السودان ما بين الإصلاح والتغيير
بقلم أمير سعيد
كثيراً ما ينظر إلى “الإصلاح السياسي” على أنه إجراءات تقوم بها النظم السياسية لرفع قدرتها على التعاطي مع الواقع، على صعد نظم الحكم وتداول السلطة ورفع الكفاءة الاقتصادية وتوسيع هوامش الحريات السياسية والحزبية، وينظر إلى “التغيير السياسي” على أنه إحلال نظام مكان آخر يراه البعض مستبداً لا يسمح بتداول السلطة. هكذا في الحس السياسي دون التوافق حقيقة على مدلول هذا المصطلح أو ذاك بصورة شاملة وموسعة.
بشكل شخصي، لا أحبذ قصر “الإصلاح” على نمط التغيير الجزئي؛ لأن واقع ما جاء به الأنبياء ونعتوه أحياناً بـ”الإصلاح” إنما كان تغييراً ذا طبيعة جذرية عميقة، ولم يكن مجرد تحولات جزئية للتعاطي مع الواقع والبيئة.
لكن بأية حالٍ، دعونا نوافق ما درج استعماله تجاوزاً؛ فالتغيير هو ما تنادي به الشعوب التي لا تجد أملاً لها في احترام إرادتها وتحسين أحوالها السياسية والمعيشية بغير طلب إزاحة تلك النظم بأي وسيلة كانت، وهو ما يتبلور في الشعار الذي انتشر في العديد من البلدان خلال العقد الحالي، وهو “الشعب يريد إسقاط النظام”.
هذا الشعار هو ما هتفت به جموع المتظاهرين في العديد من مدن السودان، وهو ما يعني أن آمالها في “الإصلاح” قد انسدت، وأنها لم تعد تعول على فكرة “الإصلاح” من داخل النظام، وأن ما تراه من تردي الحالة الاقتصادية لا يصلح معه “مظاهرات مطلبية”، إنما هي ناجمة بالأساس عن ديكتاتورية النظام وفساده وترهل نظمه وبيروقراطيته القاتلة.
لهم كل الحق بالتأكيد؛ فالسودان كان بوسعه أن يصبح أحد النمور الاقتصادية الكبرى لو أن سلطته المتكلسة تلك كانت قادرة على توسيع المشاركة الشعبية في السلطة والسماح بحياة ديمقراطية حقيقية، ولجم الفساد، وإقامة نظام اقتصادي ورقابي راشد يستفيد من ثروات السودان ويرفع مستوى النمو ويكبح معدلات ارتفاع البطالة والتضخم.
ورغم أزمات الخبز والوقود، فإن وقود الانتفاضة كان متوافراً بكميات هائلة وشرارة الغضب كانت جاهزة للاشتعال، وهما توافقا على موعد لم يمهل النظام كثيراً على محاولته الأخيرة لمنح الأوضاع البائسة قبلة الحياة عبر الزيارة المشؤومة للرئيس عمر البشير لرئيس الطغيان الأول في العالم، بشار الأسد، إذ لم تفلح الوعود – أو الوديعة – المالية الروسية في تبريد صدور الشباب الثائر؛ فتفجرت الأوضاع في كثير من مدن السودان الرئيسة.
وحتى كتابة هذه السطور يبدو المشهد معتماً، ولم يرجح سبيل يسلكه السودان على آخر، فحظ النظام في البقاء والنجاة من الغضب واستكمال طريقه لم يزل ممكناً، كما أن هشاشة الوضع الاقتصادي والبنية التحتية يدفعان في طريق انزلاق الوضع إلى الانهيار من جانب آخر.
لكن بأي سبيل؛ فالسودان مقدم على تحول كبير، إن لم يكن في نظام الحكم؛ ففي شكله ومضمونه وأيديولوجيته كذلك. السودان المتأرجح بين تحالفاته، والتي صمد بها نسبياً حتى الآن ما بين الفرقاء في المنطقة، حيث لم يزل كل فريق يعتبره ضمن تحالفه! سيجد لديه استحقاقات وأسئلة حول هوية النظام، إسلامياً أكان أم علمانياً، وسيمضي في جنوحه نحو أحد هذين الخيارين أكثر من حالته المهتزة الراهنة، وحول اندفاعه نحو هذا الحلف أو ذاك، والذي تصله إشارات إيجابية من طرفيه اقتصادياً وإعلامياً حتى الآن، وحول الإصلاحات السياسية والاقتصادية، وحول إبقائه على فريقه السياسي والاقتصادي المعتل في الحكم، أو التحول إلى استقطاب الكفاءات وإفساح المجال لها لتشكيل حكومة تتمتع بصلاحية واسعة، وحول النظام البرلماني ودوره الرقابي، وحول طبيعة النظام أكان رئاسياً أم برلمانياً.. الخ. هذه الأسئلة والاستحقاقات ستجد طريقها للنقاش سواء أبقي نظام البشير أم أطاحه فوران الغضب.
“الثائرون” في الميادين والأحياء مع كل تقدير لأشخاصهم، لا يملكون أجندة التغيير التي تعبر بالسودان إلى شاطئ الأمان والاستقرار والنهوض، وهم مشارب شتى سيفترقون عند أول منعطف، ولهذا يتعين على حكماء السودان، في الحكم وخارجه، أن يستعلوا على كل حظوظ النفس ورغبات السلطة، ويباشروا حلاً يبوئ السودان مكانته التي ينبغي أن يكون فيها كأحد أركان العالم الإسلامي والعربي الكبيرة، وأحد خزائن ثرواته الكامنة، وإحدى اقتصاداته التي يتعين أن تكون ناهضة وسيدة في المنطقة.
وليست المشكلة الآن في بقاء النظام أو سقوطه، إنما المشكلة الغائبة عن الأنظار في زحمة الهياج الجماهيري، أن النظام إذا ما بقي، ماذا سينضج من حلول خلاقة لتحوله من شيخوخة الدولة إلى شبابها، ومن رعونة الحكومة إلى رشدها، ومن فساده إلى إصلاحه الحقيقي. أو في الجانب الآخر، إذا ما سقط من سيخلفه، ومن سيقيم نظاماً لا يجافي مكتسبات السودان الحالية على قلتها (لم تزل السودان أوسع حرية من غيرها برغم كل ما يشاهد ويرصد على كثير من دول المنطقة، لاسيما فيما يخص الحريات الدينية والتعبير، ولم يزل مستقراً نسبياً رغم خسارته خمس مساحته وتفريطه في بعض الثوابت في سياسته الخارجية)، ومن سيوائم بين حداثة الأدوات وأصالة الهوية.. إنها المعادلة الصعبة، والتي لا يحسنها الغاضبون في الميادين عادة؛ فثمة من ينتظر الفرصة لاقتناصها أكان من النظام أم من المعارضة المتجمدة منذ عقود أم من “نشطاء الخارج”، وثمة مخلصون بكل تأكيد في سدة الحكم والميادين على حد سواء يمكنهم أن يزيحوا الغشاوة عن الأعين.
إن السودان اليوم بحاجة ماسة لمبادرة من الحكماء والعقلاء تطرح على الحكم والشعب معاً، تفي بالمطالب وتضمن تحولاً كبيراً في السلطة وضمانات حقيقية للوفاء بسودان جديد، لإنقاذ السودان من الإنقاذ!
(المصدر: موقع المنهل)