مقالاتمقالات مختارة

الدّيانة “العلمانية” وسليلتها “الإنسانية”

الدّيانة “العلمانية” وسليلتها “الإنسانية”

بقلم سلطان بركاني

لعلّ من أخطر الأفكار التي عمل الإعلام الموجّه على ترسيخها في واقع المسلمين في العقود والسّنوات الأخيرة، هذه العلمانيةَ المقيتة التي تسعى إلى تحييد وإبعاد الدّين عن واقع الحياة والحجر عليه في المساجد والمقابر، لتسير الحياة وتُحكم العلاقات بين النّاس بمبادئ تفتح الأبواب على مصاريعها ليس للخروج على الدّين فحسب، إنّما – كذلك – للخروج عن الفطرة الإنسانية التي فطر الله عباده عليها.

علمانية تجعل الزّنا والشّذوذ والعري ومعاقرة الخمور، قناعات شخصية وحقوقا فردية لا يحقّ لأحد أن ينكرها على أحد.. علمانية تمنع الآباء أن يتدخّلوا في توجيه أبنائهم ورسم قناعاتهم، وتعطي الحقّ للأبناء في أن يختاروا ليس فقط لباسهم وحياتهم الخاصّة، إنّما –كذلك- في أن يختاروا أديانهم، وتجعل دين الله الحقّ في منزلة الأديان المحرّفة والديانات المخترعة التي ما أنزل الله بها من سلطان.. علمانية ترفع شعار “الدّين لله والوطن للجميع”، وتنادي بأنّ الحكم للشّعب، ليس في اختيار من يحكمه فحسب، وإنّما أيضا في اختيار ما يحكمه من دساتير وقوانين ونظم، وتفرض على الأمّة قوانين هي في أصلها قوانين غربية تفضّلها على شرع أحكم الحاكمين.

هذه هي العلمانية في شكلها العامّ، أمّا العلمانية العربيّة، فهي الأكثر تطرّفا بين العلمانيات العالمية، لأنّها تتبنّى دعوى المساواة بين الأديان، لكنّها تعلن عداءها للإسلام وللإسلام فقط وتظهر تسامحا نادرا مع الأديان المحرّفة والديانات الوضعية. ترفع شعار الحرية الشّخصية، لكنّها تسعى في حرب مظاهر التديّن ولا تعتبرها حرية شخصية، فتجدها مثلا تدافع عن الكاسيات العاريات ضدّ ظلم الأولياء وظلم المجتمع المزعوم، لكنّها لا تدافع عن حقّ المحجّبات ضدّ سطوة بعض المسؤولين في المؤسّسات والإدارات، بل ترى أنّ الحرب على الحجاب هي حرب علمانية مقدّسة!

العلمانية تنخر واقع المجتمعات المسلمة!

ربّما لا يوجد على ظهر البسيطة مسلم يسمع بهذه المبادئ الهدّامة التي تقوم عليها العلمانية إلا وينكرها بلسانه، لكنّ كثيرا من المسلمين أصبحوا مع كلّ أسف يتبنّون بلسان الواقع والحال بعض مبادئ العلمانية التي ينكرونها بلسان المقال.. ينكرون العلمانية ويتبرؤون منها بألسنتهم لكنّهم يتبنّون بعض مبادئها في كثير من أحوالهم وفي بيوتهم وأعمالهم ومعاملاتهم.. بسبب مكر الليل والنّهار الذي مارسه الإعلام الموجّه خلال العقود الأخيرة في المسلسلات والأفلام والبرامج المختلفة، لم تعد العلمانية شعارات تطلقها الأقليات لتتقرّب بها إلى الغرب زلفى، لكنّها أصبحت واقعا يعيشه كثير من المسلمين.

كثير من المسلمين أصبحوا بلسان الواقع يتعاملون مع الإسلام على أنّه دين يحكم علاقة الإنسان بخالقه، أمّا المعاملات فيرون أنّها تخضع للمصلحة، وأصبحوا ينظرون إلى من يهتمّ بالحلال والحرام في تعاملاته، على أنّه غريب في واقعه.. أضحى كثير من المسلمين ينظرون إلى الدّين على أنّ مكانه بين أسوار المساجد والمقابر وإن كان لا بدّ له من دور فليكن له دور هامشيّ في دعوات ترفع عقب عقد الزّواج، وآيات من القرآن تتلى في افتتاح اللّقاءات والمؤتمرات وفي الجنازات.. لذلك نرى من يفتح محلّه ودكّانه في الصّباح يضع تلاوة عطرة للقرآن الكريم، لبضع دقائق، ثمّ نجده يطفّف في الميزان ويغشّ في بيعه ويحلف كاذبا وربّما يبيع ما يحرم بيعه من دخان أو ألبسة فاضحة مزرية.. ونرى من يشغّل القرآن الكريم في مسجّل الحافلة في الصّباح، ثمّ ما هي إلا ساعة من الزّمان، حتى يصمّ آذان الركّاب بألحان تحوم كلماتها حول الحبّ والغرام وربّما تتغنّى بمعاقرة الخمور.. ونرى من يحجّ ويعتمر ويتابع بين العمرة والعمرة لكنّنا نجده مرتشيا لا يتورّع عن أخذ الرشوة وإعطائها، مرابيا لا يتورّع عن أكل الربا وإعطائه.. ونجد من يصلّي في المسجد الصّلوات الخمس لكنّه يأكل حقّ إخوته وأخواته في الميراث..

ونجد من يصلّي ويتصدّق، لكنّه في عرسه أو عرس أبنائه يرفع شعار: “نديرو كيما يديرو النّاس”!!! نجد المرأة تحجّ وتتصدّق، لكنّها لا تتّقي الله في زوجة ابنها، تؤذيها وتضيّق عليها وتسعى بالنّميمة بينها وبين زوجها حتى يصل الأمر إلى الطّلاق.. نرى الشابّ يصلّي في بيت الله، ويسمع الدّروس والخطب، لكنّه يظلّ مصرا على لبس السّلسلة وربّما يلبس السّراويل المقطّة والمخرّقة والضيّقة، ولا يتورّع عن محادثة الفتيات ومضاحكتهنّ في الواقع وفي المواقع، وكأنّه بلسان حاله يقول: “ما لله لله، وما للنّفس للنّفس”.. بل بلغ الأمر ببعض الشّباب إلى درجة أنّهم أصبحوا يأنفون من سماع أيّ كلام عن الدّين خارج أسوار المساجد، ويرون أنّ أيّ كلام عن الآخرة والحلال والحرام إنّما مكانه المسجد.

مع كلّ أسف.. كثير من المسلمين أصبحوا يدينون من حيث شعروا أو لم يشعروا بالعلمانية، ويتبنّون كثيرا من مبادئها وقيمها بلسان الحال وأحيانا بلسان المقال أيضا، تجد قائلهم يقول: كل أحد حر في اختيار دينه، وفي اختيار لباسه.. وكلّ فتاة حرّة في لبس الحجاب أو تركه.. يقول إنّ اللّباس ذوق والحجابَ قناعة، وينسى قول الله تعالى: ((وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا))… يرى الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر تطفلا وتدخلا في شؤون الغير.. يرفع شعار “حياتي وأعيشها كما يحلو لي وكما أريد”، ويرفع شعار “دع الخلق للخالق”، ولا يعلم أنّ مبدأ “دع الخلق للخالق” صحيح في الحكم على النوايا، وفي تحديد من يدخل الجنّة ومن يدخل النّار، لكنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر واجب كالصّلاة والصّوم والزّكاة، بل عدّه بعض العلماء الرّكن السّادس من أركان الإسلام..

عندما يقول العبد: “إنّي مسلم أومن بالله ورسوله”، لا يجوز له أبدا أن يقول: “حياتي أعيشها كما أريد” أو يقول: “كلّ أحد له الحقّ في أن يعيش حياته كما يريد”، إنّما ينبغي له أن يقول: ((إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِين))، وتكون حاله كما قال الله: ((إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون)).. من لوازم الإسلام والإيمان أن يعلم المسلم موقنا أنّ الدّين ما شرع إلا ليحكم حياته، وأن يخضع لشرع الله في كلّ أموره ويسأل عن حكم الشّرع في كلّ صغيرة وكبيرة.. الميزان في حياة المسلم ليس ما يعجبه أو يقبل به عقله أو يوافق هواه، وليس ما يعجب المجتمع أو يقبله النّاس أو يفعلونه، إنّما هو ما شرعه الله ويحبّه الله ورسوله.

الديانة الإنسانية.. سليلة الديانة العلمانية

لعلّ ممّا يقتل القلوب الحية كمدا أنّ كثيرا من المسلمين وبعض الشّباب خاصّة وبسبب الانفتاح الإعلاميّ، لم يقفوا عند حدّ تبنّي العلمانية من حيث شعروا أو لم يشعروا، حتى تعدّوا ذلك إلى تبنّي مذهب “الإنسانية” الجديد الذي يلغي الدّين تماما، ويقضي بأنّ الفيصل في هذا العالم ينبغي أن تكون قيم الإنسانية وليس غيرها. لذلك تجدهم يعترضون على كثير من المبادئ الأساسية الرّاسخة في الإسلام، بقيم يزعمون أنّها فوق كلّ الأديان؛ مثل قيم الحرية والتّسامح ومبدأ أن “لا أحد يحقّ له أن يحاسب أحدا” أو يأمره بما يراه هو معروفا أو ينهاه عمّا يراه هو منكرا، لأنّ النّاس قد يختلفون في النّظر إلى المعروف والمنكر، والحسن والقبيح؛ فما تراه أنت قبيحا قد يراه غيرك حسنا،! بل بلغ الأمر ببعض شبابنا إلى تبنّي أفكار إلحادية صرفة مثل القول بأنّه ليس هناك حقّ مطلق أو حقيقة مطلقة، فالحقّ نسبيّ والحقيقة كذلك.

تجد هؤلاء الشّباب المغترّين بما عند الآخر ينكرون أن تقيّد الحريات الشّخصية بشرع الله، بزعم أنّ الأحكام تتغيّر بتغيّر الزّمان والمكان، فيعتبرون اللّباس خيارا فرديا وقناعة شخصية، والحجاب كذلك، وتنقبض نفوسهم من الحديث عن السّتر والعفاف وفرض الحجاب، وينظرون إلى فرض الحجاب على أنّه تقييد للحرية الشّخصية.. والغريب في الأمر أنّهم لا ينكرون على من “يقيّد الحريات الشّخصية بالوصاية القانونية والنظامية في جميع مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية؛ ‏لا تجدهم يعترضون على فرض لباس خاص على رجال الأمن أو الأطباء أو الممرضين أو المهندسين أو عمال النظافة أو الطلاب، بل ولا تجدهم يعترضون على منع بعض الموظّفين في مناصب حسّاسة من السفر إلا بإذن حكومي وإجازة خارجية مع تقديم أسباب لهذا السفر، ولا يعتبرون هذا تقييدا للحرية، لكن عندما يفرض الله لباسا معينا كالحجاب أو نظاما معينا كالمحرم أو الولي للمرأة، تنقبض نفوسهم وتظهر اعتراضاتهم” ويحدّثونك عن مزايا الدّيانة الإنسانية التي لا تتدخّل في مظاهر النّاس وقناعاتهم، وصدق الله القائل: ((وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُون))، والقائل أيضا: ((وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُون)).

تجد بعض المغترّين بالمذهب الإنسانيّ وبالعلمانية، يقول قائلهم بملء فيه: لن أجبر أبنائي على الصّلاة، ولن أفرض على بناتي الحجاب، ويبرّر ذلك قائلا: الصّلاة والحجاب إمّا أن يكونا عن قناعة أو لا يكونا.. لكنّ هذا المتحذلق نفسه تجده يوقظ أبناءه صباحا ويجبر من تراخى منهم على الذّهاب إلى المدرسة، ويجبرهم على حلّ واجباتهم، وعلى مراجعة دروسهم في أيام الامتحانات.. وعندما يمرض أحد أبنائه، تجد الأب حريصا على أن يلزمه شرب الدّواء في أوقاته المحدّدة، وإن أظهر الولد أيّ تراخ في احترام مواعيد شرب الدّواء، زجره الأب.. وهكذا، كلّما تعلّق الأمر بالمصلحة الدنيوية تجد الأب يتدخّل في حرية أبنائه ويوجّه قناعاتهم، لكنّه عندما يتعلّق بالدّين والآخرة يظهر الانفتاح والديمقراطية والعلمانية.. بل أصبح الأب الذي لا يتدخّل في علاقة أبنائه بخالقهم في صلاتهم ولباسهم مثلا يقال عنه: “فلان ديمقراطيّ”.

آن أوان التطهّر من رجس العلمانية

لقد آن الأوان لأن نطرد هذه العلمانية المقيتة من حياتنا ومن واقعنا، ونعود إلى شريعة ربّنا ونعتزّ بها.. كلّ الأمم تأخذ من قيم الدّيمقراطية ما يناسب ثوابتها، باستثناء الأمّة المسلمة التي يراد لها أن تأخذ الديمقراطية بعجرها وبجرها وتتبنّى العلمانية بقضّها وقضيضها!.. الديمقراطية فيها كثير من الغثّ وقليل من السّمين، والعلمانية تخالف الإسلام في أصوله وفروعه وأخلاقه، ونحن المسلمين لسنا ملزمين بقبول ما يخالف ديننا، بل ينبغي لنا أن نزن الأفكار والنّظم بميزانه، ونعتزّ بشريعة ربّنا التي توافق الفطرة والعقل السّليم، وننكر بأفعالنا وأقوالنا كلّ ما يخالفها.

إنّ أعظم بلاء بليت به الأمّة المسلمة من يوم سقوط آخر قلاع الخلافة العثمانية إلى يومنا هذا هو بلاء الرّكون إلى هذه العلمانية المقيتة والحجر على شرع الله -جلّ وعلا- في المساجد والمقابر.. يقول النبيّ –صلّى الله عليه وآله وسلّم-: “لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، وأولهنّ نقضاً الحكم وآخرهن الصلاة”.

ينبغي أن نسعى إلى محاصرة العلمانية المقيتة ونبذها من بلداننا المسلمة التي سالت عليها دماء الفاتحين.. شريعة ربّنا هي مكمن عزّنا وسعادتنا في الدّنيا والآخرة، وينبغي أن نجعل على رأس أولوياتنا أن تكون هي الحاكمة في أقطارنا المسلمة بل في العالم أجمع.. هذا الواجب سنسأل عنه جميعا بين يدي الله؛ سيسأل كلّ واحد منّا عمّا قدّمه ليكون شرع الله –عزّ وجلّ- هو الحاكم، فلنعدّ للسّؤال جوابا.

العلمانية أو الديكتاتورية!

بقي لنا أن نقول أخيرا إنّنا لا ينبغي لنا أبدا أن نصغي إلى دعاوى من يقول إنّ العلمانية هي البديل الوحيد للديكتاتورية ولحكم الفرد، وكلّ من يرفض العلمانية أو الديمقراطية هو بالضّرورة مناصر للديكتاتورية.. النّظام الإسلاميّ هو أكثر نظام أسّس لحقّ الأمّة في اختيار من يحكمها ضمن إطار عام يشكّل من أهل الخبرة والاختصاص وأهل الحلّ والعقد، وهو أكثر نظام حارب التسلّط والديكتاتورية ورفع شعار “متى استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحرارا”، ونحن المسلمين في سعة من أمرنا لأن نأخذ من الديمقراطية ما لا يخالف شريعة ربّنا، لكنّنا لسنا ملزمين بتبنّي العلمانية المقيتة التي تسعى إلى الحجر على ديننا.

(المصدر: صحيفة بوابة الشروق الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى