بقلم د. أحمد محمد كنعان
لقد باتت القطيعة مع التراث دعوة شائعة عند عامة الدعاة إلى التجديد في الإسلام، بحجة أن هذه القطيعة هي الوصفة السحرية لإخراج الأمة العربية من أزمة التخلف التي تعيشها اليوم؛ فقد اعتقدَ بعض المفكرين العرب أن لا سبيل إلى التخلُّص من سلطة الماضي، والدخول في حضارة العصر الراهن إلا بإحداثِ قطيعةٍ معرفيةٍ مع التراث والأخذ بعقلِ الحداثة الذي يتّخذه العلم الحديث مصدراً وحيداً للمعرفة !!
ومن الذين نادوا بهذه القطيعة مع التراث المفكر اللبناني د.حسين مروة (1910 – 1987م) في كتابه “النزعات المادية في الإسلام” ومن دعاة القطيعة كذلك المفكر المصري د.حسن حنفي (1935 – ) في كتابه “التراث والتجديد” وكتابه “من العقيدة إلى الثورة” ومنهم كذلك الجزائري د.محمد أركون في كتابه ” تاريخية الفكر الإسلامي” ومنهم المغربي د.محمد عابد الجابري (1936 – 2010م) في كتابه “نحن والتراث” ومشروعه الموسوعي “نقد العقل العربي”.
وتجدر الإشارة إلى أن فكرة “القطيعة المعرفية” قد ظهرت لأول مرة في أواسط القرن العشرين في أوروبا تحت تأثير الثورات العلمية غير المسبوقة التي شهدها هذا القرن؛ وقد بدأ الحديث عن هذه القطيعة بسؤال مفاده :
• هل تتقدم العلوم بطريقة الفصل والقطع ما بين الحقائق العلمية القديمة والحقائق العلمية الجديدة ؟ أم بطريقة الاتصال والتراكم ؟
ويرجع الفضل بطرح هذا السؤال المعرفي إلى الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار (1884 – 1962) الذي ذهب إلى أن القفزات النوعية في تطور العلوم تحصل بالقطيعة مع العلوم السابقة؛ مخالفاً بهذه الرؤية ما ذهب إليه رواد الفلسفة الوضعية المنطقية (Logical positivism) القائلين إن العلوم تتطور بالتراكم والتواصل؛ في خط تصاعدي من النقص إلى التمام .
وبالرغم من أن الحديث حول القطيعة المعرفية بدأ في حقل العلوم التطبيقية إلا أن الفكرة سريعاً ما انتقلت إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية على يدي الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو (1926 – 1984) وأستاذه لوي ألتوسير (1918 – 1990) .
ثم انتقلت الفكرة من الثقافة الأوروبية إلى الثقافة العربية، فقد التقطها نخبة من المفكرين العرب الحداثيين وراحوا يوظفونها في مقارباتهم للتراث العربي الإسلامي، فوجدناهم يدعون إلى القطيعة مع هذا التراث بحجة أنه هو سبب أزمة التخلف التي تعيشها الأمة !!؟
وقد ذكرنا آنفاً بعض هؤلاء، إلا أن أبرز الذين دعوا إلى القطيعة مع التراث ووجدت طروحاتهم صدى واسعاً في الساحة العربية، هم نخبة من المفكرين المغاربة؛ نذكر منهم : محمد عابد الجابري ( 1936 – 2010 ) ومحمد أركون (1028 – 2010م) وعبد الله العروي (1933 – ) .
• فقد ذهب الجابري إلى أنه لا نهضة دون تحصيل آلة إنتاجها أي العقل النهضوي، وهذا العقل لا يمكن تحقيقه إلا من خلال القطع مع العقل التراثي المبني على النصوص الدينية التي جعلت العقل العربي أسيراً للغيبيات والمطلقات فتحول إلى “عقل مستقيل” حسب تعبير الجابري الذي ظل يكرر أنه لا يمكن تحصيل العقل النهضوي المنشود إلا بنقد هذا العقل العربي “التراثي” وتفكيك السلطات والمفاهيم المتحكمة في بنيته، وبعدئذ يمكن تأسيس عصر جديد يفتح للأمة طريقاً معرفياً جديداً يجعلها قادرة على الفعل والعطاء والاستجابة لتحديات الراهن !
• ويجاري العروي صاحبه الجابري فيذهب مثله إلى أن الأزمة تكمن في “العقل العربي” إلا أن العروي – من خلال نزعته التاريخانية – يطرح مقاربة مختلفة مفادها أن العقل العربي بني على المسلمات الدينية؛ ووقع في فخ “اليقين” قبل أن يفحص ويتأمل؛ أما العقل الحداثي في المقابل فقد بني على الإبداع والمبادرة والنزوع إلى المغامرة، ومن ثم انتهى العروي إلى أن حال الأمة لن ينصلح إلا باختيار المستقبل بدلاً عن الماضي، والواقع بدل الوهم، كما تأمر الحداثة !
• أما أركون الذي يتفق مع صاحبيه بأن الأزمة تكمن في التراث، إلا أنه لا يراها أزمة عقل، وإنما أزمة قراءة وتأويل سببها سيادة القراءة الواحدة للتراث؛ هذه القراءة التي شكلت – في اعتقاده – سياجاً مغلقاً حول التراث جعله يرفض الرأي الآخر ! ولهذا رأى أركون أن نهضة الأمة لن تحصل ما لم تقطع الأمة علاقتها بهذه القراءة التراثية المغلقة !
وهكذا نجد أن الداعين إلى القطيعة مع التراث يبنون دعوتهم هذه على الزعم بأن العطالة التي أصابت “العقل العربي” ترجع إلى خضوعه للتراث الإسلامي؛ واتفق الثلاثة على أن تحرير هذا العقل يتطلب قطعه عن التراث وتحريره منه!؟
وقد تعرضت هذه الدعوة إلى القطيعة مع التراث لكثير من النقد والمساءلة :
• فقد أخذ الناقدون على مشروع العروي نزعته التاريخانية التي جعلته ينظر إلى المنجز الحضاري الإسلامي على أنه حدث تاريخي أخذ مكانه ضمن التطور التاريخي؛ وعفا عليه الدهر، فصار لِزاماً علينا هجره إلى ما بعده !
• كما أخذ الناقدون على هؤلاء الثلاثة زعمهم بوجود عقل عربي ذي مواصفات خاصة؛ فقد رأى ناقدوهم أن هذا الزعم غير صحيح على الإطلاق؛ فالواقع يشهد أنه لا يوجد عقل عربي، وآخر فرنسي، وآخر أمريكي مثلاً، فهذه الصور النمطية للعقل كما تصورها دعاة القطيعة لا وجود لها في الحقيقة، بدليل أن العربي الذي نجده فاشلاً في البيئة العربية نجده في قمة الإبداع والفعالية عندما ينتقل إلى البيئة الغربية، فالعقل نفسه لم يتغير وإنما تغيرت البيئة، فقد انتقل العقل من بيئة محبطة إلى بيئة محفزة، فأبدع وأعطى، وفي هذا دليل على تهافت الدعوة إلى القطيعة بسبب استنادها إلى أساس فاسد ! وليس هذا هو النقد الوحيد الذي واجهته الدعوة إلى القطيعة مع التراث؛ فقد اتهمت هذه الدعوة كذلك بتبسيطها لتشخيص الأزمة، وتبسيط الحلول التي اقترحها دعاة القطيعة للخروج من الأزمة ! فلا غرابة أن تنتهي هذه الدعوة إلى الخيبة والفشل والاحباط، كما نلمسها بوضوح فيما يأتي :
– فقد تخلى الجابري عن دعوته إلى العلمانية، وعاد إلى رحاب الدين والإيمان بالتراث الذي ظل يدعو إلى القطيعة معه زهاء نصف قرن !
– وتوقف أركون في أخريات حياته عن حديث القطيعة !!
– أما العروي وبعد نصف قرن كذلك من دعوته إلى القطيعة مع التراث، اعترف بخيبة جهوده قائلاً «لم أرفع أبداً راية الفلسفة ولا الدين ولا التاريخ بل رفعت راية التاريخانية في وقت لم يعد أحد يقبل إضافة اسمه إلى هذه المدرسة لكثرة ما سُفِّهت !؟
– وهناك برهان دامغ آخر على فشل الدعوة إلى القطيعة مع التراث،وهذا البرهان نجده في تجربة مصطفى كمال أتاتورك ( 1881 – 1938م) الذي فرض على تركيا قطيعة متشددة، وعمل بكل الوسائل لقطع تركيا عن تراثها الإسلامي، إلا أن تجربته أخفقت إخفاقاً ذريعاً، بالرغم من دوامها زهاء (70 عاماً) وبالرغم من حراستها حراسة عسكرية لم ترحم، لكنها آخر المطاف فشلت رغم كل الإمكانيات التي أتيحت لها؛ وعادت تركيا إلى أحضان التراث بفضل حماة التراث ممثلين في حزب العدالة والتنمية ( ak Parti) الذي استطاع أن يحقق في سنوات معدودات تحقيق إنجازات مذهلة في مختلف الميادين السياسية والاقتصادية والعلمية والاجتماعية !!
وهذه الإخفاقات في الدعوة إلى القطيعة تعود إلى أسباب عديدة، نذكر منها :
1 – أن طروحات الداعين إلى القطيعة اتسمت إجمالاً بالتبسيط في تشخيص الأزمة؛ وتبسيط أشد في الحلول التي اقترحوها !!
• تجاهل دعاة القطيعة وجود قناعة إسلامية متجذرة في الأمة ترفض التخلي عن تراثها تحت أي ظرف .
• تصور دعاة القطيعة – بصورة بائسة – إمكانية نسخ التجربة الغربية وزراعتها في البيئة الإسلامية متجاهلين الظروف والعوامل التي ساعدت في نجاح التجربة الغربية، وهي عوامل وظروف تختلف اختلافات نوعية عن ظروف وعوامل البيئة الإسلامية !!
( وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين )
(المصدر: رابطة العلماء السوريين)