مقالاتمقالات مختارة

الردود العلمية.. ضوابط وتوجيهات

الردود العلمية.. ضوابط وتوجيهات

بقلم وائل البتيري

تحتوي الردود العلمية على فوائد عظيمة؛ ربما لا تجدها في كتب التأصيل المستقلة، وخصوصاً إذا كان الرادّ متمكناً من مادته، مُحكِماً فهم النص المردود عليه، مجرِّداً رده عن الهوى والتعصب.. فكم من رادٍّ أعمى التعصبُ عينيه؛ ففهم القول على غير مراد قائله، أو تعمد تحريفه كي يصبح مادة للرد والنقض.

ولأن الردود الموصوفة بـ”العلمية” لم يُفلح أكثر مصنفيها في لجم أقلامهم عن “شخصنة” الرد والولوج في تحليل نفسية المردود عليه، وجعله موطناً للتهمة والتقريع والتسفيه، حتى وصَفَ أحدُهم علامات التعجب التي يستعملها في ردوده بأنها كالسهام التي تنطلق لتستقر في صدور اللئام!! لأنّ ذلك كذلك؛ بات كثيرون يصنفون الردود العلمية على أنها إحدى نواقض العدل والإنصاف والموضوعية والخلُق الحسن .

ولا غرابة؛ فقد عانت الأمة كثيراً من ويلات هذه الردود، التي اتخذها أعداء الإسلام ذريعة للطعن فيه، وسبباً للتفريق بين أهله، وإثارة الضغائن فيما بينهم، وذلك لغفلة الكاتب والقارئ معاً..

لقد عانت الأمة كثيراً من ويلات هذه الردود، التي اتخذها أعداء الإسلام ذريعة للطعن فيه، وسبباً للتفريق بين أهله، وإثارة الضغائن فيما بينهم، وذلك لغفلة الكاتب والقارئ معاً

أما الكاتب؛ فما ترك كلمة تساهم في هدم جدار الأخوة الإسلامية إلا وساقها في رده، وكأنه مقتحمٌ حرباً لا يملك فيها سلاحاً سوى الشتم والتسفيه والتعالي على الآخرين، حتى قال أحدهم في رده على أخيه: إذا كنتَ ريحاً فقد لاقيتَ إعصاراً.. وغفل هذا “الإعصار” أن الله مطلع عليه، وأنه قادر أن يقول له: كن أيها الإعصار عدماً.. والله المستعان.

وأما القارئ؛ فانساق وراء هذا الكاتب متأثراً بأسلوبه، وانعكس هذا الأسلوب على علاقته بإخوانه المخالفين له في الرأي، فأصبح يتخيل نفسه وكأنه إعصار يقذف كل من يقابله بعيداً بلا هوادة، وغفل هذا المسكين عن يوم الحساب الذي يتبرأ فيه الذين اتُّبِعوا من الذين اتَّبعوا!

إن وصف الكاتب رده بـ”العلمي” يجب أن ينطبق على واقع الحال، فالرد العلمي لا “شخصنة” فيه، ولا انتصار للنفس، وإنما غرضه إعلاء شأن العلم، والانتصار له وحده، وشرط صحته صدق النية، والتزام كاتبه الأدبَ النبوي، وقولَه تعالى: {وجادلهم بالتي هي أحسن}.. قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: “أي من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال؛ فليكن بالوجه الحسَن؛ برفقٍ ولين وحُسن خطاب”.

الرد العلمي لا “شخصنة” فيه، ولا انتصار للنفس، وإنما غرضه إعلاء شأن العلم، والانتصار له وحده، وشرط صحته صدق النية، والتزام كاتبه الأدبَ النبوي

إن التصاق هذه الردود بسوء الخلق وفسوق القلم، والذي أدى إلى وقوع مفاسد كبيرة؛ دعا كثيراً من الدعاة إلى المناداة بإغلاق هذا الباب، لتستريح الأمة من هذه الريح النتنة.. وإني مع هذا القول باعتباره الأصلَ والعادة الجارية وحسب، أما إغلاق الباب بالكلية؛ فإنه يفتح أبواباً أخرى للإفساد وتحريف الديانة، ما يجعل كلفة إغلاق الباب أكبر بكثير من فتحه.

ولكن؛ لا بد من ملاحظة متى يُفتح الباب، ومن يفتحه، ولمن، وكيف، وكم يُفتح منه، ومتى يُغلق إذا فُتح!

ومشروعية فتح هذا الباب مستقاةٌ من ضرورة النظر إلى مآلات الأفعال، وتقدير المصالح والمفاسد، وتقديم مصلحة الأمة على مصلحة الفرد، والضرورات التي تبيح المحظورات، مع تقدير الضرورة بقدرْها، وتنزيه الإسلام من أن يُنسب إليه ما ليس منه من الأقوال والأفعال.

ولكني بعد ذلك أتساءل: هل يمكن أن يُصدِرَ أهلُ العلم في زماننا ردوداً علمية خالية من حظوظ النفس، والانتقاص من المخالف، والسخرية منه ومما يكتب.. يكتبها من يكتبها بخلق رفيع، وأدبٍ جَمٍّ، وسَمْتٍ راقٍ، وروحٍ محبٍّ لكل مسلم، وحرصٍ على إبقاء عرى الأخوة وثيقة؟!

في الحقيقة لا أدري! ولست واثقاً من ذلك للأسف!

ومع هذا وذاك؛ فهذه بعض الضوابط والتوجيهات؛ أقدمها لكاتبي الردود “العلمية” سائلاً ربي سبحانه أن ينفع بها:

– لا بد قبل البداية أن تستحضر النية الصالحة، فأنت تكتب ردك ابتغاء وجه الله تعالى؛ بدفع مفسدة متحققة، أو تنزيه الشريعة عن التحريف، وتبرئتها من السلوكات الوضيعة، أو تجنيب الجماعة الوقوع في زلة الفرد، وغير ذلك من النيات الصالحة.

– قبل أن تكتب ردك؛ تذكَّر رحمة الله تعالى بعباده، وكيف أنهم كانوا يشتمونه وينسبون له الولد، وكان يسوق كلامهم في كتابه -سبحانه- ويرد عليهم بحلم وعلم، داعياً إياهم إلى إعمال عقولهم لمعرفة القول السديد.
لتكن الرحمة دافعة لك أولاً.. الرحمة بالخلق كلهم، والرحمة بمن ترد عليه .

– من مقتضيات هذه الرحمة أن تكون حريصاً على هداية المردود عليه، وهذا يستلزم أن تراسله ناصحاً بينك وبينه أولاً، فهذا أدعى إلى هدايته، وهدايتُه مع إعلان تراجعه عن مقالاته؛ أولى من الرد عليه علانية.

– إن استفرغت وسعك في نصح وهداية من تنوي الرد عليه، وأصر على قوله البيّنِ بطلانُه، مستعصماً بالكبر والعُجب والغرور؛ فلا بأس من الرد عليه مع التزام بقية الضوابط التي سنذكرها.

– ليس بالضرورة أن تذكر اسم من ترد عليه، وخصوصاً إذا كان الرد متعلقاً بمسألة خلافية، بل الأولى في هذه المسائل أن تعرض ما ترجح لديك؛ دون التعرض لغيرك بالرد، وإن اضطررت فردّ على الأقوال دون ذكر قائلها، كأن تقول: فإن قيل كذا فالرد كذا وكذا؛ بلا تسفيه ولا تجاوز.

– إذا كنت تعلم من طبيعة المردود عليه؛ بأنه يغضب إذا لم تذكر اسمه، ويَعُدّ ذلك انتقاصاً منه، وتقليلاً من قيمته؛ فاذكره مقروناً بألقابه التي تبقي له مكانته الاجتماعية، كـ”دكتور” و”شيخ” و”أستاذ”… إلخ.

