الديلمي العالم النجم بقية السلف
بقلم علي فتيني
“منقبة أدب العلم وحسن السمت”
لقد مثّل رحيل شيخنا سماحة العلامة القدوة الوقور بقية السلف الصالح العالم الرباني و النجم اليماني العلامة الدكتور عبدالوهاب الديلمي رحمه الله إلى الدار الآخرة فاجعة كبيرة على اليمن والأمة عامة وعلى قلوب العلماء والدعاة وطلاب العلم خاصة ، وقد كان فقده بحق بمثابة الخطب الجلل الذي لا يتحمله المحبون لولا صدق الإيمان والرضى واليقين بقدر الله وقضاياه في الآجال ، ولم يكن أفضل عزاء وأعظم تسلية أمام هذا المصاب الأليم إلا أن نقول: إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا على فراقك يا شيخنا وحبيب قلوبنا لمحزونون ولا نقول إلا ما يرضي ربنا تعالى.
ومن أفضل ما قيل شعرًا في المصاب الكبير قصيدة رثاء لفضيلة شيخنا العلامة محمد علي عجلان ومما قال فيها حفظه الله:
رحيلُكَ خطبٌ أذهب العقلَ والقلبَا ** ورزا مصابٍ روَّعَ الشرقَ والغربَا
وأجرى دموعَ العين حزناً ولوعةً ** وكدَّر صفوَ العيش من هولِ ما صبَّا
وأفقدنا رمزاً كبيراً وعالماً جليلاً ** وأستاذاً أنار لنا الدَّرباَ
وداعيةً فذًّا وشيخاً محقِّقاً ** وقدوةَ جيلٍ ليتهُ ما قضى نحْباَ
وشيخاً وقوراً عارفاً متبحراً ** وروحاً لطيفاً كالنسيمِ اذا هبَّا
وقد رثاه الكثير من الشعراء وبكاه كل من عرفه وانتشرت التعازي في كل المواقع الإعلامية الخاصة والعامة مما يدل على مكانته في الأمة وعظيم الخسارة بفقده رفع الله قدره في الدارين.
والحقيقة أننا ودعنا شخصية عظيمة وعالما متميزا وفريدا قل نظيره في عصرنا، بشهادة من عرفه وعاشره وتتلمذ على يده ولست مبالغا لو قلت أنه من العلماء القلائل الذين يصدق عليهم أن يقال عنهم:
بقية السلف الصالح ، ويندر أن يجود بمثله الزمان ، وما رأت العين مثله، وشحت جامعات ومدارس العلم في عصرنا أن تخرج نظيره، وعسُر على الأساتذة والمربين أن يصنعوا أمثاله إلا أن يشاء الله، وفي كل العلماء خير ورحم الأمة ولادة وفي الله الأمل والثقة على كل حال.
* نجومية العلماء:
انتشر في عصرنا وصف ” النجم ” على المشهورين في الفن والرياضة وغيرها ، بينما النجومية الحقة هي نجومية أهل العلم والدعوة والصلاح والخير وينبغي أن نعيد الألقاب التي اختطفت إلى أصحابها المستحقين لها ، والمؤثرين في الأمة بصفاتهم الجادة والنافعة.
في هذا المقام أذكر بأن لقب “النجم” أطلقه العلماء على بعضهم من العصور الأولى ومن ذلك إطلاقه على الإمام مالك رحمه الله.
يقول الإمام الشافعي في وصف الإمام مالك: “إذا ذكر العلماء فمالك النجم ، ولم يبلغ أحد في العلم مبلغ مالك لحفظه وإتقانه وصيانته”.
ويحق لنا اليوم أن نطلق هذا اللقب على شيخنا الديلمي رحمه الله فقد كان بحق نجما مضيئا في سماء العلم والأدب يستضاء به وإماما كبيرا في الصفتين يقتدى به.
مقصودي: والذي أود أن أوضحه هنا أنني لا أقصد سرد ميزاته ومناقبه ولا الإحاطة بكل جوانب شخصيته، وأشعر بالهيبة أمام هذه القامة العلمية والتربوية والبحر الذي لايدرك عمقه وساحله لشخص مثلي.
كما أني لست بصدد الحديث عن تبحره في العلوم وتمكنه وإتقانه وهو العالم المتفنن المحقق ، فهناك من هو اقذر مني وأفضل بيانا لذلك ، وأقصى ما أقدمه هنا مجرد مشاركة متواضعة في نشر محاسن شيخنا من باب الوفاء له وأداء نزر يسير من الواجب نحو فضله علي ، إضافة إلى مقصد نشر العبر والدروس من سيرة العلماء للاقتداء بهم ونشر فضائل الصالحين وجميل ذكرهم ، وسوف أخصص كلامي هنا عن خصلة ومنقبة واحدة فقط هي من أجل وأجمل خصال ومناقب شيخنا التي عرفت عنه ولاحظها كل من اقترب منه ، ولقد كان لها الأثر الكبير على نفسي وكنت من أشد المعجبين بها كوني أحد الطلاب الذين تشرفوا بالتتلمذ على يده ، ونحن بحاجة ماسة للتذكير بها في محيط أهل العلم وحملة الشريعة لندرتها ، والسعي لغرسها وبنائها.
هذه المنقبة من مناقب العلماء هي: أدب العلم والسمت الحسن
مكانتها عند السلف: المتتبع لسيرة السلف الصالح يلاحظ بوضوح أن ميزة أدب العلم وسمته لها مكانة خاصة واعتبار كبير، ولذلك كانوا يعتبرونها معيارا مهما في التقييم ، وكلما كانت أكثر ظهورا في أحدهم كلما كان الإجلال له أكبر وتأثيره أعظم ، ويقدم صاحبها قدوة لهم وبينهم قبل غيره حتى في حال كونه أقل علما من غيره ، فقد كان أدب العلم وسمته مقدما على العلم ذاته عندهم ، ويعتبر من أهم مظاهر التطبيق العملي للعلم.
ومن ذلك ما ذكرنا سابقا من نجومية الإمام مالك رحمه الله وقد كان أدبه من أجل صور هذه النجومية وقد روي أن عبد الله بن وهب رحمه الله قال عنه: ” ما تعلَّمنا من أدبِ مالك أكثر مما تعلّمنا من علمه”.
والإمام أحمد ممن تميز بهذه الصفة أيضا حتى قالوا عنه: “كان يجتمع له في مجلسه زهاء خمسة آلاف وكان منهم حوالي خمسمائة يكتبون، والباقي يتعلمون منه حسن الأدب وحسن السمت”.
ومن جميل ما ورد في الحث على أدب العلم وسمته ما قاله الإمام ابن عبد البر – رحمه الله – في كتابه “جامع بيان العلم وفضله” وأقتطع منه ما يدل على المقصود حيث يقول: “وأحسن ما رأيت في آداب التعلم والتفقه من النظم ما ينسب إلى اللؤلؤ من الرجز وبعضهم ينسبه إلى المأمون، وقد رأيت إيراد ما ذكر من ذلك لحسنه، ولما رجوت من النفع به لمن طالع كتابي هذا نفعنا الله وإياه به، قال: “فالتمس العلم وأجمل في الطلب ، والعلـم لا يحــسن إلا بالأدب ، والأدب النـــافع حسـن السمت ، وفي كثير القـول بعض المقــت ، فكن لحسن السمت ما حييتا ، مــقارفـًا تحــمد ما بقيـتا ….”.
مظاهر نجومية الديلمي في الأدب وحسن السمت:
سوف أذكر هنا بإيجاز بعض المظاهر التي تميز فيها شيخنا رحمه الله ، والتي لاحظتها وغيري الكثير وهي دلالات واضحة على أن له القِدْح المُعلَّى في أدب العلم وحسن السمت.
المظهر الأول “هيبة ووقار العلماء”: كان عددنا في قاعة الدرس في جامعة الإيمان بين 400-500 طالب وكانت القاعة مزدحمة ويسمع كل حركة وهمس ولا تخلو محاضرة من ذلك باستثناء محاضرات شيخين جليلين وهما:
شيخنا الدكتور عبد الوهاب الديلمي
وشيخنا الدكتور عبد الكريم زيدان
وبهذه المناسبة أقول أني لم أكن أشبه الشيخ الديلمي إلا بالشيخ زيدان في الهيبة والوقار رحمهما الله جميعا.
فقد كانت القاعة يخيم عليها الهدوء والسكينة والصمت كأن على رؤوسنا الطير وسبحان الله الذي يهب من ذلك لمن يشاء.. ولم يكن ذلك عن خوف وإنما عن إجلال وحب لهذه الشخصية التي يجللها نور الوقار ويكسوها ثوب الهيبة والجلال ، ولن تجد رائيا له إلا ويُقذف في روعه الإجلال والهيبة لحضرته.
وقد كان بعض مجالس علماء السلف على هذا النحو ومن ذلك ما ذكر عن الإمام مالك الذي اشرت إليه سابقا حيث قالوا عنه: “كان مجلسه مجلس وقار وعلم ، وكان رجلا مهيبا نبيلا ، ليس في مجلسه شيء من المراء واللغط ، ولا رفع صوت ، واذا سُئل عن شيء فأجاب سائله لم يقل له من أين هذا”.
ومن الجدير هنا أن أذكر موقفا خاصا بي مع شيخنا قدس الله روحه، حيث مرت علي مسألة شخصية كنت حائرا فيها وشغلتني كثيرا لأيام وعانيت من همها أيما هم ، ورأيت أنني بحاجة إلى استفتاء واستشارة أحد مشايخي وبعد مرحلة تفكير في من هو الشيخ الذي أطرح عليه قضيتي؟! ، وبعد طول تفكير ومفاضلة قررت استشارة الدكتور الديلمي رغم أني كنت أخشى من شرح المسألة له على الوجه المطلوب من شدة هيبتي له ، لكن استخرت الله ومضيت بكل تصميم وجرأة!، بقي لي أن أختار الوقت المناسب للقاء الشيخ ورأيت أن الأفضل أن اختلي به في مكتبه الخاص – وقد كان مدير الجامعة – وبعيدا عن كثرة السائلين من الطلاب، اخترت الوقت المناسب في أوقات الراحة بين المحاضرات ، وذهبت إليه بخطوات ثقيلة وعقل مرتبك وقلب تسارعت نبضاته من أثر الهيبة ، وصلت إلى قريب باب مكتب الشيخ وترددت قدماي في السير!
وشعرت بالخوف أكثر وجف ريقي وتوقفت ولم أقوى على الدخول!
حقا لا أستطيع وصف حالتي المرتبكة ولا أشبهها إلا بأول مرة صليت بالناس إمامًا وصعدت فيها منبر الجمعة وعمري 15 سنة تقريبا!!
لكن كيف تعود لي هذه الحالة وعمري الآن 25 سنة تقريبا!!
على أية حال وليت راجعا إلى الخلف وحاولت أن آخذ نفسا وبذلت جهدي في تهدأة روعي لكن بلا فائدة! وأخيرا قررت تأخير اللقاء والسؤال ليوم آخر!!
لكن الحقيقة الذي حصل أني بقيت مترددا لأيام وما قويت على الذهاب للقائه إلا بعد فترة ، وصحيح أني تغلبت على نفسي ودخلت عليه بعد ذلك لكن كنت بحالة من الروع والارتباك ما لا يعلمه إلا الله!
كان الشيخ بطبيعته يستقبل كل داخل عليه من الطلاب بكل حفاوة وبشاشة ، وحاولت شرح قضيتي بشكل موجز قدر المستطاع ،
وكانت إجابته موجزة ونصيحته أبوية وكلماته دقيقة ومحسوبة ، إنه كعادته لا يكثر الكلام ولا يتقعر في الحديث لكنه ينثر الدرر الثمينة والجواهر المكنونة ، كان رده المختصر كافيا ، والحل الذي قدمه لي شافيا ، وكان على كلامه نور وفيه تأثير عجيب ، ولا أذكر أني بقيت معه أكثر من بضع دقائق معدودة ، أكثرها كان شرحي للقضية التي قدمت من أجلها، الحقيقة أنه عالم قدوة و مرب متميز ، شديد الدقة في الكلام والوقت رحمه الله.
وقد ذكر ابن رجب – رحمه الله تعالى – عن السلف أن ميزتهم عن غيرهم ممن بعدهم قلة كلامهم مع عظم فائدته حيث قال: (كلام السلف قليل كثير الفائدة ، وكلام الخلف كثير قليل الفائدة).
وعندما سئل أحد السابقين فقيل له: (ما بال كلام السلف انفع من كلامنا؟ قال: لأنهم تكلموا لعز الإسلام ، ونجاة النفوس ، ورضا الرحمن ، ونحن نتكلم لعز النفوس ، وطلب الدنيا ، ورضا الخلق). والله المستعان
المظهر الثاني “عزة وأنفة العلماء”: لاحظنا ولاحظ الكثير ممن عاشر الشيخ أكثر منا أن الشيخ يعرفه العلماء وطلاب العلم أكثر من غيرهم ، ومكانته عالية لديهم سواء في اليمن أو خارجها ، ومجالسه مجالس علم ودعوة وتربية ، وكان بعيدا عن الأضواء زاهدا في الظهور في الإعلام إلا ما ندر ، كما أنه لم يكن ممن يغشى مجالس الحكام والساسة ، ولا مجالس العامة التي لا طائل منها ، وكل ذلك من باب صيانة العلم وأهله .
ويذكرنا حاله بقول أبي الحسن الجرجاني رحمه الله:
يقولون لي: فيكَ انقباضٌ، وإنما ** رأوا رجلا عن موقفِ الذّلِّ أحجما
أرى الناسَ مَن داناهُمُ هان عندهم ** ومَن أكرمته عزةُ النفس أكرما
وما كلُّ برقٍ لاح لي يستفزُّني ** ولا كلُّ مَن لاقَيْتُ أرضاه مُنْعِمَا
ولم أقض حقَّ العلمِ إن كان كلّما ** بَدَا طمعٌ صَيَّرتُهُ لي سُلَّمَا
إذا قيل: هذا مَنهَلٌ، قلت: قد أرى ** ولكنّ نفسَ الحرِّ تحتمِلُ الظَّمَا
ولم أبتذِلْ في خدمةِ العلمِ مُهجَتي ** لأَخدِمَ مَن لاقَيتُ، لكنْ لأُخْدَمَا
أأشقى به غَرْسًا وأجْنِيهِ ذلّةً؟ ** إذًا فاتِّباعُ الجهل قد كان أحزَمَا
ولو أنّ أهلَ العلمِ صانُوهُ صانَهُمْ ** ولو عظّموه في النفوس لَعُظِّمَا
ولكنْ أهانوه فهان، ودنّسوا ** مُحَيَّاهُ بالأطماع حتّى تَجَهَّمَا
المظهر الثالث “أناقة العلماء”: كان رحمه الله من العلماء الذين تميزوا بالأناقة في أجمل معانيها ومظاهرها من حسن الهيئة وجمال المظهر والمجلس والملبس والمخرج والمدخل ، وفِي هذا درس مهم لطلاب العلم ولكل مسلم في السمت الحسن وصيانة العلم والذي لا يتنبه له الكثير للأسف.
وقد كان الشيخ معروفا بهيئته الحسنة وظهوره الجميل وإطلالته المتألقة، فهو كالشامة بين العلماء والدعاة وكالبدر بين الكواكب في مجلسه ومشيته.
ويذكر حاله بحال الإمام مالك رحمه الله الذي قال عنه ابن أبي أويس: “كان مالك إذا أراد أن يحدث توضأ ، وسرح لحيته ، وجلس على صدر فراشه ، وتمكن في الجلوس بوقار وهيبة ثم حدث ، فقيل له في ذلك ، فقال أحب أن أعظم حديث رسول صلى الله عليه وسلم فلا أحدث به إلا على طهارة متمكنا”.
وحكى عنه القاضي عياض أنه كان يقول: “نقاء الثوب وحسن الهيئة وإظهار المروءة جزء من بضع وأربعين جزءا من النبوة”.
وفي الختام هذه صفحة مشرقة من صفحات العالم الحبر النبيل القدوة الوقور الشيخ الدكتور عبدالوهاب الديلمي رحمه الله، تناولت فيها جانبا واحدا من جوانب نجوميته ولم أتطرق للجوانب الأخرى من عظمة شخصيته كسعة علمه ، ونشاطه في الدعوة، وتميزه الإداري ، وحمله هموم اليمن والأمة ، وحسن عبادته ، ودماثة خلقه ، وشدة تواضعه ، وسعة صدره مع المخالف ، وتجرده عن التعصب ، ومواقفه ضد العنصرية والسلالية في اليمن ، وغير ذلك ، ولعل في هذا تحفيز وتهييج لطلابه وإخوانه العلماء الذين عايشوه عن كثب ولديهم القدرة على الكتابة عن مناقبه المتعددة وشخصيته الفريدة بشكل أفضل وأوسع وأما أنا فحسبي هذا الجهد المقل المتواضع والذي أرجو أني حققت به بعض مقصودي.
ذكرت ما عرفته عن الشيخ ولم أبالغ وهو غني عن ثنائي وشهادتي ومن أنا حتى أشهد لمثله ، أحسبه والله حسيبه ولا أزكي على الله أحدا.
والله الكريم الرحيم اسأل أن يرحم شيخنا وأن يجزيه عنا وعن طلابه خير ما جزى شيخا عن تلاميذه وأن يكرم وفادته ويحسن ضيافته بخير ما يكرم به العلماء العاملين في جنات النعيم.
(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)