الرأي العام والحروب النّفسية
بين الرّاهب والغلام ومعركة الطّوفان
بقلم رانية نصر (خاص بالمنتدى)
لا تستطيع الحكومات والدول الاستغناء عن الحاضنة الجماهيرية الشّعبية -حتى في أكثر الدول استبداداً- نظراً لأهمية الرأي العام في تدعيم وتأييد سياساتها، أو على الأقل رغبةً في تحييد المواقف المعارضة أو المعادية لها، إذ يُكسبها تأييد الرأي العام نوعاً من المشروعية تجاه ما تتخذه من قرارات وسياسات عامة -وإن كانت شكلية-، فتلجأ هذه الحكومات إلى عملية التأثير في الرأي العام عبر ذراعها الإعلامي المؤدلج وقنواتها المُسَيّسة من خلال برامج ممنهجة تَستخدِم فيها فن وعلم نَفْسِ الجمهور وهو ما يُسمى في الإعلام الغربي بعلم نفس الاتصال الجماهيري “Mass Communication Psychology”؛ وهي عملية مُمنهجة شديدة التعقيد والتركيب، وتحتاج لبرامج عمل مشتركة وجهود متضافرة بين مراكز أبحاث مختصّة في علم النفس والاجتماع والانثربولوجيا ودوائر صنع القرار السياسي والإعلام.
وإن دراسة نفسية الجمهور وقياس توجهاته لتغيير أفكاره ومن ثم سلوكه نحو قضية ما لصناعة رأي عام قوي؛ هو عمل تراكمي وطويل الأمد، لا يتحقق في ليلة وضحاها، بل يحتاج لجهود مستمرة لتحصيل النتائج المرجوة، فالرأي العام كما عرّفه فلويد ألبورت هو تعبير جمعٍ كبير من الأفراد عن آرائهم في موقف معين يهم غالبية لها تأثير في الموقف.
الرأي العام والدوائر المرجعية الثقافية
تعد صناعة الرأي العام من أهم أهداف الإعلام قديماً وحديثاً، ولطالما استُخدِم الإعلام كأداة لتشكيل أو تغيير الرأي العام السائد في البيئة الثقافة للأفراد والجماعات؛ حيث تُعتبَر الدوائر الثقافية هي المرجعية الأصيلة التي تشكل هويتهم الفكرية والسلوكية؛ وذلك لما جُبِل عليه العقل البشري من ميلٍ للاصطفاف مع رأي الجماعة “الأغلبي” حيث يقل الخطأ معه بينما يزداد مع القرارات المبنية على تصورات فردية والتي تكون أكثر عرضة للشطط والزلل، وفي الحقيقة؛ إن هذه القاعدة تستند إلى منطق عقلي قوي، فضلاً عن كونها قاعدة شرعية أصيلة أقرها الشارع حين اعتبر الأعراف والعادات وطريقة التفكير من مصادر التّشريع التبعية المساعِدة في التوصل لأحكام فقهية في المسائل المُستجدّة حال استوفت شروطها. فتأتي جهود صناعة الرأي العام محاولة تغيير هذه المعتقدات أو الأفكار أو السلوكيات موَظِفةً الإعلام وأدواته لإصابة هذا الهدف!
الرأي العام بين الصواب والخطأ
تجدر الإشارة هنا إلى نقطة مهمة، هي أنّ الرأي العام قد ينحرف بالرغم من كونه جمعياً، وذلك إذا انحرفت الفِطَر السليمة، مما يعني أنّ الرأي العام ليس بالضرورة أن يكون صائباً دائماً، ولقد ذكر القرآن الكريم نماذج من الرأي العام المُعبَّر عنه بلفظ “الملأ” في كثير من الآيات والقصص، حيث كان “الملأ” في أغلب المواقف هم البطانة الفاسدة للملوك والحكام والسّلاطين، وأن الأنبياء والمصلحين كانوا يواجهون طواغيت الكفر وأعوانهم والرأي العام الجاهلي الأغلبي الفاسد فُرادى، وكذلك العلماء والمصلحون والمؤثرون هم قلة أمام الجماهير الغفيرة من الناس التي تحتاج إلى التعليم والتوجيه والإرشاد، لذلك لا يعد الرأي العام صائباً دائماً، وإنما يحتاج لدراسة ومراقبة شديدة مستنِدة إلى مرجعية التشريع الإسلامي والسنة النبوية وهدي الصحابة والتابعين والمصلحين.
وأما عن العلاقة بين الرأي العام والحروب النفسية؛ فهي أن الحروب النفسية عادة ما تُسلَّط على الرأي العام للتأثير والتغيير فيه خدمةً لأصحاب المصالح، وكثيرة هي أساليبها وأدواتها، حتى أن ألفاظها تتنوع فمنهم من يطلق عليها العمليات النفسية أو حرب العقول أو الحرب الباردة أو حرب الأعصاب فكلها ألفاظ مشتركة لحمولة دلالية واحدة، وإن تنوعت تعبيراتها واختلفت؛ إلا أنها واحدة من حيث أساليبها ووظائفها وأهدافها.
قصة الرّاهب والغلام والرّأي العام
أراد الغلام صناعة رأي عام يؤيد ما يعتقد به، ولقد نجح في نيل مُبتغاه مقابل حياته التي دفعها ثمناً لهذه الغاية، جاء في الحديث الصحيح أن ملكاً كان له ساحر، وعندما تقدّمت به السّن طلب من الملك أن يرسل له غلاماً يُعلمّه السحر، فكان هذا الغلام كلما ذهب للساحر مرّ على راهب في طريقه وجلس يسمع كلامه ويأخذ عنه، وكلما تأخر على الساحر لمكوثه عند الراهب؛ ضربه، فشكا الغلام ذلك للراهب، فقال له: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر. فبينما هو على ذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب؟ (وكان في شك من أمره أيهما على الحق!)، فأخذ حجراً، فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك مِن أمر الساحر؛ فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس، فرماها فقتلها ومضى الناس، فأتى الراهب فأخبره بما حدث معه، فقال الراهب: أي بني أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستُبتلَى، فإن ابتليت فلا تدل علي، وكان الغلام يبرىء الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء، فكان لهذا الغلام كرامات خاصة من الله -عز وجل- حتى كُشِفَ أمره عند الملك، فأمره أن يرجع عن دينه فأبى، فأمر الملك جنوده بقتله، وفي كل مرة يحاولون قتله فيها؛ يفشلون، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ فيقول: كفانيهم الله تعالى، ثم قال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع، ثم تأخذ سهماً من كنانتي وتضع السهم في كبد القوس ثم تقول: بسم الله رب الغلام، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، ففعل ما طلبه الغلام منه وبالفعل رماه فقتله، فقال الناس: آمنا برب الغلام، وحينئذ غضب الملك غضباً شديداً، فأمر بالأخدود وأضرم فيه النيران وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها، ففعلوا، حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها، فتقاعست أن تقع فيه، فقال لها الغلام: يا أمه اصبري فإنك على الحق.
وهنا أريد أن أتوقف عند مسألتين في حديث الغلام؛
الأولى: قوله “تجمع الناس في صعيد واحد”، أراد الغلام بهذا الطلب صناعة رأي عام مؤيد له من خلال تجميع الناس لحضور مشهد قتله الذي سيكون سبباً في تغيير قناعاتهم وتوجهاتهم، فليس هدفه الملك ولا نفسه إنما هدفه التأثير والتغيير في عقيدة الناس وصناعة رأي عام مؤيد “وهذا ديدن المُصلحين أنهم يتطلعون إلى إصلاح الناس مهما كلفهم”، وقد تحقق ما كان يصبو إليه، وبالرغم من يقينه أنه لن يرى أثر فعله في حياته إلا أن يقينه وإيمانه العميق بالله أنار بصيرته للمضي في طريق الحق ثابت الخطى راسخ العقيدة.
المسألة الثانية: حين قال “ثم قل: بسم الله رب الغلام”، فقد اشترط الغلام على الملك أن يصدح أمام الملأ بشعار عقيدته “بسم الله رب الغلام” لبلوغ مرامه، وقد كان، فأصاب الهدف المنشود بتغيير عقيدة الناس فآمن الناس؛ بل وكان إيمانهم صادقاً حقيقاً راسخاً إذ صبروا على التعذيب والموت مقبلين على الله بعقيدة واثقة أنهم على الحق. إن قوة إيمان الغلام ورسوخ عقيدته وعدم خوفه مما ينتظره انعكس تأثيره في وجدان وفكر النّاس، فلم يُثنهم عن المضي في طريق الحق طغيان الملك وجبروته، بالرغم من أنه استخدم الحرب النفسية معهم من خلال ترهيبهم بالتعذيب والقتل، لكنهم أيقنوا أن الحق مع رب الغلام فلم يتراجعوا عن هذا الحق ولم يضعفوا قيد أُنملة.
معركة الطوفان وتزييف الرأي العام
يستخدم اليوم الكيان الصهيوني نفس الطرق بأساليب وأدوات مختلفة في توجيه الرأي العام وصرفه عما يمارسه من وحشية طاغية من قتل لم تشهده البشرية في غزة محاولاً تزييف الحقائق وتعمية الرأي العام عن حقيقة ما يقوم به من ممارسات لا إنسانية، مستخدماً الحرب النفسية ذاتها من محاولات لتخويف الناس بالقوة العسكرية الدولية التي تسانده، ومن تضليل إعلامي ممنهج عن جرائمه وتحييد الرواية الفلسطينية عبر الحظر والتقييد الرقمي مقابل الترويج للرواية والدعاية الصهيونية، ومن حصار الناس وتجويعهم وتخويفهم بالقتل والموت!! وهو لا يعلم أنهم يعشقون الموت في سبيل الله، لا يحيدون عن هذا الطريق؛ طريق رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم-، طريق الأنبياء والشهداء والصالحين إلى يوم القيامة، واهم هذا العدو إذا اعتقد غير ذلك!
تبقى كلمة أخيرة؛ أن الحروب النفسية مع تنوعها وكثرتها وقدرة تأثيرها في توجهات الرأي العام؛ إلا أنه لا يقوى على مواجهتها إلا أصحاب الإيمان العميق والعقيدة الراسخة الواثقة بأن هذه الحياة رخيصة جداً، ولا تساوي عند الله جناح بعوضة، أنفاسنا فيها معدودة، وحياتنا لا تعدو سوى لحظات، يستظل عابرها المُنهك بشجرة بعض الوقت ثم يمضى إلى طريقه، هي مرحلة قصيرة، ليست إلا مرحلة اختبار وإن الحياة الحقيقة في الجنة حيث الخلود الأبدي.