مقالاتمقالات مختارة

الدولة التسلطية.. رحلة الأنظمة العربية من الدستورية الهشة إلى القمع العنيف

الدولة التسلطية.. رحلة الأنظمة العربية من الدستورية الهشة إلى القمع العنيف

بقلم شريف مراد

للأديب المسرحي “بريتولد بريخت” مقولة مُعبرة مفادها “إن المثقف الحقيقي هو انعكاس لتمزُّقات عصره”، ولعل هذه المقولة تعبير حقيقي عن المثقفين والأكاديميين الذين تتناول أطروحاتهم أزمة المشرق العربي التاريخية، فهُم مثقفون عرب وأكاديميون درسوا وتخرجوا في أرقى الجامعات الغربية، وكتبوا دون سابق ترتيب منهم في وقت واحد تقريبا بين أواخر الثمانينات إلى أواسط التسعينات تحت ضغط الواقع المتردي والخطابات الاستشراقية العنصرية. وقد خرج هؤلاء بأهم الكتب التي حلَّلت التأزُّم السياسي العربي، فبعد كتاب “المحنة العربية” لـ”برهان غليون”، و”تضخيم الدولة العربية” لـ”نزيه الأيوبي”، خرج واحد من أثرى الكتب وأغناها للمفكر العربي والأكاديمي الكويتي “خلدون النقيب” تحت عنوان “الدولة التسلُّطية في المشرق العربي“.

يُعَد خلدون النقيب واحدا من أبرز المثقفين وعلماء الاجتماع العرب، وله عدد من الإصدارات في هذا المجال، وقد عاش مثقفا حقيقيا مهموما بواقعه وقضايا مجتمعه ورافضا الإجابات السهلة وموظِّفا شغفه الحقيقي بالمعرفة في البحث عن الجذور الحقيقية والأعمق لأزمة المشرق. وقد شرح في كتابه سابق الذكر بنية الدولة التسلُّطية في المشرق العربي، وكيفية إضعافها التنمية والحياة الإنسانية في مجتمعاتها، وهو ما نلقي الضوء عليه في السطور الآتية.

خلدون النقيب

الدولة في المشرق العربي

وصَّف خلدون النقيب السلطة السياسية الحديثة في المشرق العربي توصيفا جديدا، حيث أسماها بـ”الدولة التسلُّطية” على غرار الدولة التحديثية لبرهان غليون. ويُعقِّب النقيب على ذلك موضحا أن مصطلحات مثل “الدولة الشمولية” أو “البونابرتية” وغيرها من المصطلحات هي “توصيفات أقلّ دقّة من الدولة التسلُّطية التي نتحدث عنها”، مشيرا إلى أن مصطلح الدولة البونابرتية ظهر لأول مرة في كتابات ماركس وإنغلز “لتفسير نجاح لويس بونابرت في تكوين دولة شبه ديكتاتورية حوَّلت الصراع من صراع بين الطبقات إلى صراع بين سُلطة فوق قوى المجتمع وبين المجتمع نفسه، بعد احتدام الصراع الاجتماعي في فرنسا بعد الثورة”، وهو سياق يختلف كثيرا عن السياق الذي ظهرت فيه الدولة التسلطية العربية.

يسير خلدون النقيب مع برهان غليون لمسافة أبعد، موضحا أنه اختار الدولة التسلُّطية لأنها تختلف عن الدولة السلطانية القديمة التقليدية أو ما قبل الحديثة، إذ إنها دولة بيروقراطية في المقام الأول، وتستمد شرعيتها من قدراتها التنظيمية الضخمة، “أي من قدرتها الفائقة على تنسيق البنى التحتية للمجتمع”، ومن ثَم تستغل تلك الشرعية وتلك القدرات في “اختراق المجتمع المدني، على مختلف مستوياته ومؤسساته، وجعله امتدادا لسلطتها، فتحقِّق بذلك احتكار مصادر القوة والسلطة في الفضاء العام، وهذا هو جوهر الحكم التسلُّطي”.

في مقدمة الكتاب نلمس أيضا تشابها بين النقيب ونزيه الأيوبي في نزوعهما إلى التعامل مع اللحظة الاستعمارية بوصفها لحظة تأسيسية للإشكال السياسي في المشرق العربي، وهو ما عبَّر عنه الأيوبي بتأكيده “أن تشكُّل الدولة في المشرق العربي لم يكن نتيجة لصيرورة اجتماعية تكاملية نابعة من الداخل، بل كان بدرجة كبيرة نتيجة لصيرورة سياسية مفكِّكة مفروضة من الخارج”، وهو ما نجد مصداقه عند خلدون حين يشير إلى “عجز المجتمع العربي عن تأسيس الدولة الحديثة الديمقراطية، نظرا للتطور اللاعقلاني الذي لازم تَشكُّلها…، فأصبحت نموذجا مشوَّها للدولة البيروقراطية الحديثة كما هي في الغرب”.

على خلفية هذا التأسيس النظري، يبدأ خلدون النقيب في التنقيب عن جذور نشأة الدولة التسلُّطية في المشرق العربي، بمصر والشام والعراق، ليقدِّم سردية تحليلية تقسِّم تاريخ المشرق إلى حقبتين أساسيتين: أولا، المرحلة الثورية بداية من سنة 1916، وثانيا، مرحلة انهيار الحكم المدني وبداية الحكم العسكري التي بدأت منتصف القرن الماضي.

المرحلة الثورية للمشرق العربي

يبدأ خلدون النقيب بما أسماه المرحلة الثورية التي بدأت في العام 1916 حين ثارت شعوب المشرق العربي ضد “الاستبداد العُثماني” أثناء الثورة العربية الكبرى، مفتتحة بذلك حقبة ثورية شملت بلدان المَشْرق الرئيسية، مصر والشام والعراق، إذ اندلعت “ثورة الشعب المصري سنة 1919، وثورة الشعب السوري في السنة نفسها بالدعوة إلى المؤتمر الوطني الذي أعلن الاستقلال في مارس/آذار 1920، هذا إضافة إلى ثورة الشعب العراقي في يوليو/تموز 1920”.

جاءت هذه الثورات لتفتح آفاق الحَراك المدني الحديث في المشرق العربي، حيث كان الدافع الأساسي من اندلاعها هو الدعوة إلى الاستقلال وحق تقرير المصير وإقامة نُظم ملكية دستورية تمثيلية. وتدرَّجت هذه المطالب بدءا من الدعوة إلى الحكم اللامركزي الفيدرالي إلى الإصلاح السياسي والقانوني والتحديث في ظل السَّلطنة العُثمانية، كما تجلَّى ذلك في المؤتمر العربي الأول عام 1913، ثم انتهت بالاستقلال الوطني والحكومات الدستورية النيابية.

كانت تلك المطالب السياسية الحديثة تجسيدا لمشاريع قوى اجتماعية حية لها تصوُّراتها عن ذاتها ومصالحها، وهي تحديدا فئة الأعيان من كبار مُلاك الأراضي والتجار من السكان المحليين لمناطق المشرق العربي. وقد امتلكت تلك الفئة توجها ليبراليا دستوريا، ليبرالي في أنها ترى الدولة مجموعة مؤسسات فنية وقانونية موضوعية تمثل مصالحها بوصفها قوة اجتماعية محلية دافعة للضرائب. ويصف خلدون النقيب تلك الفئة قائلا: “في مصر كان هؤلاء في الحزب الوطني ثم في حزب الوفد، بعد الزخم الذي حصلت عليه عملية تمصير الملكية الزراعية الكبيرة في الريف (الذين كانوا في طور التحول إلى إقطاعيين)، والضباط الشرفيين، وتجار المدن والأعيان المنتمين إلى حزب العهد، والحزب الوطني وحزب النهضة. وفي سوريا ظهروا من بين تجار دمشق وحلب خاصة، وملاك الأراضي في المناطق الأخرى من الضباط الشرفيين. ودستوري لأنها في صراعها مع بقايا الحكم السُّلطاني (العُثماني والخديوي) أخذت على عاتقها مهمة تشكيل عقد اجتماعي بين السلطة السياسية والتنفيذية وبين السكان المحليين، لا بوصفهم رعايا، ولكن مواطنين أحرارا لهم حق في التمثيل السياسي.

إلا أن هذا التوجه الليبرالي الدستوري وُلد مأزوما؛ لأن القوى الاجتماعية التي وقفت خلف هذا التوجه استُنزفت في صراعها مع أنظمة الحكم الملكية التقليدية الاستبدادية حول الدستور والديمقراطية من جهة، ومع القوى الاستعمارية حول الاستقلال الوطني من جهة. وفي الوقت نفسه حرمتها حدودها الطبقية والاجتماعية من حسم الصراع على أي جبهة منهما، حيث أسهمت تلك الصراعات في تجاهل هذه القوى للمشكلات الاجتماعية التي بدأت في الانفجار بسرعة في النصف الأول من القرن العشرين، حين صرفت انتباههم عن الفوارق الطبقية المتزايدة، وعن حقيقة تركُّز الثروة والسلطة في أيديهم، وعن قضايا العدالة الاجتماعية، وبدا أن القوى الاجتماعية التي تنادي بالدستور والاستقلال متواطئة مع الوضع القائم كما ظهر في تجربة الوفد وتراجع شعبيته في أعقاب الحرب العالمية الثانية.

مع تراكم الأزمة، ظهرت القوى الليبرالية الدستورية المدنية بوصفها طبقة مستقلة عن هموم عموم الناس في المشرق العربي، وأصبح المجال السياسي في نظر جماهير المشرق كما يصفه “يوجين روجان” مجالا سياسيا باشواتيّا (من “باشوات”، جمع “باشا”)، الأمر الذي عجَّل بتفكُّك وتفرُّق الطبقة السياسية نفسها، وازدياد الاستقطابات بين أعضائها، وهو ما أدى إلى فشل التوجه الليبرالي الدستوري، وتآكل شرعيته كنظام حكم وعقد اجتماعي بين السُّلطة والمجتمع، لكن الفشل الأهم كان فشل المشروع الليبرالي بوصفه مشروع استقلال وطني، وكانت تلك النقطة الأخطر في هذه المرحلة من تاريخ المشرق العربي.

كانت نقطة التحوُّل التي عمَّقت من أزمة الليبرالية الدستورية هي تحالف قطاعات واسعة من داخل الطبقة السياسية الحاكمة مع الاستعمار والمصالح الغربية الرأسمالية بمرور الوقت، ثم هزيمة الجيوش العربية في حرب فلسطين عام 1948، الأمر الذي سَرَّع بالحكم على التجربة الليبرالية في المشرق العربي بالموت، وفَتَح الباب أمام صعود التوجه الثوري الجديد الذي قضَى على الحكم المدني في المشرق.

أفول الحُكم المدني

تتسم المرحلة التي تحياها المجتمعات المشرقية، وفقما كتبه النقيب وقت صدور الكتاب في بداية التسعينات، بهيمنة الجيوش أو العسكر على النظام السياسي؛ ما نتج عنه صعوبة بناء دولة مؤسسات أساسها ومبدؤها الديمقراطية، ولذا ظهر نمط جديد من الاستبداد قائم على الدولة البيروقراطية التسلُّطية. وقد انهار الحكم المدني في المشرق العربي دفعة واحدة، حيث توالت الانقلابات العسكرية في مصر والعراق واليمن وسوريا ضد أشكال الحكم المدني شبْه الدستورية القائمة سابقا، إلا أن هذا الحَراك لم يأتِ من فراغ.

كانت القوى الاجتماعية الجديدة الداعمة لتلك الانقلابات هي الطبقات الوسطى الصاعدة في المشرق العربي التي رأت في أنظمة الحكم العسكرية الناصرية والبعثية تعبيرا عن مصالحها ورغباتها، فالانقلابات التي استولت على السلطة ينتمي أغلب ضباطها إلى الطبقة الوسطى، وأغلبهم من أصول ريفية. في النهاية، انتصرت تلك الانقلابات للنزعة الدولتية السلطوية على التوجُّه الليبرالي الدستوري، وانتصرت للريف على المدينة، وللحكومة المتدخِّلة في حياة مواطنيها على الحكومة المُقيدة سلطاتها.

اتخذت الحكومات التي شكّلتها الانقلابات العسكرية إجراءات لاستصلاح الأراضي، وقامت بإصلاحات أسهمت في خلق طبقات جديدة، وفي الوقت نفسه، تصفية الإقطاع الزراعي والأرستقراطية الرأسمالية الكبيرة، وتمدَّد الجهاز البيروقراطي والإداري وسيطر على جميع الأنشطة السياسية والاقتصادية تحت شعارات قومية وتقدُّمية وسياسات هدفت إلى تحقيق الأمن والاستقرار والعدالة الاجتماعية.

لكن الأمور لم تقف عند هذا الحد، يقول خلدون النقيب: “لكن سرعان ما اتضح زيف هذه الشعارات، وأن هدفها المضمر ليس فقط تبرير استيلائهم على السلطة فحسب، وإنما تصفية كل المؤسسات الدستورية والديمقراطية في البلاد، وبات من الواضح أن المؤسسة العسكرية لم تستمد مشروعيتها من سند شعبي كبير عندما أتت إلى الحكم في البلدان العربية، غير أن قدومها خلّف ارتياحا وتقبلا لدى الشعب؛ رغبة منهم في تحقيق التنمية بأبعادها المختلفة بعد فشل القوى الليبرالية في تحقيق أي تقدم”.

كانت هذه السياسات التقدمية الراديكالية نفسها هي اللحظة التأسيسية لدولة التسلُّط بحسب خلدون النقيب، إذ بات واضحا أن أنظمة الحكم العسكرية لم تقدر على تحقيق الأمن والاستقرار بسبب الخلل في رؤية العسكريين التي سعت إلى تعزيز تدخُّل الدولة على نطاق واسع في الاقتصاد والمجتمع، وقتل الروح الخلّاقة للمجتمع المدني؛ ما جعل الدولة تعادي قوى المجتمع نفسها، وتغذي حالة من العنف المُضمر والمُعلن.

طوّرت النخبة العسكرية الجديدة رؤية مفادها أن “سبب فقدان الأمن وعدم الاستقرار… هو تعدد الآراء واختلاف الميول وتكاثر الأحزاب والتنظيمات…، ولذلك حتى يتحقق الأمن والاستقرار فلا بد من حل الأحزاب، وإن كان لا بد من وجودها فيتم التضييق عليها وخنقها تدريجيا، لمصلحة الحزب الحاكم أو التنظيم الذي يدعمه العسكر”. وقد كانت عاقبة تلك الرؤية الكارثية هي القضاء على الحريات الديمقراطية والضمانات الدستورية في البلاد العربية والرقابة الشعبية، ومن ثَم تأسيس الأنظمة السياسية بوصفها أنظمة تسلُّطية.

شكَّل عقدَا الخمسينات والستينات من القرن الماضي مرحلة فاصلة ومأساوية في التاريخ العربي الحديث، حيث نجحت الجيوش والبيروقراطيات العربية في تحقيق انتصارات كبيرة على حساب المجتمع المدني في المشرق العربي؛ أولا عبر السيطرة العسكرية الكاملة على هياكل السلطة داخل الدولة، وتوظيف القوة المنظمة للدولة وشرعيتها الإدارية والتنظيمية للقضاء على كل التنظيمات السياسية، ثم السيطرة على مصادر القوة الأخرى والمتمثلة في النقابات العمالية والاتحادات المهنية الأخرى؛ ما أدى إلى احتكار بالغ القسوة لكل مصادر القوة والثروة، وتشكيل ترسانة قانونية تخدم مصالحها، لا سيِّما بعد توسيع القطاع العام وتحجيم القطاع الخاص وإلغاء المبادرات الفردية.

يشرح خلدون أن تلك المرحلة الفاصلة هي التي ثبتت في ذهنية الإنسان العربي “أن الانقلابات العسكرية لم تكن ظاهرة زائلة مُؤقتة”، وأن النظم العسكرية التسلُّطية امتلكت هدفا وحيدا، هو ضرورة إعادة إنتاج شرعيتها عبر تبنيها لسياسات حالة الاستثناء والعمل على تفكيك المجتمع المدني والأهلي أكثر من اعتمادها على تقوية شوكة المجتمع لتعزيز قواعد الدولة الذاتية بدلا من السلطوية.

في الأخير، فشلت تلك الدولة التسلُّطية المتنافرة مع مجتمعها في بناء مؤسسات سياسية راسخة ومستدامة وذات جذور اجتماعية حقيقية، وفتحت مسارات مأساوية وكارثية على مستقبل مجتمعات المشرق العربي، شملت الفساد والمحسوبية والهزائم العسكرية والقمع والتعذيب في السجون والتلاعب بخطوط الانقسامات العرقية والمذهبية. هذا وكان القدر رحيما بخلدون النقيب؛ إذ وافته المنية في أواسط عام 2011 قبل أن يرى تلك الدولة المتسلِّطة وقد ازدادت شراسة في مواجهة ثورات مجتمعها بشكل غير مسبوق.

_____________________________________________

المصادر:

  1. الدولة التسلُّطية في المشرق العربي، خلدون النقيب، مركز دراسات الوحدة العربية.
  2. إشكالية تحديث الدولة في المشرق العربي ”قراءة في الأدبيات النظرية“، المركز الديمقراطي العربي.
  3. The Arabs: A History , Eugene Rogan, Basic Books.
المصدر : الجزيرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى