مقالاتمقالات مختارة

الدين والوحي والنبوة من منظور الحداثيين العرب

الدين والوحي والنبوة من منظور الحداثيين العرب

بقلم فاطمة حافظ

شُغل العقل الحداثي العربي في الثلث الأخير من القرن الماضي بإعادة تنظيم خارطة اهتماماته وأولوياته المعرفية وأسفر ذلك عن تمحور جل المشروعات الفكرية للمفكرين الحداثيين حول بحث الظاهرة الدينية وإعادة تأويلها، واتخذ ذلك طرائق عدة منها: إعادة تأويل النص القرآني، ونزع القداسة عن النص الحديثي والتشكيك في المدونات الحديثية، وتفكيك المنظومة الفقهية.

وهذا الاهتمام المفاجئ بالظاهرة الدينية يغاير مسلك الآباء العلمانيين الذين كرسوا جهودهم لتكريس قيم الحداثة، والترويج للعلم بحسبانه قادرًا على تقديم تفسيرات لماهية الوجود تضاد التفسيرات الدينية، ولم يعبأوا قليلًا أو كثيرًا بمقاربة الدين وادعاء تجديد المعرفة به، وربما أمكن تعليل ذلك على ضوء إخفاق المشروع السياسي لدولة ما بعد الاستعمار، وعودة المظاهر الدينية إلى الظهور في أعقاب هزيمة 1967 ومعهما أدرك العقل الحداثي أن نشر قيم الحداثة والعلمانية يستلزم إقصاء القيم الدينية أو على الأقل إعادة تأسيسها على أرضية حداثية.

وينصرف جهدنا في هذا البحث إلى فحص كيفية تعاطي الحداثيين العرب مع المفاهيم المركزية المكونة للظاهرة الدينية وهي: الدين والوحي والنبوة، كيف يتم تعريفها وما محددات التعريف وخصائصه، وكيف تتبدى التصورات المعرفية من وراء هذه التعريفات؟ ولتحقيق هذا الغرض قمت بجمع بطائفة من هذه التعريفات من مصادرها الأصلية، وصنفتها وفقًا لمحددات التعريف وأدرجتها مع الاحتفاظ بالصيغ والتعبيرات الأصلية وعدم تبديلها أو تعديلها إلا في الحد الأدنى الضروري، وذلك حتى تظل معبرة بصدق عن آراء وأفكار أربابها.

وأروم من وراء ذلك تجميع الأجزاء المتناثرة التي تشكل في مجموعها خارطة التصور الحداثي للدين، والتدليل من خلالها أننا إزاء تصور جمعي للدين ولسنا أمام تصورات فردية تخص مفكر من دون غيره.

الدين وتعريفاته في المنظور الحداثي

ثمة عدد من التعريفات التي صاغها المفكرون الحداثيون في كتبهم لمفهوم الدين، وقد راعيت في استقصائها المعايير التالية: المعاصرة، حيث استبعدت تعريفات الآباء العلمانيين، والعودة إلى المصنفات الحداثية والنقل عنها من دون الاستناد إلى مصنفات وسيطة، والتعبير عن التوجهات المتباينة داخل المعسكر الحداثي، وتمثيل آراء المفكرين الحداثيين في الداخل والخارج. وبالإمكان تصنيف هذه التعريفات حسب العنصر أو المعلم الرئيس للتعريف على النحو التالي:

اللاعقلانية

وهي محدد رئيس من محددات المفهوم، ذلك أن الدين بما يتضمنه من أبعاد غيبية يُنعت بأنه أسطورة غير قابلة للتأويل العلمي[1]، وهو ما نستشفه مما ذهب إليه محمد أركون الذي ينظر إلى الدين بحسبانه «حالة نفسية» تدفع المرء إلى وضع ثقته في شيء ما، أما من حيث التعريف فهو «الانتساب الفكري إلى عقيدة ما دون البحث عن أسباب هذا الانتساب أو صلاحيته، إنه انتساب عفوي بلا روية أو تفكير، انتساب عاطفي لا يتم عن طريق الرأس أو العقل، وعلى الرغم من أن الاعتقاد موقف أساسي لكل المبادرات البشرية فإنه يتخذ مكانة أكبر في حالة التعاليم الدينية، فلا تطلب الأديان من أتباعها الانتساب إلى شخصيات ووقائع خارجة عن حدود كل ضبط عقلاني، وإنما تفرض عليهم أيضًا رفض القيم والرموز والتأويلات المضادة»[2].

وتفضي اللاعقلانية إلى موضعة الدين خارج ميدان البحث والبرهان كما يفترض محمد عابد الجابري[3]، ووضعه في وضع المواجهة الدائمة مع العلم وكشوفه، وهذه المواجهة حتمية وأي محاولة للتخفيف منها هي محاولة يائسة كما يعتقد صادق جلال العظم لسببين الأول: أن الدين- وخصوصاً الإسلام- يحوي «آراء ومعتقدات تشكل جزءًا لا يتجزأ منه عن نشوء الكون وتركيبه وطبيعته، عن تاريخ الإنسان وأصله وحياته خلال العصور، وليس من الضروري أن نشدد على أن هذه الآراء تتعارض تعارضًا واضحًا وصارخًا مع معلوماتنا العلمية عن هذه الموضوعات»، والثاني: أن كلًا منهما «يحاول أن يفسر الأحداث ويحدد الأسباب، إن الدين بديل خيالي عن العلم، ولكن تنشأ المشكلة عندما يدعي الدين لنفسه ولمعتقداته نوعًا من الصدق لا يمكن لأي بديل خيالي أن يتصف به»[4].

التاريخانية

إذا كان الدين عند أركون حالة وجدانية وفكرية تستعصي على التعليل المنطقي، فإنه لدى القطاع الأكبر من المفكرين منتج تاريخي ليس له أصل إلهي أو في أفضل الأحوال ضعيف الصلة بالأصل الإلهي، فها هو سمير أمين يصفه بأنه «ظاهرة تاريخية تخص شعوبًا معينة في عصور معينة»، وبالتالي فهي تخضع لقوانين التاريخ وسنن التطور[5]، ومثله تعريف حسين مروة الذي يرى في الدين انعكاسًا للعلاقات الاجتماعية بين البشر، ومن الخطأ لديه تفسير ظهور هذا الدين أو ذاك باعتباره «حدثًا منفصلًا عن مجاري الحياة البشرية العينية على الأرض… ذلك أن كل دين ظهر في التاريخ كانت له جذوره الاجتماعية في الجانب الذي ظهر فيه من الأرض، وكانت له بالقدر نفسه جذوره المعرفية المتصلة بالواقع البشري»[6].

ويعضدهما وليم الشريف الذي لا يجد غضاضة في القول، «إن الدين ضار وسلطوي، ولا يستطيع أن يحل كل مشاكلنا الإنسانية، إن الكتاب المقدس والمصحف القرآني كتابان تاريخيان، لأنهما تموضعا وظهرا في تاريخ إنساني خاص، ومن ثم لا يستطيع المرء أن يضخم دورهما الموضوعي ويزعم أن فيهما حلولًا لكل مشاكلنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والنفسية والبيئية»[7].

هذه التاريخية لا تبقي على أي أثر إلهي للدين، وعلى سبيل المثال: «المسيحية ليست دين الله، وإنما هي بالخصوص تمثيل تاريخي لمجموعات وتأويلات دينية، إنه لمن المثير أن تلاحظ أنه رغم أن عناوين الأناجيل تنسب إلى مؤلفين إنسانيين: إنجيل متى، إنجيل مرقس… فإن كثيرًا من المسيحيين يتكلمون عن هذه الأناجيل التاريخية وكأنها كلمة الله الموحاة وكشيء فوق طبيعي»[8].

الارتدادية والنكوص

وهو محدد آخر تركز عليه بعض التعريفات على نحو ما نجده لدى صادق جلال العظم الذي ينظر إلى الدين باعتباره «مجموعة من المعتقدات والشعائر والطقوس التي تحيط بالإنسان إحاطة شبه كاملة … والدين بطبيعة عقائده المحددة ثابت ساكن يعيش في الحقائق الأزلية وينظر إلى الوراء ليستلهم مهده، ولذلك كان يشكل دائمًا التبرير الميتافيزيقي والغيبي للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية القائمة، وكان ولا يزال يشكل أحصن قلعة ضد الذين يبذلون الجهود لتغيير هذه الأوضاع تغييرًا ثوريًا»[9].

ويتفق معه نصر حامد أبو زيد الذي يرى أن كل الأديان «تؤمن بأن العالم يرجع في وجوده إلى علة أولى أو مبدأ أول، والخطاب الديني هو الذي يقوم بتفسير كل الظواهر الطبيعية والاجتماعية بردها جميعا إلى هذا المبدأ الأول، إنه يقوم بإحلال الله في الواقع العيني المباشر ويرد إليه كل ما يقع فيه، وفي هذا الإحلال يتم تلقائيًا نفي الإنسان، كما يتم إلغاء القوانين الطبيعية والاجتماعية، وفي هذا الخطاب وبفضل هذه الآلية تبدو أجزاء العالم مشتتة وتبدو الطبيعة مبعثرة إلا من الخيط الذي يشد كل جزء من العالم والطبيعة إلى الخالق والمبدع الأول»[10].

الثنائية الحدية

بعض التعريفات تنظر إلى الدين بوصفه ثنائية مغلقة وهو ما نجده في تعريف عزيز العظمة «فالدين في أساسه فصل بين المقدس والمدنس في تصنيف أساسه التغاير المطلق، وقوامه اكتفاؤه المطلق بذاته… وليس ثمة دين يخرج في أساسه عن هذا الفصل المطلق، وليس ثمة دين لا يحتوي على هذا الفصل كأصل له وكعنصر يدخل في كل أحواله وأدواره»[11].

وعلى ذات النهج يرىأدونيس في الدين ثنائية مختزلة فهو يضع «الآخرة مقابل الدنيا أو الغيب مقابل الطبيعة، وهو في ذلك يفصل الفكر والواقع، كما يفصل بين النفس والجسم، هناك بدئيًا اغتراب مزدوج الفكر مغترب عن الواقع، والواقع مغترب عن الفكر»[12]، ويتابعهما إلياس مرقص بالقول «دين الله الواحد أقام ماهيتين أو جوهرين، المادة والروح، المادة الفانية والروح الأزلية.. دين الله الواحد غلَب الروح على المادة.. دين الإله الواحد نسب الخير للإله والشر للإنسان»[13].

الإقصائية

يذهب فريق من المفكرين إلى أن الدين أداة تمييز وإقصاء بين البشر، وحول هذا المعنى يعتقد أدونيس أن «الدين لا يوحد بين الإنسان والإنسان بل على العكس يفرق بينهما، أما الذي يوحد بينهما فهو العقل، لابد إذن من إزالة الدين من المجتمع وإقامة العقل، والإزالة هنا لا تقتصر على الدولة أو الدين العام، بل يجب أن يزال الدين الخاص أيضًا، أي دين الفرد ذاته»[14] ويشاطره الرأي إلياس مرقص الذي يعتقد أن الدين تحول إلى «هوية فرقية» تميز بين البشر بحسب معتقداتهم الدينية ولا توحد بينهم[15].

الوصائية

وهو التعريف الأخير الذي يمكن أن نختم به هذه الطائفة من التعريفات للدين، وفيه يذهب ناصيف نصار إلى أن الدين «ينزع إلى اعتبار الإنسانية كلها وبالتالي دولها ومجتمعاتها في حالة قصور ويؤسس على هذا الاعتبار حقه في السيطرة على شئون المجتمعات البشرية وتوجيهها في المبادئ العامة إن لم يكن في التفاصيل أو في الأحوال الفردية، تلك هي وصاية الدين على المجتمع».[16]

يبدو من خلال التعريفات السالفة مدى اهتمام المفكرين الحداثيين بمحاولة إعادة تعريف الدين على أسس جديدة تقطع مع التعريف التراثي له بأنه (وضع إلهي سائق لذوي العقول السليمة باختيارهم إلى الصلاح في الحال، والفلاح في المآل)، وهذه التعريفات ثمة عناصر تجمعها وأخرى تباعد بينها.

أما ما يجمعها فهو تغليب الأبعاد المادية على الروحية وفصل الدين عن أصله الإلهي، ونفي صفة الهداية عنه واستبعاد غايته الإصلاحية الفردية والجمعية، وهي العناصر التي تأسس عليها التعريف التراثي، كما أن جميع التعريفات محملة بالمدلولات السلبية: اللاعقلانية والإقصاء والوصائية والارتداد الفكري، وهي أيضًا تجمع على كون الدين ضار أو على الأقل عديم الفاعلية في الحياة المعاصرة وأن العلمانية هي البديل لإنشاء إنسان فاعل أو مجتمع منتج متسق مع قيم العصر.

لكنها مع هذا تتفاوت هذه التعريفات فيما بينها من جهات؛ أولها اختلاف مداخل التعريف، فثمة تعريفات تركز على تاريخانية الدين، وأخرى على نكوصيته الفكرية، وثالثة على تكريسه الانقسام والتمييز بين البشر على أسس عقائدية مما يحول دون تحقق المساواة الكاملة والمواطنة. غير أن هذه المداخل المتفاوتة تشكل محددات المفهوم لدى الحداثيين فهو تاريخاني، إقصائي، نكوصي.

وثمة تفاوت آخر نجده في درجة التطرف والعنف فهناك تعريفات تتسم بالعنف كتعريف الشريف وليم وأخرى أقل عنفًا، وأخيرًا هناك تفاوت نسبي في كيفية التعامل مع الدين هل يتم استئصاله تمامًا كما يبتغي أركون أم يمكن الإبقاء عليه بعد تنقيته من الغيبيات حسبما يصبو نصر حامد أبو زيد، وهو ما يفتح المجال للنظر في مفهومي الوحي والنبوة اللذين شغلا بهما المفكرون الحداثيون، ولن نعالجهما على حدة لأنهما متلازمان ويتعذر الفصل بينهما، فالنبي هو متلقي الوحي ومبلغه، وسأكتفي هنا ببسط بعض الآراء التأسيسية في هذا المجال، ومنها يمكن استشفاف معالم التصور الحداثي للوحي وخصائصه وغاياته.

الوحي والنبوة: مقاربة مفهومية

يفترض محمد عابد الجابري أن مفهوم الوحي كان غائبًا عن معهود العرب اللغوي والثقافي قبل الإسلام، فإذا ما نظرنا إلى المعاجم وجدنا أنه يعني: الإشارة والكتابة والرسالة والإلهام والكلام الخفي وكل ما ألقيته إلى غيرك، وهو ينصرف إلى ثلاثة مستويات: مستوى الإلهام أو التسخير للجماد والإنسان من مثل قوله تعالى «وأوحي في كل سماء أمرها»، أو قوله «وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه»، ومستوى الكلام من وراء حجاب كما هو الحال مع موسى «وكلم الله موسى تكليمًا» ويدخل ضمن هذا أيضًا من معهود العرب الكهانة والسحر والعرافة وما شابه ذلك، ومستوى إرسال رسول خاص هو جبريل إلى الإنسان الذي اختاره الله رسولًا للبشر، وهذا ما لم يكن في معهود العرب ولم يكونوا يعلمونه بواسطة أهل الكتاب لأن مفهوم الوحي عند هؤلاء غير مفهوم الوحي في الإسلام[17].

أما نصر أبو زيد الذي تعمق في دراسة مفهوم الوحي في كتابه «مفهوم النص»، فيرى أن الوحي ما هو إلا عملية اتصال ترميزية تعبر عن نظام لغوي بين مرسِل هو الله، سبحانه وتعالى، ومستقبِل هو النبي، صلوات الله عليه، وهنا يثور تساؤل حول كيفية حدوث الاتصال بينهما وهما من مرتبة وجودية مختلفة، وهو يجيب عليه بمنهجية مزدوجة لسانية- أدبية لأن النص «في حقيقته وجوهره منتج ثقافي… تشكل في الواقع والثقافة خلال فترة تزيد على العشرين عامًا»[18] ذاهبًا إلى أن عرب ما قبل الإسلام تصوروا إمكان حدوث اتصال بين عوالم الكون المختلفة صعودًا وهبوطًا، وهذا الاتصال لم يقتصر على الأنبياء وإنما شمل الكهان والشعراء، «والفارق بين اتصال النبي بالملأ الأعلى والكاهن، أن اتصال النبي قائم على نوع من الفطرة والخلقة أساسها الاصطفاء الإلهي، بينما يحتاج الكاهن إلى آلات وأدوات مساعدة تعينه على التخلص جزئيًا من عوائق العالم المادي والاتصال بما وراء العوالم»[19].

وهكذا تغدو النبوة لديه درجة عالية من درجات التخيل الناشئة عن قوة المخيلة الإنسانية التي تجمع النبي بالشاعر بالكاهن، والفارق بينهم ليس إلا فرقًا في الدرجة- أي في قوة المخيلة- لا في النوع، فالنبي يأتي في المقدمة يليه الكاهن أو العارف ثم الشاعر في نهاية الترتيب.

ويفترض أبو زيد أن الاتصال حال الوحي بالنص هو أعقد هذه الاتصالات، وأن هناك مرحلتين للوحي مر بهما النبي، صلى الله عليه وسلم؛ مرحلة الشدة والغط والتحول من جانب النبي، وهي تشبه الرؤيا حيث يتلقى النبي من الملك المرسل رسالة ذات شفرة خاصة يحولها النبي بعد ذلك إلى رسالة لغوية، لكن حالة الألفة والتعود جعلت الوحي ممكنًا في حالة اليقظة بالكلام اللغوي العادي المجرد من الشفرة.

هذا الفهم لظاهرة الرؤيا- كما يقول- على أنها اتصال بين النفس وعالم الروح من شأنه دعم ظاهرة النبوة بالاستناد إلى بعض المعطيات المشتركة بين البشر «وفي هذا التصور لا تكون النبوة ظاهرة فوقية مفارقة بل تصبح ظاهرة قابلة للفهم والاستيعاب، ويمكن أن يفهم «الانسلاخ» أو «الانخلاع» في ظل هذا التصور أنه حالة خاصة، أو حالة من حالات الفعالية الخلاقة»[20] وعند هذه الجزئية ينبغي لنا التوقف لنبين مسألتين على قدر من الأهمية فيما طرحه أبو زيد.

الأولى: تلميحه أن الوحي في مرحلته الأولى كان وحيًا بالمعنى دون اللفظ، واقعًا بذلك في فخ التناقض المنهجي لأنه صرح في القسم المخصص للمنهج من كتابه؛ بأن النص وإن كان منتجًا ثقافيًا إلا أن له أصلًا إلهيًا، وأنه تم باللفظ والمعنى معًا من دون فصل لأحدهما عن الآخر.

والمسألة الثانية: تغليب الأيديولوجي على المعرفي، فقد غدت النبوة وفقًا لأيديولوجيته الماركسية منتمية إلى البنى الفوقية التي في موقع جدلي مع البنى التحتية ممثلة في الكهانة والعرافة، ومعلوم أن البناء الفوقي يتغير في حال طال البناء التحتي أي تغيير، ومن ثم أصبح وجود النبوة مرتهنًا بوجود الكهانة والعرافة، قاصدًا بذلك نفي صفة التعالي عنها وإنزالها إلى الواقع التاريخي وربطها بتحولات الثقافة[21].

وليست مقاربة أبو زيد فريدة في مجالها، فهنالك مقاربة محمد أركون، ويمكن إيجازها في النقاط التالية:

  • اعتبار الوحي «ظاهرة لغوية» ينبغي التعامل معها وفقًا لمناهج اللغة، وإقصاء التعريفات العقدية بوصفها بنى لاهوتية تيولوجية.
  • المماهاة بين الوحي والنبوة؛ بل يجمح به الشطط حد تعريفه الوحي بأنه: «خطاب نبوي ذو بنية أسطورية وتحويلية رمزية»[22]، أما عن النبي محمد فقد تضخمت سيرته وبولغ في دوره الديني عبر العصور، وتحديدًا منذ كتب ابن إسحاق سيرته وتابع كُتاب السيرة تضخيمها واحدًا تلو آخر.
  • التمييز بين مستويين للوحي؛ مستوى التفجر الأوليّ؛ أي لحظة نزول الوحي وتشكله، ومستوى تحول الوحي إلى أيديولوجيا تصبغ المشروعية على السلطة، وهي لحظة الاكتمال والتبلور.
  • اعتبار الوحي لحظة ممتدة في التاريخ لا تفنى وتظل باقية ما بقي التاريخ، وهو بهذا المعنى ليس قاصرًا على الأنبياء، وإنما يمكن القول إن كبار المفكرين يمثلون لحظة الوحي كما جسدها الأنبياء[23]، فهو يمتد ليستوعب «بوذا وكونفوشيوس والحكماء الأفارقة وكل الأصوات الكبرى التي جسدت التجربة الجماعية لفئة بشرية ما من أجل إدخالها في قدر تاريخي جديد وإغناء التجربة البشرية عن الإلهي، إنه يستوعب كل ذلك ولا يقتصر على أديان الوحي التوحيدي»[24].

والوحي التوحيدي- خلافًا لوحي المفكرين والحكماء-ليس لحظة ممتدة متدفقة بالحياة بسبب اكتمال النبوة، لكنه تكلس وجمد في صيغة «المدونات النصية الرسمية المغلقة والناجزة التي تُدعى بشكل عام بالكتابات المقدسة أو كلام الله» وليس للمؤمنين أي منفذ على الوحي إلا من خلالها. وقد أفضى تدوين الوحي الشفهي وتحوله إلى نصوص مدونة إلى توليد ظاهرتين لهما آثار تاريخية وثقافية كما يعتقد أركون؛ الأولى، أنه وضع الشعوب المؤمنة بالكتب المقدسة في حالة تأويلية دائرية بمعنى أنها لا تنفك تؤول الكتب بحثا عن القوانين والمعايير الاجتماعية والخلقية، والثانية، أن هذا التفاعل الإنساني مع الكتب المقدسة عبر التأويل قد نزع عنها صفة التعالي وربما القداسة وجعلها منغرسة في التاريخ والواقع[25].

والحق أن ما مارسه أركون في مقاربته للوحي يعد حالة تفكيكية مثلى لا تتضمن أي وجه بنائي- خلافًا لأبو زيد الذي مع اختلافنا معه قدم أوليات منهجية يمكن التعامل معها نقديًا- فليس هناك استكشاف لمعنى جديد أو تجديد لمعنى قديم أو تشييد لعلاقة مع مفهوم آخر كل ما هناك هو تقويض للمعنى وخلع لأردية القداسة والتعالي عنه.

خصائص الوحي وغاياته

عبر هذه المقاربات يمكن استشفاف بضع خصائص تَسِم مفهوم الوحي وتميزه عن المقاربة الكلاسيكية[26]، وهي:

الألسنية

وتعني النظر والتعاطي مع الوحي بحسبانه خطابًا لغويًا منقطع الصلة عن الأصل الإلهي، ويفضي القول بذلك إلى نتيجتين لازمتين لا مناص منهما نجدهما لدى جميع المفكرين الحداثيين: الأولى نزع القداسة عن النص بوصفه نصًا لا يختلف عن أي نص آخر، والثانية إخضاعه لمناهج وقواعد النقد الفيلولوجي التاريخي التي تم تطبيقها على الكتب المقدسة الأخرى كما ذهب أركون.

الأنسنة

وإذا كان الوحي خطابًا لغويًا فهو بالضرورة خطابُ إنساني محدود غير مطلق ولا متعال، وهذه العلاقة بين الوحي والأنسنة يجليها علي حرب بالقول: «إن الوحي الإسلامي نطق به نبي عربي بمقتضى لسان العرب، أي بحسب ترتيبهم لوجوه الكلام وطريقتهم في إنتاج المعنى واستخدام الدلالة، فهو إذن خطاب عربي، فضلًا عن حيثياته أو بالأحرى إحداثياته- أي أسباب نزوله- تحيل دومًا إلى أحداث تقع في التاريخ وإلى ذوات مشدودة إلى الزمان والمكان، من هنا إناسية الوحي وزمنيته، وهو يدعي أن المفسرين تعاملوا معه على هذا الأساس حين توسلوا باللغة لفهم مراد النص، فكأن المعيار بالنسبة لهم نحوي بياني، وهو بهذا المعنى إناسي لأنه يختص بثقافة قوم من الأقوام ولغتهم ورؤيتهم للعالم»[27].

التاريخانية

وهي سمة ملازمة للمفهوم، إذ الوحي منغرس في التاريخ لا يتجاوزه إلى أفق ميتافيزيقي غير منظور، ويعبر أدونيس عن الطابع التاريخاني للوحي بقوله، «إذا افترضنا أن الدين خاتمة المعرفة ونهاية الكمال، فذلك يعني أنه لا يمكن أن ينشأ في المستقبل ما لم يكن متضمنًا فيه؛ فالوحي تأسيس للزمن والتاريخ أو هو الزمن والتاريخ، وهو الزمان كله ماضيه وحاضره ومستقبله، وبهذا المعنى يستحيل أن يكشف المستقبل عما يتجاوز الوحي، بل هو مجرد حفظ واسترجاع»[28].

النسبية

وهي سمة من سمات الوحي التي تتحقق عبر الآلية التأويلية، فالقرآن بحسب محمد أركون «ذو لغة مجازية عالية ككل الكتب الدينية، كان ينفتح منذ البداية على عدة تأويلات أو عدة تجسيدات تاريخية، وبالتالي ليس هناك إسلام صحيح وإسلام خاطئ»[29].

وليس هناك ما يمكن أن يحد من الأفق التأويلي لأن النص القرآني «نص مفتوح على جميع المعاني»، ويشاطره الاعتقاد علي حرب الذي يذهب إلى أن سر القرآن ومكمن إعجازه هو أنه «ينفتح على كل معنى، بحيث يمكن أن تتمرأى فيه كل الذوات وتقرأ فيه مختلف الشرائع والعقائد»[30]، وهو بهذا المعنى نص نسبوي فضلًا عن كونه لا يتمتع بأي خصوصية اللهم إلا الخصوصية اللغوية.

هذا عن خصائص المفهوم، أما عن غاياته ومقاصده فقد أصابها هي الأخرى التبدل، حيث تم إقصاء المقصد الهدائي العقدي واستبداله بآخر تاريخاني وضعي، وهذا التبدل يعبر عنه حسن حنفي الذي يجمح به القول إلى أنه ليس مقصودًا من الوحي إثبات مطلق غني لا يحتاج إلى الغير، بل المقصود منه تطوير الواقع في اللحظة التاريخية التي نمر بها، والتي تحتاج إلى التطور، مضيفًا أن التراث القديم قد غرق في الإثبات لأنه كان موضع شك من الأقوام المجاورة، أما وقد ترسخت الفكرة فليس هنالك حاجة إلى ذلك الآن، فلتكن الغاية تطوير الفكر والواقع[31].

مما سبق يبدو أننا لسنا بصدد مقاربات فردية متناثرة، وإنما إزاء مشروع معرفي متكامل ينهض به المفكرون الحداثيون في التعامل مع المفاهيم الإسلامية التأسيسية، كل منهم ينهض بمدخل معين وتتكامل المداخل وتتضافر مكونة مشروعًا فكريًا متكاملًا، ويبلغ التكامل حدًا مدهشًا؛ فما يضمره كاتب يفصح عنه آخر، وما يجمله أحدهم يبينه آخر، حتى يبدو في نهاية المطاف وكأننا إزاء مشروع نهض به مفكر واحد.

وعلى صعيد آخر يمكن ملاحظة أن المشروع الحداثي وإن اكتسى بطابع معرفي وتوسل بالأدوات والمناهج العلمية إلا أنه في جوهره مشروع أيديولوجي يروم إلى تفكيك المفاهيم الإسلامية وتفريغها من مضامينها المعرفية واستبدالها بمضامين مُعلمنة لا تمت لها بصلة، وهذا الطابع الأيديولوجي نجده في أجلى وأكمل صوره لدى نصر حامد أبو زيد في مقدمته لكتاب «مفهوم النص»، وفي كتابات محمد أركون وعلي حرب.

_______________________________________________________

المراجع
  1. نصر حامد أبو زيد، نقد الخطاب الديني، القاهرة: سينا للنشر، 1992، ص 9.
  2. محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني، ترجمة هاشم صالح، بيروت: دار الطليعة، 1998، ص 219.
  3. محمد عابد الجابري، مدخل إلى القرآن الكريم، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2006، ج 1، ص 22.
  4. صادق جلال العظم، نقد الفكر الديني، بيروت: دار الطليعة، ص 22-24.
  5. سمير أمين، بعض قضايا للمستقبل، القاهرة: مكتبة مدبولي، 1991، ص 142.
  6. حسين مروة، النزعات المادية في الفلسفة العربية، بيروت: دار الفارابي،1/ 304.
  7. وليم الشريف، المسيحية، الإسلام، والنقد العلماني، بيروت: دار الطليعة، ص 17.
  8. نفس المرجع السابق، ص 57.
  9. صادق جلال العظم، نقد الفكر الديني، بيروت: دار الطليعة، 1972، ص 23.
  10. نصر حامد أبو زيد، نقد الخطاب الديني، ص 32.
  11. عزيز العظمة، التراث بين السلطان والتاريخ، بيروت: دار الطليعة، 1990، ص 100.
  12. علي أحمد سعيد (أدونيس)، الثابت والمتحول، بيروت: دار العودة، 1972، ج1، ص 94.
  13. إلياس مرقص، نقد العقلانية العربية، دمشق: دار الحصاد، 1997، ص 111.
  14. علي أحمد سعيد، الثابت والمتحول، 90/1.
  15. إلياس مرقص، نقد العقلانية العربية، ص768.
  16.  ناصيف نصار، مطارحات للعقل الملتزم، بيروت: دار الطليعة، 1986، ص 220.
  17. محمد عابد الجابري، المدخل إلى القرآن الكريم، ج 1، ص 112-113.
  18. نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1990، ص 27.
  19. مفهوم النص، ص 42.
  20. مفهوم النص، ص 56-59.
  21. إلياس قويسم، تشتّت النص القرآني بين الثقافة التقليديّة والحداثة العلميّة، الملتقى الفكري للإبداع، 2008.
  22. محمد أركون، من فيصل التفرقة إلى فصل المقال، ترجمة هاشم صالح، بيروت: دار الساقي، 1993، ص 91.
  23. من فيصل التفرقة إلى فصل المقال، ص 106.
  24. محمد أركون، الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد، ص 84.
  25. الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، ص 77-87.
  26. للتعرف على الرؤية الكلاسيكية يمكن الرجوع إلى كتاب (الوحي المحمدي) لمحمد رشيد رضا، وكتاب

المصدر: موقع إضاءات

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى