فتحي أبو الورد – بوابة الشرق
كان نداء السماء في قوله تعالى: “واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا” دستورا للمؤمنين يوحدهم ويجمعهم، وقانونا ملزما لمن أراد أن يعيش في بحبوحة الجنة، وسياجا عقديا وفكريا يحمى وحدتهم من الاختلاف المذموم والتفرق المشؤوم، حتى وإن راقت للفرد الوحدة، وصفت له العزلة، فإن كدر الجماعة خير من صفو الفرقة.
جاء في تاريخ الطبري أن عمرو بن حريث قال لسعيد بن زيد: أشهدت وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قال: فمتى بويع أبو بكر؟ قال: يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة.
وكان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يفتي بالتمتع في الحج، فبلغه عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أنه يأمر بالإفراد، فقال: “يا أيها الناس! من كنا أفتيناه فتيا فليتئد(ليتمهل وليترو)؛ فإن أمير المؤمنين قادم عليكم، فبه ائتموا”. وقد قعد أهل الفقه والأصول في ذلك قاعدة فقهية تقول: “حكم الحاكم يرفع الخلاف”.
ولما طعن عمر قال لأصحاب رسول الله :علي، وعثمان، وعبد الرحمن، والزبير، وسعد: انهضوا إلى حجرة عائشة فتشاوروا فيها، ووضع رأسه وقد نزفه الدم، فقال العباس لعلي رضي الله عنه: لا تدخل معهم، وارفع نفسك عنهم، فقال علي: إني أكره الخلاف.
ولما صلى عثمان الظهر بمنى أربعًا، بلغ ذلك ابن مسعود فعاب عليه، ثم صلى بأصحابه العصر في رحله أربعًا، فقيل له: عتبتَ على عثمان وصليت أربعًا؟ فقال: إني أكره الخلاف. وفي رواية: الخلاف شر. وإتمام الصلاة في السفر خلاف الأولى، وقد فعله ابن مسعود تركا لمخالفة عثمان وإيثارا لوحدة المسلمين.
وكتب علي – رضي الله عنه- إلى قضاته في خلافته: أن اقضوا كما كنتم تقضون (يعنى أيام أبى بكر وعمر)؛ فإني أكره الخلاف، وأرجو أن أموت على الذي مات عليه أصحابي.
كان الصحابة رضوان الله عليهم يكرهون الخلاف إيثارا للوحدة، وتجنبا للفرقة، وجمعا للكلمة، وإسكاتا للدهماء الذين يتربصون بالكرام الدوائر، وينشدون توسيع هوة الخلاف، وتعميق رقعة القطيعة بين أهل العلا، فلم يتركوا لهم منفذا، ولم يفتحوا لهم كوة، ولم يتركوا لهم عذرا. كان ذلك منهم غيظا للمتربصين، وقمعا لناشدي الجنازات لإشباع الخدود من اللطم.
والخلاف بطبيعة الحال ليس كله شرا، فهناك المحمود منه والمذموم، ويبقى المحمود منه ما كان خلاف تنوع وتكامل وتعدد وجهات نظر، لا خلاف تضاد وتصادم، وهذا إنما يكون في الفروع لا في الأصول، وفي الجزئيات لا في الكليات، وفي الظنيات لا في القطعيات، وفي الوسائل والآليات لا في المقاصد والغايات، وفي المتغيرات لا في الثوابت.