– توخَّ الحذر في كل كلمة تكتبها، واحرص على عدم إيذاء من ترد عليه، ولا تفسد دينك برديء الأخلاق!

– ينبغي وأنت تكتب رداً علمياً؛ أن تراعي نظر الله إليك، وتستسقي رضاه، وتتذكر دوماً أنه القائل سبحانه: “وقولوا للناس حُسناً”.

– الحرص على الانتصار للنفس، وإسقاطِ المخالف، وتشويه صورته، وإظهار عواره؛ يوقع كاتب الرد في زلات عظيمة ، يمجّها الدين والعقل والذوق!

– حشو الردود بالسخرية والانتقاص من المخالف؛ يحرمُ القارئ من أهم فوائدها، وهو ترسيخ أدب الخلاف، والإبقاء على حبال الود والأخوة رغم الاختلاف في الرأي.

– أكِّدْ في ردك على حبّك الخير للمردود عليه، حتى وإنْ كان شديد الانحراف، واعلم أن ذكرك لشيء من الجوانب الإيجابية الواردة في نصوصه، وإشادتك بها، لا ينقصان من ردك شيئاً، بل يرسّخان قيمة العدل في نفس القارئ، وهذا مقصد سامٍ للردود العلمية.

أكِّدْ في ردك على حبّك الخير للمردود عليه، حتى وإنْ كان شديد الانحراف، واعلم أن ذكرك لشيء من الجوانب الإيجابية الواردة في نصوصه، وإشادتك بها، لا ينقصان من ردك شيئاً، بل يرسّخان قيمة العدل في نفس القارئ، وهذا مقصد سامٍ للردود العلمية

– إذا كان المردود عليه مسلماً؛ فلا تنسَ أن له حقوقاً عليك، من أهمها بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين.. قال الإمام ابن تيمية رحمه الله في “مجموع الفتاوى” (24/172): “وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم (…) يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة، وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية، مع بقاء الأُلفة والعصمة وأخوّة الدين”.

وقال يونس الصَّدفي: ما رأيت أعقل مِن الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني، فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى! ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتّفق في مسألة.

– إذا كان الرد متعلقاً بسرقة علمية، وعُلم بالضرورة أن أخياراً نصحوا هذا “السارق” وبقي مصراً على خطيئته، فالواجب كشف هذه السرقة، ورد الأمانات إلى أهلها، حتى وإنْ تسبب هذا الكشف لـ”السارق” بالأذى والغضب، فإنه خائن لقرائه، ولا يسوغ أن يؤتمن مثله على ديانة.. ورحم الله الإمام ابن سيرين القائل: “إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذوا دينكم”.

– احرص على عرض ردّك على من يتيسر لك من أهل العلم المتقين المتقنين، واطلب من طالب علم حاذق خلوق؛ أن يشير إلى المواضع التي خرجتَ فيها عن الموضوعية والعلمية، لتقوم بحذفها أو استبدالها بعبارات علمية رفيقة.
إن من العبثية أن تصبح الردود شغل الأمة الشاغل، ويصير المشتغلون بكتابتها مشهورين مقدَّمين فيها، على حساب المحققين من أهل العلم، وأصحاب الخبرة الطويلة في الدعوة والعمل الإسلامي .

ومع ذلك؛ فقد تغدو هذه الردود ضرورة تستلزم أن يتصدى لها بعض المتخصصين، رداً لعادية على الشريعة، أو تبرئة للدعوة من أن يُنسب أصحاب الأهواء إليها، كأولئك الذين حاربوا الدعاة وشتموا أعراضهم، ووالوا أعداء الإسلام عليهم، وباعوا دينهم بدنيا زائلة، وحرّفوا الدين إرضاءً للطغاة والظلمة، ولفوا رؤوسهم بعمامات النفاق والدجل والتحريف والتخريف.

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى