السياسة البلقيسية والسياسة الفرعونية في الميزان (2-2)
بقلم محمد عبد الرحمن صادق
تحدثنا في الجزء الأول بفضل الله تعالى عن أن الإسلام دين شامل يتناول مظاهر الحياة جميعاً، وقلنا أنه من الواجب على المسلم أن يأخذ الدين من كل جوانبه ثم ينطلق فيها حسب توفيق الله تعالى له فإذا هبت رياحه في جانب من جوانب الدين أن يغتنمها. ولقد ضرب لنا الصحابة رضوان الله عليهم المثل والقدوة في ذلك.
كما أكدنا على ضرورة أن يطَّلع كل مُتخصص في فرع من فروع الدين على حضارات وثقافات المجتمعات الأخرى، ليكون مُلمَّا بخبرات وتجارب الآخرين، ولكي يتعرف على مزايا ومثالب هذا الجانب عندهم.
وبعد هذا الطرح عرَّجنا على السياسة البلقيسية كنموذج من نماذج الحكم الرشيد، لما فيها من أسس وضوابط تفتقدها معظم نظم الحكم في أيامنا هذه.
وفي هذا الجزء سنتناول بإذن الله تعالى السياسة التي تتناقض تناقضاً تاماً مع السياسة البلقيسية، ألا وهي السياسة الفرعونية، فكما قلنا آنفاً أن السياسة البلقيسية مثلها مثل ظاهرة المد التي تكون دائماً في علو وارتفاع، بينما السياسة الفرعونية مثلها مثل ظاهرة الجزر التي دائماً ما تكون في انخفاض وانحدار.
أولاً: ذكر السياسة الفرعونية في القرآن الكريم
إن السياسة الفرعونية ذكرت في مواضع كثيرة في القرآن الكريم، ويكفينا أن نعلم أن كلمة (فرعون) قد ذكرت صراحة (74 مرة)، بينما لم ترد قصة (بلقيس) إلا مرة واحد ليكون الفرق بينهما كالفرق بين الظلمات والنور.
قال تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:من الآية 29].
يقول الإمام السعدي رحمه الله: “وصدق في قوله: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} ولكن ما الذي رأى؟ رأى أن يستخف قومه فيتابعوه، ليقيم بهم رياسته، ولم ير الحق معه، بل رأى الحق مع موسى، وجحد به مستيقنًا له. وكذب في قوله: {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} فإن هذا قلب للحق، فلو أمرهم باتباعه اتباعًا مُجردًا على كفره وضلاله، لكان الشر أهون، ولكنه أمرهم باتباعه، وزعم أن في اتباعه اتباع الحق وفي اتباع الحق، اتباع الضلال.
إن السبب الأساسي من وراء ذكر السياسة الفرعونية في القرآن الكريم وتكرارها في أكثر من سورة يرجع لأمرين أساسيين، وهما:-
1- تهديد كل الفراعين على مر الزمان وبيان أن عاقبة الظلم وخيمة وعاقبة الظالمين إلى اضمحلال وزوال.
2- بيان أن الله تعالى لا يتخلى عن عباده المؤمنين على مر الزمان متى ساروا على الدرب وأخذوا بالأسباب.
ثانياً: ملامح السياسة الفرعونية في القرآن الكريم
إن ملامح السياسة الفرعونية في القرآن الكريم تمثلت في أمرين، وهما:-
1- الغرور والبطش والتنكيل والغطرسة.
قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4].
2- ادعاء الألوهية.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38].
* وحين اكتملت أركان الطغيان والتأله عند فرعون أجرى الله تعالى عليه وعلى من معه ما يستحقون.
قال تعالى: {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 136].
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: “يقولُ اللَّهُ سبحانَهُ الكِبرياءُ ردائي والعظَمةُ إزاري فمَن نازعَني واحدًا منهُما ألقَيتُهُ في النَّارِ” (رواه ابن ماجه).
من ملامح السياسة الفرعونية أن فرعون طلب تفويضاً لنفسه للتخلص من نبي الله موسى، وذلك بقوله: { ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى}.
وأن فرعون اتهم نبي الله موسى عليه السلام أنه يستتر خلف الدين لكي يُغير عقيدة بني إسرائيل {إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ}، ولكي ينشر الفساد في مصر {أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ}، حسب زعم فرعون لعنه الله.
وأن فرعون اتهم نبي الله موسى عليه السلام أنه يعمل لحساب جهات غير معلومة للتنكيل بأهل مصر {إِنَّ هَـذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا}، وهي نفس التهمة التي واجه بها أهل الباطل أنبيائهم على مر العصور، ألا وهي {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْماً وَزُوراً} (الفرقان: 4).
وأن فرعون استخف قومه ضِعاف العقول بَادِيَ الرأي مَسلوبي الإرادة وأقنعهم بأنه هو الوحيد صاحب الرأي فيهم، وألا يسألوا غيره، ولا يستمعوا لغيره، فقال: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}.
وأن فرعون استعان بأكابر المجرمين ووعدهم ومنَّاهم حين اشترطوا عليه: {إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ}؟، فوافق على الفور، وقال: {نَعَمْ وَإَنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}!
وأن فرعون استخدم كل وسيلة خسيسة دنيئة للحفاظ على مكانته وللوصول لمبتغاه، فقال: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}.
وأن فرعون لجأ إلى التعمية واستخدام مفردات هلامية مطاطة لا تعريف لها {قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ}. ولم يخبرهم فرعون بدلائل على صدق كلامه ولا عن مصدر ادعاءه.
وأن فرعون عمَد إلى إثارة القوم وتخويفهم واستعدائهم ضد نبي الله موسى عليه السلام فقال لهم: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ}، وهذا هو شأن كل طاغية لكي يتخذه الناس مصدراً لأمنهم والدفاع عنهم.
وأن فرعون تودد إلى القوم واستعطفهم وطلب لنفسه التفويض ضد نبي الله موسى عليه السلام، قائلاً لهم: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}، وهكذا يفعل كل فرعون مع قومه على مر الزمان إلى يومنا هذا.
وأن فرعون قد أحاط نفسه بوسائل الإعلام الضالة المُضلة، يبث فيها هواجسه وأكاذيبه وحقده وسمومه ويَعدهم ويُمنيهم، لكي يقوموا بدورهم في تغييب العقول وتزييف الحقائق وتحويل الباطل إلى حق والحق إلى باطل. فوسائل الإعلام إذا ضلت طريقها ونسيت رسالتها وسمحت لنفسها أن تكون مَطية للحاكم وبُوقاً له تجدها لا تتورع عن أن تهوِّل من أي إنجاز للحاكم مهما كان تافهاً، وتهوِّن من إخفاقاته ومظاهر فساده، حتى يتحقق في عامة الشعب قول الله تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} (الزخرف: 54).
وملامح السياسة الفرعونية في القرآن الكريم كثيرة، بل أكثر من أن تحصى في موضوع واحد، فمنها البطانة السوء، ومنها جحود النعم، ومنها التنكيل بكل مُعارضيه مهما بلغت درجة قربهم منه، ومنها عدم الاعتبار والإذعان للحق مهما أجرى الله تعالى له من آيات… الخ.
ثالثاً: بعض ما تعلمناه من ذكر السياسة الفرعونية في القرآن الكريم
لقد علمتنا السياسة الفرعونية أن قدر الله نافذ لا محالة وأن إرادة الله فوق كل إرادة.
وعلمتنا أن الله تعالى إذا أراد أمراً هيَّأ له أسبابه وأزال عواقبه وأتمه.
وعلمتنا أن القلوب بيد الله تعالى، فقلب فرعون الذي كان أشد قسوة من الصخر الجلمود كان يقابله قلب زوجته التي قالت {لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا} وتكفلت برعاية نبي الله موسى عليه السلام فكان نفعاً لها وسبباً في أن تكون بين خير نساء العالمين. وقلوب السحرة حين أراد الله لهم الهداية فلم يُبالوا بتهديد فرعون ووعيده، فأصبحوا كفاراً وأضحوا مؤمنين وأمسوا شهداء.
وعلمتنا أن الذي يجمع بين الزّوجين هو ذات القلب لا ذات السقف.
وعلمتنا أن الإنسان بصدق إيمانه وإخلاصه وعزيمته وقوة إرادته يكون عَصياً على أن يجرفه الشرك والفساد، ففي نفس القصر الذي كان صاحبه يقول {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}، كانت زوجته تسبح باسم ربها الأعلى.
وعلمتنا أن أمام قوة الإيمان تتحطم كل القوى ويزول كل جبروت. فتهديد فرعون لم يرهب السحرة، ولم يُثني ماشطة ابنة فرعون عن إيمانها، ولم يصرف زوجة فرعون عن اعتناقها للتوحيد.
وعلمتنا أنه ما تجبر جبار إلا بسبب عبيد سمحوا له بذلك، وارتضوا لأنفسهم أن يكونوا مُجرد مَطية ذلول، ومُجرد خادم مُطيع، لتلبية أوامر واحتياجات هذا الآبق الذي يتنكر لهم، ولا يأبه بهم، ولا يشغله مصيرهم.
وعلمتنا أن معية الله لا يغلبها غالب، ولا تقهرها قوة. فالله تعالى هو القاهر فوق عباده ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. فمن كان الله تعالى معه فلن يضره ضعفه، ومن كان الله تعالى عليه فلن تنفعه قوته.
وعلمتنا أن الأسباب ليست بقوتها ولا بحدتها ولكن بقوة هيَّأها وسيِّرها، فالعصا التي كان نبي الله موسى يهش بها على غنمه أرهبت عُتاة السحرة وكشفت زيف ادعائهم، والبحر الذي أغرق فرعون وجنده تحول بقدرة الله تعالى إلى وسيلة نجاة لنبي الله موسى ومن معه.
وعلمتنا أن الأسباب لا تضر ولا تنفع إلا بإذن الله تعالى، فالبحر الذي كان سبباً لنجاة نبي الله موسي عليه السلام وقومه، كان سبباً لهلاك فرعون وقومه.
وعلمتنا أن آصرة الأخوة لا تضاهيها غيرها من الأواصر والصلات، فهذه تسعى لتعيد أخاها إلى أمه، وهذا لا يتحرَّج أن يعترف أن أخاه أفصحُ منه لساناً.
وعلمتنا أن من يسلك طريق الحق خالصاً مُخلصاً لا يتسرب اليأس إلى قلبه، ولا يعترف عقله بالمستحيل.
وعلمتنا أن الله تعالى يقيِّض لكل ظالم ممن ساروا على درب فرعون داعية ممن ساروا على درب موسى، يُفند حُجته ويكشف باطله ويُعرِّي ضعفه ويُرغِم أنفه ويُقوِّض عرشه ويقضي على تسلطه وجبروته، حتى تسير عليه سُنة الله تعالى التي لا تتغير ولا تتبدل، ألا وهي: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21].
وأخيراً أقول
شتان الفرق بين السياسة البلقيسية التي أصبحت مَضرب المثل بين السياسات العادلة التي ترقى بالوطن والمواطن جنباً إلى جنب على مر العصور، والتي تقدم المصلحة العامة على المصلحة الشخصية الخاصة، والتي تضع نفسها في قارب واحد مع عموم الشعب دون تسفيه ولا تهميش ولا إقصاء. فأصبحت السياسة البلقيسية أملاً ومطلباً لكل الشعوب التي تروم الأمن والأمان، وتبغي الاستقرار والازدهار.
وبين السياسة الفرعونية التي كانت على النقيض من كل ما سبق، للحد الذي جعلها مَضرب المثل في الظلم وهضم الحقوق وتسفيه الآراء وتهميش المصلحين وإقصاء الدعاة.
وأقول
لو أن كل فرعون تبلقس لما كانت نهايته مزبلة التاريخ، ولكن كما قال الله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج من الآية: 46].
(المصدر: موقع بصائر)