مقالاتمقالات مختارة

“السلفية الرسمية” و “القاعدة الذهبية”

“السلفية الرسمية” و “القاعدة الذهبية”

بقلم وائل البتيري

يصف أحد مشايخ “السلفية الرسمية” القاعدة الذهبية التي تنسب للإمام الشهيد/ حسن البنا رحمه الله، وهي في الحقيقة لشيخه العلامة/ محمد رشيد رضا رحمه الله: “نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه” وصفها بأنها قاعدة “بنائية هدامة”، ومن “المبادئ المنحرفة”، وتمثل “شعاراً فاشلاً” وبأنها “من أبطل الباطل”.

أما الفقرة الأولى من هذه القاعدة/ فيقول هؤلاء: كيف يسوغ لنا أن نتعاون مع الجماعات المبتدعة الضالة! وما هو موقف العامة الذين نحذرهم من أهل البدع، ثم إذا راقبونا رأونا نقف مع هؤلاء جنباً إلى جنب متعاونين في تحقيق هدف مشروع في أصله! وكيف يجتمع بغضنا للبدعة مع تعاوننا مع أهلها!

وبهذه الحيل الشيطانية، يضربون بقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ} [المائدة: 2] عرض الحائط، وكأن واو الجماعة في الآية مخصصة لـ”السلفية الرسمية” وحدها، وليست عامة للمؤمنين جميعهم.

وأنا أسأل هؤلاء: كيف تقفون إلى جانب هذا “المبتدع” في صلاة الجماعة، متعاونين معه “غصباً عنكم” في تأديتها على الوجه اللائق بها، فتصطفون خلف إمام واحد، وتتمّون الصف الأول فالأول، وتحرصون على أن يبقى الصف مستقيماً لا اعوجاج يشوبه، متراصاً لا فرجة فيه، وربما إذا سهوتم في صلاتكم نبّهكم هذا المبتدع بإشارة منه فاستجبتم لتنبيهه.

ولماذا أبعد النجعة في هذا المثل، وأنتم تصلون خلف إمام من جماعة أخرى تصفونها بالمبتدعة، يقودكم في صلاتكم -التي هي عمود الإسلام- وتقتدون به في قيامه وقعوده وركوعه وسجوده، وتكبّرون إذا كبّر، وتسلّمون إذا سلّم، وإذا ما أخطأ تنبهونه بخطئه، وإذا ما أصرّ عليه تتابعونه عليه برغم يقينكم بأنه خطأ؛ لكي تبقى الجماعة مجتمعة على إمام واحد، وإنْ وقع منه خطأ تجبره طاعة أخرى، وهي سجود السهو.

فإذا قبلتم بالتعاون مع من تصفونهم بـ”المبتدعة” على تأدية صلاة الجماعة وإتمامها وإتقانها، وهي الركن الثاني من أركان الإسلام، فلماذا ترفضون التعاون معهم فيما هو دونها!

إذا قبلتم بالتعاون مع من تصفونهم بـ”المبتدعة” على تأدية صلاة الجماعة وإتمامها وإتقانها، وهي الركن الثاني من أركان الإسلام، فلماذا ترفضون التعاون معهم فيما هو دونها

أوجّه هذا السؤال من باب الإلزام والرد على هذا التأصيل المنحرف، وإلا فلستُ من المتشجعين للتعاون مع هذا التيار بكُلّيته، وهو الذي يرفض التعاون مع الجماعات الإسلامية؛ بحجة أنها “ضالة مبتدعة”، في حين يشتغل أكثر رموزه “مخبرين” لدى السلطات الحاكمة المستبدة، ويتعاونون معها أيّما تعاون على ضرب الجماعات التي تخوض كفاحاً سياسياً للمطالبة بالعدل والكرامة والإصلاح وتحكيم الشريعة.

أما الفقرة الثانية من القاعدة الذهبية، والتي هي “يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه”، فيقول هؤلاء المعترضون: إن ثمة مسائل لا يصلح أن يعذر بعضنا بعضاً فيها، كمسائل الاعتقاد والمنهج.

فأقول: إن كل قول يحتمله النص – سواء كان متعلقاً بالعقائد أو الأحكام – صاحبه معذور ومأجور، ولو لم يكن النص يحتمله، وزلّ صاحبه به، فإننا نعذره أيضاً بالنظر إلى حُسن سيرته والقرائن التي تدل على طيب سريرته ، ولكننا نحذّر من زلته تبرئة للشريعة من أن يُنسب إليها ما ليس منها.

وهذا الأمر فصّلته في مقالات سابقة، ولكن لا بد من الإشارة هنا إلى حديث ابن عمر مرفوعاً: “لا يصلّين أحدكم العصر إلا في بني قريظة”، وكيف أن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- اختلفوا في تأويله، فمنهم من صلى العصر في الطريق خشية أن تفوتهم الصلاة، مرجّحين أن النبي -عليه الصلاة والسلام- إنما أراد أن يحثهم على الإسراع في السير، ومنهم من أخذ بظاهر النص، وأرجأ الصلاة إلى حيث الوصول لبني قريظة، يقول ابن عمر: “فذُكر للنبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يعنف واحداً منهم” [متفق عليه].

ومع أن الصلاة ركن من أركان الإسلام، وفي تأخيرها عن وقتها مواقعة لإحدى الكبائر، إلا أن النبي -عليه الصلاة والسلام- عذر من قال بتأخيرها عن وقتها؛ متأولاً قولاً دل عليه ظاهر النص بحِدَته؛ لأن النص يحتمله، وما طرأ عليه الاحتمال اختلفت فيه الأفهام لا محالة.

فقول القائل في قاعدته: “فيما اختلفنا فيه” صحيح بلا شك، والإعذار لا يتنافى مع التخطئة، وإنما هو أن ألتمس لك عذراً إنْ أخطأت -فيما أرى- فلا أكفّرك أو أضللك، أو أبدّعك، أو أحذر الناس منك غاضاً الطرف عن شرف مقصدك، وحُسن إنجازاتك وأقوالك التي أصبت بها.

الإعذار لا يتنافى مع التخطئة، وإنما هو أن ألتمس لك عذراً إنْ أخطأت -فيما أرى- فلا أكفّرك أو أضللك، أو أبدّعك، أو أحذر الناس منك غاضاً الطرف عن شرف مقصدك، وحُسن إنجازاتك وأقوالك التي أصبت بها

ومقصود قائل هذه القاعدة معروف، وإحسان الظن به واجب، أما من أراد التمحّل والمجادلة؛ فإنه يستطيع أن يحمل نصوص البشر على أسوأ المحامل، ثم ينبري ليرد عليها وينقدها وينقضها، وكأنه علامة زمانه، وسابق عصره وأوانه.

ولو رجعنا إلى أقوال المشايخ الكبار الذين ينتسب إليهم هؤلاء، لما وجدنا هذه الأوصاف المتشددة في حق هذه القاعدة، كقول من ذكرنا بأنها “من المبادئ الهدامة”، و “من أبطل الباطل”!

فها هو الشيخ الألباني يُسأل مرة: “ما هي نصيحتكم للسّلفيين تجاه الجماعات الأخرى، وخاصّة جماعة الإخوان المسلمين الذين ينتقدون الدعوة السلفيّة كثيراً؟” فيجيب رحمه الله:
“… نحن في هذا الزمن – في الواقع – بحاجة إلى التجمّع، ورفض التدابر والتقاطع، فضلاً عن التعادي؛ لأنّه كما يقولون: “ما فينا كافينا” من الضعف ومهاجمة الكفّار بأنواعهم وأشكالهم للمسلمين في عقر دارهم، فيكفينا ما فينا من البلاء والشتات والتفرّق، فنحن بحاجة فعلاً كما قال حسن البنّا -رحمه الله- لكن مع التحفّظ والبيان: “أن نتعاون فيما اتفقنا عليه، وأن يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه”، [نقلاً عن فتاوى الألباني/ المجلد السابع عشر- تحت الطبع].

هذا كلام الشيخ الألباني، وتتجلّى فيه صورة الرجل الحكيم الذي يراعي فقه الوقت، وكيف أنّ ما في الأمة من ضعف وهوان وتشتّت وتفرّق يجعلها بحاجة إلى القاعدة الذهبية، مع إشارة الشيخ إلى أنها تحتاج إلى توضيح وبيان، وهو ما وضحناه آنفاً.

وأما الشيخ محمد صالح العثيمين، فقد وُجّه إليه سؤال: ما رأيكم فيمن يقول: “نجتمع فيما اتفقنا فيه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه”؟ فكان جوابه رحمه الله:
“رأينا في هذه الكلمة أن فيها إجمالاً؛ فقولهم: (نجتمع فيما اتفقنا فيه) فهذا حقّ وأما قولهم: (ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه) فهذا فيه تفصيل؛ فما كان الاجتهاد فيه سائغاً فإنه يعذر بعضنا بعضاً فيه، ولكن لا يجوز أن تختلف القلوب من أجل هذا الخلاف، وأما إنْ كان الاجتهاد غير سائغ فإنّنا لا نعذر من خالف فيه، ويجب عليه أن يخضع للحقّ.
فأول العبارة صحيح، وأمّا آخرها فيحتاج إلى تفصيل” [نقلاً عن كتاب “الصحوة الإسلامية” ص 190].

قلت: قائل هذه القاعدة لا يعترض على هذا التفصيل بعمومه أصلاً، وأكثر القواعد في طبيعتها مجملة تحتاج إلى تفصيل، وعبارة: “نتعاون فيما اتفقنا عليه” تحتاج إلى تفصيل، فقد تتفق الجماعات الإسلامية على أمر خاطئ، والجماعات الإسلامية ليست هي الأمة كلها؛ لكي يُقال مثلاً: “الإجماع حُجّة! ومع ذلك فلا يُستدرك بمثل هذا على قائل هذه القاعدة؛ لأن هذه اللوازم الباطلة غير خاطرة في باله أصلاً، فهي قطعاً ليست مرادة لديه، وكذلك ما أشار إليه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.

ومع هذا وذاك؛ فانظر الفرق الكبير بين الاستدراكين اللطيفين من هذين العالمين الجليلين، وبين تلك المجازفة الخطيرة بوصف هذه القاعدة بأنها “هدامة” و “منحرفة” و “فاشلة” و “من أبطل الباطل”.

والله المستعان.

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى