الدكتوراه في العقد الثامن.. بيان على خطى والدها الشيخ علي الطنطاوي
إعداد سناء نصر الله
وهي على مشارف عقدها الثامن، تقف الدكتورة بيان الطنطاوي بنشوة المنتصر في إحدى قاعات الجامعة الإسلامية بالعاصمة الماليزية كوالالمبور بين أساتذتها لمناقشة رسالة الدكتوراه، ترى الحلم الذي رافقها ربع قرن من الزمان قد أصبح حقيقة ماثلة أمام عينيها.
روحها اليافعة المتفائلة، والأمل الذي يملأ قلبها صدّق مقولتها التي لطالما تحدثت عنها أمام الجميع بأن “سنوات العمر بالنسبة لها مجرد أرقام”، وإن على الإنسان أن يضع قدميه على أرض حاضره وأن يخطط لخطوته التالية نحو المستقبل، أما ما مضى فلا يلتفت له إلا لأخذ العبر والدروس.
على الرغم من أنها تطرق أبواب عامها الثالث والسبعين، فإن الدكتورة بيان تعتقد أن نيلها شهادة الدكتوراه يشكل لها نقطة انطلاق وبداية لمرحلة جديدة في حياتها.
بيان على يمين والدها مع شقيقتيها (الجزيرة) |
تقفو أثر والدها الشيخ علي الطنطاوي أديب الفقهاء وفقيه الأدباء، وقد ورثت عنه ذكاء ورجاحة عقل وحكمة ونهلت من نبع علمه، فهو المعلم والمربي لها، كما كان لها السند والعون في كل التحديات والمنعطفات التي مرت بها في حياتها حتى توفي رحمه الله.
الجزيرة نت التقت الدكتورة بيان في محل إقامتها بكوالالمبور، وكان لنا معها هذا الحوار، حيث تُحدثنا عن حياتها ودراستها، وعلاقتها بوالدها، ووجهت من خلال صفحة المرأة رسائل للناشئة.
العائلة والدكتوراه
في بداية الحديث للجزيرة نت، سألناها عن الأسباب التي تقف وراء تصميمها على نيل درجة الدكتوراه وهي في هذا السن، فقالت إن لكل إنسان في هذا الحياة هدفا قد يكون سخيفا وقد يكون ذا قيمة معنوية أو مادية، “وقد بدأت التفكير في الحصول على الدكتوراه قبل ربع قرن، وكنت مصممة على بلوغ الهدف حتى لو لم يبق في عمري إلا يوم واحد، السعي ليس لنيل الدرجة فقط، إنما لمتعة الوصول للغاية، ولإثبات القدرة على بلوغها رغم كل التحديات”.
كان لوالدها فضل كبير في صقل شخصيتها وتحفيزها، كما تقول، كان يشجعها ويفخر بما تقوم به، “قوتي تنبع من شخصيتي التي ولدت معي ونميتها رغم الصعاب، وما زالت قادرة على العطاء والصمود، فالتصميم عندي يشبه الروح وميكانيكية الإبصار والسمع التي لا أعرف آليتها لكن أتمتع بها بلا شك، إنها تنمو وتتغذى وتكبر، فلدى كل إنسان قدرات مدخرة، والفرق هو في الاستخدام أو التجاهل”.
لم تحل حالة الاستغراب في المجتمع الكبير المحيط بها دون تصميمها على نيل الدكتوراه، بل اخترقته عبر عائلتها الصغيرة التي راهنت على عودتها من ماليزيا بعد أول شهر، “قبلت التحدي وصمدت وها أنا هنا منذ عشر سنوات، حققت فيها ما أريد”.
علاقتها بوالدها
تشير الدكتور بيان إلى الأثر الذي اختصها به والدها رحمه الله، فقد كانت واسطة العقد بين خمس بنات، وكانت علاقتها به مميزة جدا ومختلفة منذ الطفولة، “أنا أشبهه كثيرا في طباعه وانفعالاته وعاطفته ورؤيته”.
تقول عن والدها كان رحمه الله يدرس من حوله وكان شديد الملاحظة يعرف ميزة كل واحد وعيوبه، فيساعده بالتغلب على عيوبه ويشجع الجوانب الإيجابية.
أما ما قوّى علاقتها به فقد كان أمرا لا يمكن توقعه، نترك لها الرواية بلغتها “تزوجت بطريقة مختلفة عن أخواتي، كان عمري حينها 15 عاما وزوجي يكبرني بـ22 عاما! مما أدى لفشل الزواج وأشعر والدي بالذنب، رغم أني لم أفكر للحظة بإلقاء اللوم عليه! ذلك الشعور رافقه طيلة حياته، كانت دموعه كثيرا ما تتخلل لحيته طالبا السماح”.
تضيف “كانت الضغوط تمارس على المطلقة من المجتمع المتخلّف، لكن والدي لم يشعرني للحظة أنني خفيضة الجناح واشترى بيتا لي في دمشق، وفي 1967 ذهبت لزيارته لأشهر وشجعني خلالها على متابعة الدارسة فعدت وحصلت على الثانوية العامة والتحقت بالجامعة وتخرجت من قسم اللغة العربية ثم تابعت وحصلت على ماجستير التربية”.
وعما يمكن أن تقدمه له بعد وفاته، تقول “سأنشئ وقفا باسمه وأجمع إرثه الفكري المرئي والمسموع والمكتوب في مشروع علمي تربوي يُبقي ذكره ويكون صدقة جارية على روحه تنشر علمه لينتفع به”.
محطات مؤثرة
تتحدث بيان الطنطاوي عن أهم المحطات التي أثرت في حياتها، فتعدد بعضا منها وتقول إن زواجها المبكر وانقطاعها عن الدراسة ثم بعد ذلك طلاقها، كان من المواقف المؤثرة جدا في حياتها.
وتشدد على أن طلبها الطلاق من زوجها شكّل صدمة للجميع في ذلك الوقت، خصوصا وأن لديها من زوجها ثلاث بنات، “تدخّل الجميع ليثنوني عن طلبي الانفصال لأنه كان كبيرة من الكبائر وقتها، كان الزوج رافضا للفكرة، لكني أصررت وتحديت مجتمعا بأسره، اتهمني اتهامات بشعة لكن لم أبال، وأثبتت لهم الأيام صحة قراري”.
بعد الطلاق عادت لمدرستها التي فارقتها من ثماني سنوات “فلم أجد إلا فتيات صغيرات صعب علي الاستمرار معهن فاضطررت للاعتماد على دروس خاصة لبعض المواد”.
بعدها “بدأت حياتي تستقر إلى أن جاء اغتيال أختي بنان فكان كصاعقة انقضت على روحي وإعصارا اقتلع كل شيء” (اغتيلت بنان في مدينة آخن الألمانية عام 1981).
“كنت وشقيقتي بنان كتوأمتي روح، علاقتنا قوية ومتينة جدا، كنا على تواصل دائم رغم وجودها بأوروبا، وبقينا نتواصل بالرسائل الورقية، وتتصل بي كل يوم وقت طلاقي رغم أن ذلك لم يكن سهلا، بنان هي شقيقة الروح ورفيقة الدرب”.
كما شكلت وفاة والدها مفترقا آخر في حياتها، “فقدي لوالدي كان حدثا مؤلما، كان السند والأخ والأب والمعين والمرشد والمعلم، كنت أجد عنده الحكمة والرأي، كان المربي العظيم، أحببته حبا يعجز اللسان عن وصفه، وتمنيت لو كنت أكثر برا به، اعتنيت به أثناء مرضه، لكن موته ذهب ببضعة مني، وأشعرني بالضياع لفترة”.
للشباب والناشئة
أما عن دورها كأم، فتقول إنها أخذت دور الأم والأب معا، فبعد الطلاق ورغم أن والدهن كان يزورهن، كان حمل التربية ملقى على عاتقها بشكل كامل.
وعن دورها كمدرسة وداعية، تقول إن لها فقها خاصا بالدعوة، “لا أؤمن بالدعوة العامة، ولا أوافق الأفغاني في مقولته: قل كلمتك وامش”، وتستدل على خطأ المقولة بسنوات يأكل الناس فيها التمر ويرمون النوى على شاطئ البحر وإلى الآن لم تنبت نخلة واحدة، “الدعوة تكون بتهيئة الأرض وتسميدها ومتابعة البناء بالعلم والمعرفة”.
وتختم أنه “كما علمنا والدي أن يكون التوجيه معجونا بنسيج الحياة ومنطلقا من واقعها ومن حوادثها وليس وعظا بالطريق المباشرة، وعلى الداعية التحلي بالتواضع والثبات وأن يكون من الناس ومعهم”.
(المصدر: الجزيرة)