بقلم أ. د. حاتم العوني
يُوهِمُ السطحيون الظاهريون أنهم كلما أخذوا بظاهر الأحاديث أنهم بذلك قد حققوا مذاهب الأئمة ، ولو خالفوها ، محتجّين بنحو قول الإمام الشافعي : «إذا صح الحديث فهو مذهبي»، ويُوهمون أن أهم سبب اختلاف ما يذهبون إليه مع مذاهب الأئمة أنهم ربما اطلعوا هم على النص الذي كان قد خفي على الأئمة ، ويروجون لسطحيتهم هذه في الأخذ بالظواهر غير المرادة بمثل هذا الاعتذار للأئمة ، وأن الأئمة لو اطلعوا على الحديث –كما اطلعوا هم عليه (بزعمهم) –لأخذوا به .
ويجهلون أو يتجاهلون أن الإمام من الأئمة كثيرا ما يكون قد وقف على النص الذي استندوا إليه ، ولكنه لم يجد فيه الدلالة التي زعمها هؤلاء السطحيون ؛ لأن الأئمة يعرفون كيف يفهمون النص بإرجاعه إلى بقية نصوص الشرع وأصوله وقواعده ، ويعرفون أساليب العرب في التعبير التي تخفى على الجهلة أمثالهم ، ويعرفون قرائن السياق التي تؤثر في الدلالات تأثيرا بالغا ، وكل ذلك مما خلا منه هؤلاء السطحيون ؛ إلا من سطحية في تناوله أيضًا عند أكابرهم ، إن تناولوه !
كما أنهم يفقدون أيضا ورع الأئمة وتخوفهم من الجزم في موضع الظن ، فهؤلاء السطحيون يوهمون صغار الطلبة والعوام أن القطع دليل زيادة العلم ، ويخدعونهم بحدة المواقف والتعبير عن الرأي ، وكأن حدة التعبير تدل على حدة البصر وقوة النظر في العلم !
ومن وسائل فضح دعاواهم : أن تأتي بظواهر النصوص التي احتجوا بها ، خاصة من السنة النبوية ؛ لأنها هي التي يجرؤون بادعاء جهل الإمام من الأئمة لها ؛ وكأن هذا الجهل هو السبب الوحيد للاختلاف . ثم انظر من ذكرها من الأئمة بالأسانيد الصحيحة ، وكيف فهموها ؛ لأنهم في هذه الحالة لن يستطيعوا ادعاء خفاء الدليل على الإمام ، فالإمام نفسه قد ذكر الحديث النبوي ، ولن يستطيعوا ادعاء وصول النص إليهم بإسناد ضعيف ؛ لأنهم أوردوه بالإسناد الصحيح ، وربما اجتمع مع ذلك أن الأئمة احتجوا بالنص ، لكن على غير دلالته التي يزعمها الظاهريون !
ومن أمثلة ذلك : مسألة الحلف بغير الله تعالى ، والنصوص فيه مشهورة ، منها قوله (صلى الله عليه وسلم) : «ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت».
فهم يعتبرون هذا الحديث وأمثاله أحاديث دالة على تحريم الحلف بغير الله ، ولا بأس بهذا الاجتهاد ، لكن لا يحق لهم أن يتوهموا أو يوهموا الناس أن من لم يقل من الأئمة بحرمة الحلف بغير الله إنما قال ذلك لعدم علمه بالأحاديث ؛ لأن هذا كذب على الأئمة ! فضلا عن أن يوهموا الإجماع على ذلك ، بإخفاء هذا الاجتهاد ، وعدم ذكره !!!
فالإمام مالك مثلا أورد حديث النهي في الموطأ ، ومع ذلك ذهب إلى الكراهة التنزيهية ، كما هو ظاهر كلامه في المدونة ، وهو ما عليه جمهور المالكية : أنه يرى الكراهة ، لا التحريم .
ففي المدونة : « قلت: أرأيت الرجل يقول للرجل وأبي وأبيك وحياتي وحياتك وعيشي وعيشك؟
قال مالك: هذا من كلام النساء وأهل الضعف من الرجال فلا يعجبني هذا وكان يكره الأيمان بغير الله تعالى قلت: فهل كان مالك يكره للرجل أن يحلف بهذا أن يقول: والصلاة لا أفعل كذا وكذا أو شيئا مما ذكرت لك؟
قال: كان يكره ذلك لأنه كان يقول من حلف فليحلف بالله وإلا فلا يحلف، وكان يكره اليمين بغير الله» .
ويقول ابن عبد البر المالكي في كتابه الاستذكار : «والذي عليه الجمهور من سلف العلماء وخلفهم تطلب الكفارة في وجوه كثيرة من الأيمان بغير الله ، نذكرها في هذا الباب – إن شاء الله – ، وهم مع ذلك يستحبون اليمين بالله ويكرهون اليمين بغيره
وهذا عمر وابن عمر يوجبان كفارة اليمين فيمن حلف بغير الله وهما رويا الحديث عن النبي عليه السلام أنه نهى عن الحلف بالآباء وقال “من كان حالفا فليحلف بالله” فدل أنه على الاختيار لا على الإلزام والإيجاب» .
فهنا يصرح ابن عبد البر بأن النهي للاختيار لا على الإلزام ، ويقابل بين الكراهة والاستحباب ، مما يعني أن الكراهة هنا هي التنزيهية . ويبين دليله على صرف النهي عن التحريم إلى الكفارة : وهو أنه تجب بها الكفارة ، والكفارة لا تجب إلا باليمين الشرعية المنعقدة .
وهذا النص يفسر نصا آخر لابن عبد البر ، يفهمه المتعجلون خطأ ، وإن كان العلماء – من قبل – قد بينوا وجه الصواب فيه .
المهم هنا أن يعلم الظاهريون أن من قال بكراهة الحلف بغير الله ، لم يقل بهذا القول بناء على عدم اطلاعه على النص .
وهذا الإمام الشافعي يذهب إلى كراهة الحلف بغير الله ، لا إلى التحريم ، وهو معتمد المذهب الشافعي ، وإن ذهب قلة منهم إلى التحريم . يذهب إلى الكراهة في كتابه (الأم) ، وهو في السياق نفسه يذكر حديث النهي الذي يحتج به المحرمون ! مما لا يدع لهم مجالا لادعاء غياب النص عليه !
وعبارة الشافعي طريفة الفائدة ، فقد قال : «ومن حلف بشيء غير الله جل وعز مثل أن يقول الرجل، والكعبة وأبي، وكذا، وكذا ما كان فحنث فلا كفارة عليه ومثل ذلك قوله لعمري لا كفارة عليه وكل يمين بغير الله فهي مكروهة منهي عنها من قبل قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ومن كان حالفا فليحلف بالله أو ليسكت» أخبرنا ابن عيينة قال حدثنا الزهري قال حدثنا سالم عن أبيه قال «سمع النبي – صلى الله عليه وسلم – عمر يحلف بأبيه فقال ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم قال عمر – رضي الله تعالى عنه – والله ما حلفت بها بعد ذلك ذاكرا ولا آثرا» .
(قال الشافعي – رحمه الله تعالى -) : فكل من حلف بغير الله كرهت له وخشيت أن تكون يمينه معصية» .
فانظروا لورعه عندما قال : «وخشيت أن تكون يمينه معصية» ، أي : هي عندي على الأرجح مكروهة كراهة تنزيه ، لكني أخشى أن تكون محرمة . ومعنى ذلك : أنه يبين أن ترجيحه بالكراهة التنزيهية ترجيح ظني ، ولا يُبعد أن يكون القول بالتحريم صحيحا ! هذا تطبيق عملي للعبارة المنسوبة إليه في مسائل الاجتهاد : «قولي صواب يحتمل الخطأ ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب» .
ووازنوا هذا الأدب والورع في إصدار الأحكام ، بقلة أدب السطحيين وضعف ورعهم عندما يقطعون بالتحريم ويشنعون على مخالفهم .
وهذا الإمام أحمد ، وقد أخرج أحاديث النهي في مسنده ، ونقلها عنه تلامذته في مسائلهم له ، حتى أشدها لفظا وهو الحديث المختلف في صحته ، وهو حديث : « من حلف بغير الله، فقد أشرك» . يختلف أتباع مذهبه في حكاية مذهبه ، وينقلون عنه روايتين : الكراهة والتحريم ، وإن كان الأشهر لدى متأخريهم القول بالتحريم ، والأكثر عند متقدميهم الكراهة ، كالشافعية .
بل جاء عن الإمام أحمد قول باستثناء النبي (صلى الله عليه وسلم) بجواز الحلف به ، وبحقه . نقل ذلك ابن قدامة في الكافي والمغني ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : « وعن أحمد بن حنبل رواية أنه يحلف بالنبي – صلى الله عليه وسلم – خاصة لأنه يجب الإيمان به خصوصاً ويجب ذكره في الشهادتين والأذان فللإيمان به اختصاص لا يشركه فيه غيره وقال ابن عقيل: بل هذا لكونه نبياً وطرد ذلك في سائر الأنبياء». مجموع الفتاوى (6/ 425) .
بل أباح الإمام أحمد (بلا كراهة) أن تقول : «لعمري» و«لعمرك» ، بل هو نفسه كان يستعملها ، كما في مسائل الكوسج له . واشتغلوا بتخريجها : هل هي قسم عنده ، أم أسلوب توكيد عربي ! ولا وجود لشيء في اللغة اسمه أسلوب توكيد إلا بصيغة ، والصيغة هنا صيغة قسم ، فاللام في (لعمري) هي لام القسم ، لا غير . ولذلك فسّر السلف وأئمة التفسير كابن جرير قوله تعالى {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} : أنه قسم من الله تعالى بحياة النبي (صلى الله عليه وسلم) ! وكأن الزجاج (ت311هـ) يرد على هؤلاء ، عندما قال في إعراب القرآن : «(لَعَمْرُكَ)، جاء في التفسير أنه قسم بحياة محمد (صلى الله عليه وسلم)، كذلك أكثر التفسير . وقد جاء في بعض التفسير: (لَعَمْرُكَ) كلِمَة من كلام العَرَبِ، ولسْت أحِبُّ هذا التفسير، لأن قوله: كلمة من كلام العرب لا فائدة فيه، لأن القرآن كله عربي مبين، وَكَلِمُهُ من كَلَامِ العَرَب، فلا بد من أن يقال ما مَعْنَاهَا».
بل تعالوا إلى أهل الحديث حقا ، كالإمام الترمذي : فهو يبوب في جامعه على أحاديث النهي عن الحلف بغير الله ، بقوله : « باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله» ، ثم يتعقب أشد ألفاظ الحديث المختلف في صحتها ، وهو حديث : « من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» ، بقوله : «وفسر هذا الحديث عند بعض أهل العلم: أن قوله فقد كفر أو أشرك على التغليظ» ، ليبين أنه لو صح ، فلا يُحمل على الكفر والشرك المخرج من الملة ، وأن أقصى ما يبلغه هو التحريم .
ثم أختم بكلام لابن المنذر (ت318هـ) ، وهو الإمام الفقيه السلفي المتبع للدليل ، حتى يعلم السطحيون الزاعمون اتباع الدليل كيف كان سلفهم يفهمون الدليل ، فالفرق بينهم وبين الأئمة ليس منحصرا في غياب الدليل وحضوره (غيابه عن الأئمة وحضوره عندهم!!) ، بل الفرق الحقيقي بينهم هو في فهم الدليل غالبا ، خلافا لما يُوهمونه ويتوهمونه!!!
يقول ابن المنذر في (الأوسط) : «ولقد فسر ابن المبارك قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : “فقد كفر” أنه أراد التغليظ ، وليس بالكفر ، كما روي عن ابن عباس في قوله { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} … (ثم قال ) كان الناس في الجاهلية [يعبدون] من دون الله أشياء ، فيحلفون بأسمائها ، تعظيما لها : كاللات والعزى ، وكانوا يعظمون آباءهم ، ويعظمون الكعبة ، فيحلفون بها . فنهاهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يتخلّقوا بأخلاق أهل الجاهلية ويتشبهوا بهم ، وسمى ذلك كفرا ؛ إذ كان شبيها بأفعال أهل الكفر ، لا أنه كفر بالله على الحقيقة . والعرب تشبه الشيء بالشيء فيلزمه اسمه على المجاز … (إلى أن قال ) وقد اختلف أهل العلم في معنى نهي النبي (صلى الله عليه وسلم) عن اليمين بغير الله : أهو عام في الأيمان كلها ، أم خاص أُريد بعضُ الأيمان دون بعض .
فقالت طائفة : الأيمان المنهي عنها هي الأيمان التي كان أهل الجاهلية يحلفون بها تعظيما لغير الله ، كاليمين باللات والعزى والآباء والكعبة والمسيح [وبملل] الشرك ، فهذه الأيمان منهي عنها أن يحلف بها المرء ، ولا كفّارة فيها . فأما ما كان من الأيمان بما يؤول الأمر فيه إلى تعظيم الله فهي غير ذلك ، وذلك كقول الرجل : وحق النبي (صلى الله عليه وسلم) ، وحق الإسلام ، وكاليمين بالحج والعمرة والصدقة والعتق ، وما أشبه ذلك ، وكل ذلك من حقوق الله ، ومن تعظيم الله .
وحدثني علي ، عن أبي عبيد ، قال : إنما ألفاظ الأيمان ما كان أصله يراد به تعظيم الله ، أو يراد به القربة إليه . فمن تعظيم الله : أن يحلف به أو بوجهه ، أو بعزته ، أو بجلاله ، وما أشبه هذا . ومن القربة إليه : اليمين بالعتاق والمشي والهدي والصدقة . فأما إخراج الرجل نفسه من الملة الحنيفية إلى الكفر فبعيد الشبه مما وصفنا ، إنما هذا كالذنوب العظام التي تجل عن الكفارة ، وكما جلت اليمين الغموس أن تُكفَّر ، وكالقتل العمد الذي لا كفارة على صاحبه إلا التوبة والاستغفار ، فكذلك الحلف بالشرك إن برَّ في ذلك صاحبُه أو فجر .
(قال ابن المنذر) : وقد مال إلى هذا القول غير واحد ممن لقيناه، واستدل بعضهم بالأخبار التي رُويت عن أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) في إيجابهم على الحالف بالعتق وصدقة المال والهدي ما أوجبوه ، مع روايتهم هذه الأخبار التي فيها التغليظ في اليمين بغير الله : أن معنى النهي عن اليمين بغير الله غيرُ عامٍّ ؛ إذ لو كان عاما ما أوجبوا فيه من الكفارات ما أوجبوا ، ولنهوا عن ذلك» . الأوسط (12/ 147- 149) .
ملحوظة : لم أبين العزو في كثير من النقول ، لسهولة ذلك ، مع وجود برامج البحث .
(المصدر: موقع أ. د. حاتم العوني)