مقالاتمقالات مختارة

“الدّعاة الباحثون” يُربكون الأوساط الإلحادية والعلمانية

“الدّعاة الباحثون” يُربكون الأوساط الإلحادية والعلمانية

بقلم سلطان بركاني

منذ العقد الثاني من القرن العشرين، والعلمانية آخذة بزمام الأمور في العالم العربي والإسلاميّ، مستأثرة بوسائل التأثير في واقع الأمّة، ساعية في بثّ المادية ومحاصرة التديّن، وقد أمكنها خلال نصف قرن من الزّمان تحقيق كثير من مآربها، إلى الحدّ الذي ظنّ معه الظانّون أنّه لن يكون للدّين أيّ دور في مستقبل الحياة العامّة والخاصّة للمسلمين في العالمين العربي والإسلاميّ، لكنّ العلمانيين فوجئوا بالصحوة الإسلامية التي انطلقت في سبعينيات القرن الماضي، واتّسع نطاقها في الثمانينيات، فأجمعوا أمرهم وشركاءهم للتآمر عليها وإعادة القطار إلى سكّته العلمانية.

لم تكن أمام العلمانيين خيارات كثيرة للتّعامل مع قطار الصّحوة الإسلامية، حيث أدركوا أنّ الوقوف في طريقه أقرب إلى المستحيل منه إلى الإمكان، لذلك رأوا العمل في اتّجاه آخر، اتّجاه تجريدها من فاعليتها في واقع الأمّة العامّ وحصر تأثيرها في الشّأن الخاصّ، بمعنى آخر محاولة علمنة الصّحوة الإسلامية! وهو ما ترجمته واقعا بالسّعي لاستغلال بعض الطوائف الإسلامية وبعض الدّعاة “الجدد” لإبعاد الدين عن السياسة والشّأن العام.

لم تكن علمانية بعض الطرق الصوفية كافية ولا جديرة بتوجيه قطار الصّحوة الإسلامية، على الرغم من الدّعم الغربي والرّسميّ الذي حظيت به، لأنّ الطرقية ارتبطت في أذهان أبناء الجيل الجديد بالخرافة، كما لم تفِ علمنة بعض المؤسّسات الدّينيّة الرّسميّة في العالم العربي بالغرض، لذلك كان التركيز على محاولة دعم سلفية من نوع خاصّ، تحارب الخرافة في بعض جوانبها لكنّها تنحى منحى الصوفية في التّنفير من السياسة والإلهاء عن قضايا الشّأن العامّ وقضايا الأمّة، قدّمت بديلا للسّلفية الإصلاحيّة، بل وممثّلا حصريا لمنهج السّلف الذي لا صلاح ولا فلاح للأمّة إلا بتبنّيه واتّباعه. سلفية تزهّد في العلوم الحديثة وترغّب في بعض جوانب العلم الشّرعي المتعلّقة بالشّعائر الظّاهرة وبالخلافات الفقهية في مسائل العبادات، وتشغل أتباعها بمحاكمة طوائف الأمّة وتصنيف العلماء والدّعاة والعاملين لدين الله، وتركّز حربها ضدّ المهتمّين منهم بقضايا الأمّة وبالشّأن العامّ باعتبارهم مبتدعة خالفوا منهج السّلف! وقد كان لافتا كيف سُخّرت المطابع والمنابر بمختلف أنواعها لدعاة هذه السلفية العلمانية الذين لم يكن كثير منهم يدرون أنّهم أصبحوا أداة في أيدي العلمانيين.

على صعيد آخر، سعى العلمانيون لتلميع لفيف من الدّعاة الذين استُدرجوا للمساهمة في مشروع علمنة الصحوة، بل وأنسنة الدين؛ صنف منهم ذهبوا بعيدا ونادوا بالتخلي عن التراث وإعادة صياغة فهم جديد للدين، بينما حاول صنف آخر تجريد الدّين من حركيته ومن عناصر تميّزه كالولاء والبراء والحاكمية والتّوحيد بمفهومه الشّامل، وقصروا اهتمامهم على الأخلاق العامّة التي تشترك فيها كلّ الأديان والديانات، تمهيدا لصهر الإسلام في قالب الديانة الإنسانية، أمّا الصّنف الثّالث من الدّعاة فقد حاولوا عصرنة الدّعوة بإثبات أحقية الدّين استنادا إلى النّظريات والمكتشفات العلمية الحديثة، لكنّهم انطلقوا من منطلقات علمانية، ووضعوا الإسلام في قفص الاتّهام وفي موقع المُدان الذي ينبغي له أن تُدفع عنه التّهم، وكثيرا ما كانوا يميلون إلى إنكار نصوص ثابتة لم يمكنهم التوفيق بينها وبين ما ظنّوه علما، وربّما استندوا إلى نظريات علمية لم تتحوّل إلى حقائق، بل إنّ من هؤلاء الدّعاة من ينسب إلى العلم ما ليس منه ويحاول جاهدا إيجاد ما يعضده من نصوص القرآن والسنّة! وهؤلاء كانوا في بدايتهم عونا لكثير من الشّباب في الاعتزاز بدينهم، لكنّهم أصبحوا فتنة بعد ذلك، حينما ظهرت كثير من أخطائهم التي أوقعهم فيها حماسهم وتسرّعهم. تلك الأخطاء التي شكّلت صيدا ثمينا للعلمانيين واللادينين.

في خضمّ هذا المكر وهذه الفوضى، لم تخل السّاحة الإسلاميّة من دعاة يقومون لله بالحقّ، ويدافعون عن الدين وأصوله بعلم وحكمة وحقّ؛ كانوا يعملون بعيدا عن الأضواء في ظلّ التّعتيم الإعلاميّ الذي فرض عليهم، لحساب دعاة العلمانية بمختلف توجّهاتهم، لكن ومع تزايد الإقبال على وسائل التواصل الاجتماعيّ، بدأ هؤلاء “الدّعاة الباحثون” يجتاحون المواقع ويستميلون الشّباب المتعطّشين إلى الحقّ على اختلاف مستوياتهم وتنوّع أفكارهم، وقد كان سلاحهم بعد توفيق الله سعة اطّلاعهم على كثير من التخصصات العلمية الحديثة، وتحرّيهم الدقّة في الاختيار والنّقل.

على الرّغم من استفادة دعاة العلمانية من جهود الدّعاة التقليديين وكثير من الدّعاة الجدد، في علمنة الصحوة، إلا أنّهم –أي العلمانيين- ظلّوا يسخرون من هذا الصّنف من الدّعاة الذين لا يملك أكثرهم أدنى معرفة بالعلوم الحديثة، لكنّ فرحة العلمانيين لم تكتمل مع شيوع الإعلام البديل وبزوغ نجم هذا الصنف من الدّعاة الذي لم يحسب له العلمانيون حسابا، قلب عليهم الطّاولة وأربك حساباتهم وردّ أسلحتهم إلى نحورهم.. كان دعاة العلمنة والإلحاد يتشدّقون ببعض المصطلحات العلمية في نرجسية فارغة، ويزعمون أنّ تطوّر العلم كفيل بتحييد الدّين ووضعه في المتحف، لكنّ هؤلاء الدّعاة الباحثين الذين يحمل أكثرهم شهادات عليا في مختلف التخصّصات، هدّموا هذه المقولة الكاذبة وأبانوا زيفها وأثبتوا أنّ العلم يؤكّد حقائق الدّين، بل ويخدمه.

أنشأ الدّعاة الباحثون صفحات كثيرة على مختلف مواقع التواصل الاجتماعيّ لمقارعة الإلحاد والعلمانية ولطرح قضايا الدّين بأسلوب سلس وجذّاب، من أشهرها صفحة “الباحثون المسلمون” وصفحة “العلم يؤكّد الدّين”، وألفوا كتبا كثيرة في فضح الإلحاد والعلمانية وبيان هشاشتهما وتهافتهما، شكلّت قنابل صوتية في الأوساط العلمانية والإلحادية.

عندما تتابع ما ينشره هؤلاء الدّعاة الباحثون، في دحر الشّبهات وتأصيل الحقائق وتحرير المفاهيم، بكلّ ثقة وقوة، مستندين إلى حقائق العلم، وتتابعهم وهم يروغون على أصنام العلمانية والمادية ضربا باليمين، تقف على مصداق من مصاديق قول الله تعالى: ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون))، وقول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: “لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم في طاعته” (السلسلة الصحيحة)، وتدرك معنى أن يوفق الله عبدا من عباده ويستعمله في نصرة دينه.

(المصدر: بوابة الشروق الالكترونية)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى