعض مناطق الدين لا تدخلها السياسة الشرعية بإصدار أحكام أو قرارات، وإن دخلتها فإنما تدخلها من أبواب محددة:
1. العمل على إيجادها.
2. السعي الحثيث على تحقيقها.
3. بذل الجهد والطاقة للمحافظة عليها.
المساحات التي لا تدخلها السياسة الشرعية اجتهادا:
ومن المساحات التي لا تدخلها السياسة الشرعية اجتهادا:
1. المسائل العقدية التي مجال للاجتهاد فيها، كأركان الإيمان، إذ ليس لولي الأمر (حاكما أو عالما) أن يتدخل في هذه الدائرة إلا ما كان من سعي لإيجادها وتحقيقها والمحافظة عليها.
2. العبادات والشعائر الكبرى، وهي تلك العبادات التي لا مجال للاجتهاد فيها، وليس فيها آراء متعددة، وإنما مجالها التوقف، فهي عبادات توقيفية، فلا يقبل من ولي أمر (حاكما أو عالما) أن يقرر إلغاء فريضة الصيام لأنه يعطل الانتاج، أو تقليل نسبة الحجيج حفاظا على العملة الأجنبية، أو صرف الزكاة في مجال لم تأت به الشريعة.
3. الأخلاق العامة، كالصدق والأمانة والعفة…، وغيرها من الأخلاق التي تبقى خالدة مهما تقدمت المجتمعات أو تأخرت، ومن ثم فليس لولي الأمر (حاكما أو عالما) تحت تحقيق المصلحة أن يغير من تلك الأخلاق الأصيلة.
4. المقدرات التي جاءت بها الشريعة، كالعقوبات ومقادير الزكاة وأنصبة الورثة، فكل ما كان من هذا الباب هو ثابت لا يجوز الاجتهاد فيه تحقيقا لمصلحة مزعومة أو متوهمة.
5. الأحكام الفردية التي كلفت بها الأمة في مجموع أفرادها، ولا تحتاج إلى ولاية من حاكم، كالوضوء والتيمم والغسل وما شابه ذلك.
6. ويلحق بذلك كل حكم يصدر عن جهل أو هوى، أو كيد أو تشف، حتى ولو حقق مصلحة فإن صاحبه يأثم على صنيعه هذا، ولا يعد هذا من السياسة الشرعية وإن فعل باسم المصلحة، أو صدر عن حاكم أو سوغ له عالم من علماء السلطة.
نماذج من السياسة الشرعية في مجال العقائد:
لقد اعتبر الفقهاء أن حكم الحاكم وبقاءه منوط بحفظ الدين للأمة، وقد عرف الماودي الخلافة بأنها: موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، واعتبرها عضد الدين الإيجي: خلافة الرسول في إقامة الدين وحفظ حوزة الملة، وقد ذكر الماوردي في مقدمة وظيفة الحاكم: حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف الأمة، فإن نجم مبتدع أو زاغ ذو شبهة عنه، أوضح له الحجة، وبين له الصواب، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود؛ ليكون الدين محروسا من خلل، والأمة ممنوعة من زلل.
ولا شك أن العقيدة في مقدمة ما يحفظ به الدين، والسياسة الشرعية في مجال العقائد لا تعمل كثيرا، لكنها قد توجد في بعض الأماكن بقوة، وسأسوق هنا بعض النماذج التي توجد فيه السياسة الشرعية، وسأجعلها على نوعين:
الأول: ما تسعى السياسة الشرعية لإيجاده وتطبيقه والمحافظة عليه: ومن ذلك:
1. إفراد الله سبحانه وتعالى بالحاكمية والتشريع، فهذا وإن كان منوطا بالعالم إفتاء وبالحاكم إفتاء، إلا أنه عقيدة لا يمكن التنازل عنها، والله جل وعلا يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } [يوسف: 40]، يقول صاحب الظلال: هذا التكامل في مدلول الحكم يشير إلى أن الدين لا يستقيم إلا أن تكون الدينونة الإرادية لله في الحكم، كالدينونة القهرية له سبحانه في القدر. فكلاهما من العقيدة وليست الدينونة في القدر القاهر وحدها هي الداخلة في نطاق الاعتقاد، بل الدينونة الإرادية في الشريعة هي كذلك في نطاق الاعتقاد (في ظلال القرآن (4/ 1968).
2. العمل على تطبيق شرع الله وتحكيمه في الناس، قال تعالى: {فلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[النساء: 65]، يقول ابن كثير: يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة: أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنا وظاهرا. تفسير ابن كثير (2/ 306). ويأتي سيد قطب فيزيد الأمر وضوحا فيقول: ومرة أخرى نجدنا أمام شرط الإيمان وحدّ الإسلام. يقرره الله سبحانه بنفسه. ويقسم عليه بذاته. فلا يبقى بعد ذلك قول لقائل في تحديد شرط الإيمان وحد الإسلام، ولا تأويل لمؤول. اللهم إلا مماحكة لا تستحق الاحترام.. وهي أن هذا القول مرهون بزمان، وموقوف على طائفة من الناس! وهذا قول من لا يدرك من الإسلام شيئاً ولا يفقه من التعبير القرآني قليلاً ولا كثيراً.
فهذه حقيقة كلية من حقائق الإسلام جاءت في صورة قسم مؤكد مطلقة من كل قيد.. وليس هناك مجال للوهم أو الإيهام بأن تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم هو تحكيم شخصه. إنما هو تحكيم شريعته ومنهجه. وإلا لم يبق لشريعة الله وسنة رسوله مكان بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وذلك قول أشد المرتدين ارتداداً على عهد أبي بكر رضي الله عنه وهو الذي قاتلهم عليه قتال المرتدين: بل قاتلهم على ما هو دونه بكثير. وهو مجرد عدم الطاعة لله ورسوله، في حكم الزكاة وعدم قبول حكم رسول الله فيها، بعد الوفاة… في ظلال القرآن (2/ 696).
الثاني: ما يكون من ولي الأمر (حاكما) بإصدار القرارات، و(عالما) إفتاء بالمحافظة على العقيدة ونقائها، ومن ذلك:
1. الفاروق يحمي التوحيد بقطع شجرة الرضوان: روى ابن أبي شيبة عَنْ نَافِعٍ، قَالَ بَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، أَنَّ نَاسًا يَأْتُونَ الشَّجَرَةَ الَّتِي بُويِعَ تَحْتَهَا، قَالَ فَأَمَرَ بِهَا فَقُطِعَتْ (رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (5/ 179).
2. الفاروق يحمي عقيدة المصريين من تقديم القرابين للنيل: لَمَّا فُتِحَتْ مِصْرُ أَتَى أَهْلَهَا إِلَى عَمْرِو بن العاص حين دخل بؤونة مِنْ أَشْهُرِ الْعَجَمِ، فَقَالُوا لَهُ: أَيُّهَا الأَمِيرُ، إِنَّ لِنِيلِنَا هَذَا سُنَّةً لا يَجْرِي إِلا بِهَا. فَقَالَ لَهُمْ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالُوا: إِذَا دَخَلَتْ ثِنْتَا عَشَرَةَ لَيْلَةً مِنْ هَذَا الشَّهْرِ عَمَدْنَا إِلَى جَارِيَةٍ بَكْرٍ بَيْنَ أَبَوَيْهَا، فَأَرْضَيْنَا أَبَاهَا، وَحَمَلْنَا عَلَيْهَا مِنَ الْحُلِيِّ وَالثِّيَابِ أَفْضَلَ مَا يَكُونُ، ثُمَّ أَلْقَيْنَاهَا فِي النِّيلِ. قَالَ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا لا يَكُونُ فِي الإِسْلامِ، إن الإسلام يهدم ما كان قبله. فأقاموا بؤونة، وَأَبِيبَ، وَمَسْرَى لا يَجْرِي قَلِيلا وَلا كَثِيرًا، حتى هموا بالجلاء عنها، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إليه عمر: «إنك قد أَصَبْتَ، لأَنَّ الإِسْلامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ» وَكَتَبَ بِطَاقَةً دَاخِلَ كِتَابِهِ، وَكَتَبَ إِلَى عَمْرٍو: «إِنِّي قَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكَ بِبَطَاقَةٍ دَاخِلِ كِتَابِي، فَأَلْقِهَا فِي النِّيلِ» فَلَمَّا قَدِمَ كِتَابُ عُمَرَ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَخَذَ الْبِطَاقَةَ، فَإِذَا فِيهَا: «مِنْ عَبْدِ اللَّهِ أمير الْمُؤْمِنيِنَ إِلَى نِيلِ مِصْرَ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنْ كُنْتَ تَجْرِي مِنْ قِبَلِكَ فَلا تَجْرِ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ هُوَ الَّذِي يُجْرِيكَ فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْوَاحِدَ الْقَهَّارَ أَنْ يُجْرِيكَ» فَأَلْقَى الْبِطَاقَةَ فِي النِّيلِ قَبْلَ يَوْمِ الصَّلِيبِ بِيَوْمٍ وَقَدْ تَهَيَّأَ أَهْلُ مِصْرَ لِلْجَلاءِ وَالْخُرُوجِ، لأَنَّهُ لا تَقُومُ مَصْلَحَتُهُمْ فِيهَا إِلا بِالنِّيلِ. فَلَمَّا أَلْقَى الْبِطَاقَةَ أَصْبَحُوا يَوْمَ الصَّلِيبِ وَقَدْ أَجْرَاهُ اللَّهُ سِتَّةَ عَشَرَ ذِرَاعًا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَطَعَ اللَّهُ تِلْكَ السُّنَّةَ السُّوءَ عَنْ أَهْلِ مِصْرَ إِلَى الْيَوْمِ.(( المنتظم في تاريخ الملوك والأمم/ ابن الجوزي/ ط دار الكتب العلمية، بيروت (4/ 294). وفي سند القصة كلام؛ لكنه يستأنس بها)).
3. الفاروق يخفي قبرا وينهى عن الصلاة في موضع: يقول ابن تيمية: وَلَمَّا ظَهَرَ قَبْرُ دَانْيَالَ بتستر كَتَبَ فِيهِ أَبُو مُوسَى إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ إذَا كَانَ بِالنَّهَارِ فَاحْفِرْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَبْرًا ثُمَّ ادْفِنْهُ بِاللَّيْلِ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا وَعَفِّرْ قَبْرَهُ لِئَلَّا يَفْتَتِنَ بِهِ النَّاسُ(مجموع الفتاوى (15/ 154)، وقال أيضا: ثَبَتَ الْإِسْنَادُ الصَّحِيحُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ فِي السَّفَرِ فَرَآهُمْ يَنْتَابُونَ مَكَانًا يُصَلُّونَ فِيهِ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: مَكَانٌ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَتَّخِذُوا آثَارَ أَنْبِيَائِكُمْ مَسَاجِدَ إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا مَنْ أَدْرَكَتْهُ فِيهِ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ فِيهِ وَإِلَّا فَلْيَمْضِ.( مجموع الفتاوى (10/ 410).
4. علي بن أبي طالب يمحو آثار الجاهلية: روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي الْهَيَّاجِ الْأَسَدِيِّ، قَالَ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ “أَنْ لَا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ”( رواه مسلم في الجنائز (741).
5. الخلفاء يحاربون أصحاب العقائد الباطلة: وقد برز عدد من الأمراء في الحفاظ على العقيدة ومحاربة المبتدعين، ومنهم عمر بن عبد العزيز وهشام بن عبد الملك، ولما ظهرت القدرية، وبزغ نجم غيلان الدمشقي، دعاه عمر بن عبد العزيز فقال: يا غيلان؛ بلغني أنك تتكلم في القدر. فقال: يا أمير المؤمنين إنهم يكذبون عليّ؟ فقال يا غيلان إقرأ أول ((يس)) فقرأ حتى قوله: { وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} (يس:1- 10). فقال غيلان: يا أمير المؤمنين، والله لكأني لم أقرأها قط قبل اليوم، أشهدك يا أمير المؤمنين أني تائب مما كنت أقول. فقال عمر: اللهم إن كان صادقاً فثبته وإن كان كاذباً فاجعله آية للمؤمنين. (الإبانة الكبرى/ ابن بطة/ ط دار الراية للنشر والتوزيع، الرياض/ ج 4/ ص 235).
وفي هذا المضمار لا يغفل التاريخ عن دور كل من نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي في العودة بمصر إلى المعسكر السني بعد أن اختطفتها الدولة العبيدية طيلة ثلاثة قرون تحاول طمس عقيدتها السنية بعقيدة عبيدية شعية.
المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسملين.