مقالاتمقالات مختارة

الخيارات المتاحة أمام الحركة الإسلامية المصرية

الخيارات المتاحة أمام الحركة الإسلامية المصرية

بقلم عزة مختار

حالة من “الإستاتيكية” والجمود وصلت إليها الحركة الإسلامية في مصر، والتي بدأت في مطلع القرن المنصرم، وبلغت أشدها في منتصفه، وذلك في ربوع العالم الإسلامي والعربي في تراجع غير متوقع، بعد ثورات الربيع العربية التي اجتاحت بلاد العروبة منذ أكثر من سبع سنوات.

ولأن المياه الراكدة يصيبها الفساد والعطب أكثر من غيرها، والمجتمعات الثابتة يعتريها السقوط أكثر من مثيلتها المتجددة، فقد جرت سنة الله في الدعوات وأعمار المؤسسات والدول فتهاوت في سنوات معدودة؛ وذلك لأسباب كثيرة سوف نتعرض لها، لكنها مع هذه الأسباب تحملت كل موبقات الأنظمة السابقة بعدما تحملت المسؤولية شبه منفردة بعد سقوط رؤوس تلك الأنظمة، مما وضعها في صدام مباشر مع الثورة المضادة ودولة العسكر واحتياجات الشعوب التي حرمت من حقوقها طويلاً.

دخلت الحركة الإسلامية في كل قطر معترك الصراع مع جملة من الخبرات المتراكمة عبر صراعها الطويل مع الاستعمار ومندوبيه في بلادنا، غير أن تلك الخبرات لم تغنها في أمرها شيئاً، ورغم محاولة تلافي الوقوع في نفس الأخطاء القديمة والتي تنبع جميعها من مبدأ حسن الظن وسطحية الفهم وغياب الرؤية السياسية والإدارية التي تتناسب مع مستجدات المرحلة، إلا أنها وقعت فيما هو أشد، وهو الإصرار على المضيّ قدماً في طريق استبانت نهايتها أكثر من مرة، ظناً منها أن النتائج سوف تكون مغايرة.

أزمة قيادة أم أزمة صف

وقعت الحركة الإسلامية في فخ الانعزالية لفترات طويلة، ليس الانعزالية عن كل ما هو خارجي فقط، وإنما عزل القيادة عن الصف وتطبيق القوانين المنظمة للمؤسسة داخلياً ، فوضعتها في مساحة من القداسة تحرم على الأتباع الاقتراب منها -ولو على سبيل النصح والإرشاد، أو تقديم بعض الانتقادات، والتي تضع صاحبها في معظم الأحيان في الملف الأسود، فيحرم من التصعيد والوصول لمراكز قيادية؛ بحجة أنه فرد متمرد كثير الانتقاد والشكوى- وإشكالية أُخرى وقعت فيها الحركة بخصوص مسألة القيادة، وهي أن القائد يبقى في مكانه مدى الحياة، ولم نر مرشداً سابقاً إلا بعد إصرار الأستاذ الشهيد مهدي عاكف -رحمه الله- على ترك منصبه؛ لإجراء انتخابات تجدد من دماء الجماعة -رغم ما قدمه لها من حراك في فترته البسيطة- فوقع في قلب أتباعها أن التغيير له سقف محدود، وأن النقد لا يطال الكبراء، وأن القوانين التي وضعها الشهيد البنا -رحمه الله- غير قابلة للتغيير، ولو بعد مرور أكثر من سبعين عاماً على استشهاد الرجل، وتغير الزمان والظروف والمكان والبشر والإمكانات والعقول وآلية التفكير، علاوة على نسيان البعض أنه لا ثابت إلا ما كان آية من كتاب الله، أو حديثاً صحيحاً عن نبيه صلى الله عليه وسلم، أو فعلاً أقره المصطفى -صلى الله عليه وسلم– ووقع خلط بين النص الشرعي وقوانين التنظيم، فصار على من يطالب بالتطوير أو التجديد، إثبات حسن النوايا .

تصدرت الحركة الإسلامية المشهد -بعد النجاح الظاهري لثورة يناير- وسلمها الشعب المسؤولية كاملة في خمسة استحقاقات انتخابية متوالية حتى انتخابات الرئاسة التي نجح فيها الرئيس المغدور محمد مرسي -رحمه الله- ليكون أول رئيس مدني منتخب بإرادة حرة في تاريخ مصر، وفي ظل تلك القيادة التي تعامل فيها الرئيس بشفافية مطلقة، وأعطى الحرية كاملة، فلم يقصف قلماً، ولم يطارد من تطاول عليه هو شخصياً، ولم يتقاض دخلاً.

وبرغم وقوف كافة مؤسسات الدولة ضده، إلا أنها على مدى عام من الحكم لم تستطع أن ترصد له خطأً واحداً يدينه في الحكم، وبعد الانقلاب قفز الكثيرون من السفينة، وتركوا الجماعة وحدها في مواجهة العسكر.

وقد يتساءل البعض: “أين الملايين التي انتخبت وبايعت واحتفلت من مواجهة الانقلاب؟ لماذا لم تنزل تلك الملايين لتواجه الآلة العسكرية وتدافع عن إرادتها وأصواتها، وتؤازر الجماعة في محنتها” والإجابة باختصار: لقد عانت تلك الجماهير طويلا على يد العسكر، ووجدت أن المعركة خاسرة، وقد كانت بحاجة لمن يدافع عنها، لا من تدافع عنه.

لقد عانت تلك الجماهير طويلا على يد العسكر، ووجدت أن المعركة خاسرة، وقد كانت بحاجة لمن يدافع عنها، لا من تدافع عنه

وعلى مدار سنتين ظل الثوار في الشارع ينافحون عن كلمتهم، إلى أن حدث الصدام التاريخي بين القيادات بعضها البعض من جهة، وبين الصف وقيادته من جهة أخرى؛ فالألسنة الساكتة طويلاً لم تعد لديها القدرة على السكوت، والشباب الذي رباه الحراك والشارع والثورة ليس لديه ما يخشاه، فحدث الصدام، وحدث الشقاق، ووجدنا من يطالب بتسليم القيادة لمن يستطيع الخروج بها من حيز السكون لأي حراك مهما كان نوعه، عَلَت أصوات المعترضين، وفشلت كل محاولات رأب الصدع، ووقع الشقاق بالفعل، لتنجح القاعدة الصامتة طويلاً في تبليغ رسالتها، وقد ساعد على ذلك انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، والمدونات، والهجرة المفتوحة، وحالات الانتهاك البشعة داخل المعتقلات، والقتل الممنهج، مقابل حالة من الصمت تحت شعار الصبر والثبات، لنصل لنتيجة أن الصف قد نجح فيما هو مطلوب منه، بينما فشلت بعض القيادات -فشلاً ذريعاً– في تقديم ما هو متوقع منها.

الخيارات الاستراتيجية أمام الحركة اليوم

ليس من الإنصاف أن نطالب الحركة الإسلامية بعد جملة المشكلات العويصة أن تتنحى جانباً وتترك العمل العام لغيرها؛ لأن العمل العام -ببساطة- يحتاج إلى كافة الجهود الموجودة، وكافة الأطياف؛ ولأن الانقلاب لم يعلن عداءه للحركة الإسلامية وحدها، وإنما أعلن عداءه وكشّر عن أنيابه للجميع، بمن فيهم أطراف عسكرية حاولت التصدي؛ للانفراد بالسلطة وفرض هيمنة مؤدلجة على الوطن، فالساحة تكاد تكون خالية، وتسع الجميع، كل يبذل جهده متعاوناً أو منفرداً، في سبيل تحرير البلاد، غير أن حالة التكلس تلك لن تفيد في تحريك أي مشهد.

ليس من الإنصاف أن نطالب الحركة الإسلامية بعد جملة المشكلات العويصة أن تتنحى جانباً وتترك العمل العام لغيرها؛ لأن العمل العام -ببساطة- يحتاج إلى كافة الجهود الموجودة، وكافة الأطياف

ولدينا عدة نماذج تاريخية يمكن الاحتذاء بها، يحتج البعض بسببها داخل عملية الصراع الإسلامي – الإسلاميّ:

النموذج الأول/ القائد الفذ خالد بن الوليد في معركته مع الروم: حين انسحب بجيش المسلمين من فناء محقق ولم يحارب، وعاد بالجيش ليسمهم المسلمون بالفُرَّارِ، فيرد النبي صلى الله عليه وسلم: “بل هم الكُرَّارُ إن شاء الله” ويثني على خالد القائد العبقري الذي استطاع أن يحقن دماء جيشه، وينسحب؛ حفاظاً على حياة الناس.

النموذج الثاني/ حصار المدينة المنورة في غزوة الأحزاب: حين حوصرت لمدة شهر جعلتها تحت ظروف اقتصادية شديدة، ولم يكن موسم حصاد.
فحفر المسلمون الخندق، وعقدوا الاتفاقيات لحماية المدينة مع يهود بني النضير، وتحالفوا مع بعض قبائل الصحراء، خان اليهود العهد وتخلّت القبائل، وكان المسلمون في محنة شديدة، لدرجة أنه لم يكن أحدهم يستطيع الذهاب للخلاء بمفرده؛ خوفاً من قنص أحد المشركين له.
واكتفى المسلمون بالصبر بعد أن أدوا كل ما عليهم من أسباب في انتظار الفرج من السماء، حتى هبت الريح وأطفأت نيرانهم وقرر المشركون الرحيل.

النموذج الثالث/ نموذج أصحاب الأخدود: تلك الفئة القليلة المؤمنة والتي حين انكشف إيمانها لم تنكره، ولم تقاوم أو تطالب بكف الظالم عن القتل الذي ينتظرها بعد قليل، ولم يحاول أحد منهم الهروب، ووصفهم القرآن الكريم بالإيمان، وانتقم من عدوهم شر انتقام، ووصفهم بالمنتصرين برغم موتهم وفنائهم جميعاً.

تلك هي البدائل الثلاث المطروحة أمام الجبهة التاريخية للحركة الإسلامية، والتي انسحب معظمها من المواجهة ولم يتبق منها إلا أفراد لا يمثلون الجبهة السلفية بقدر ما يمثلون أنفسهم، ثم حركة الإخوان المسلمين والتي دفع كوادرها الثمن الباهظ في المعترك الحالي.

فهل تستسلم الحركة للأمر الواقع وتنجو بمن تبقى من أفرادها، وتصالح أو تقبل الوضع القائم في سبيل الحفاظ على أرواح أتباعها كما فعل خالد بن الوليد؟

وهنا يطفو سؤال آخر: وهل بايع خالد بن الوليد الرومان على الاستسلام وعاهدهم على عدم الرجوع لمحاربتهم في مقابل تركه لينجو بجيشه؟ أم أن الأمر خضع للمناورة والخداع الحربي والدهاء والحنكة، فخرج منها متوعداً، ولم يخرج هارباً، فعلى دعاة الاستسلام والرجوع عدة خطوات أن يجدوا مخرجاً شرعياً لتلك الاشكالية.

أما الخيار الثاني فهو الصبر والثبات وانتظار فرج السماء أن يتنزل على الفئة المنتهكة حقوقها في المعتقلات، هذا غير المطاردين والمهاجرين والشهداء.

وهنا أيضاً يطفو سؤال: هل حفرت الحركة الخندق الملائم حولها كشكل من أشكال الأخذ بالأسباب لحماية تلك الكوادر؟  هل اتخذت من الأسباب وتوظيف المعطيات والقوة التي تتيح لها التفاوض بجرأة وفرض شروطها؟ أم أنها تخلت مختارة عن مصدر القوة الوحيد الذي كان يمكن استخدامه في التفاوض وحماية المعتقلين، وهو الحراك الثوري الذي توقف فجأة؛ نتيجة ضغوط خارجية تحت التهديد بالترحيل والتسليم للنظام في مصر؟

وأما الخيار الثالث فهو الاستسلام المطلق للموت في السجون، والتهجير خارج البلاد، والإخفاء القسري؛ لكي يفيق الشعب -على حد قول البعض- فإما أن نموت، أو يدركوننا من الموت.
وهنا يتبادر سؤال: هل ديننا يسمح لنا بالاستسلام المطلق للعدو أو المغتصب؟ هل حين بايع الشباب على الموت في سبيل الله كان في نواياهم أنهم سيستسلمون بكل بساطة؟ أم أن كلمة “وأعدوا” كانت هي الشعار الذي بايعوا عليه حتى الموت؟

هل حين بايع الشباب على الموت في سبيل الله كان في نواياهم أنهم سيستسلمون بكل بساطة؟ أم أن كلمة “وأعدوا” كانت هي الشعار الذي بايعوا عليه حتى الموت؟

الخيار الصعب لإنقاذ ما يمكن إنقاذه

ومن هنا يتضح أن كل تلك الخيارات مغلوطة، ومنقوصة، وتعتريها الشبهة الشرعية في بعض مواطنها، ثم هي لا يقرها الكثير من المجتمع المحلي والدولي الذي يفرض على الحركة الإسلامية مراعاة قوانين التعامل معه، ولم يبق سوى طريق واحد وليس خياراً، وهو أن تجدد الحركة الإسلامية دماءها مختارة، بدلاً من أن تتعرض لعوامل الفناء والاندثار، وتتجاوزها حركة التاريخ الديناميكية، وتفتح أبواب التغيير على مصراعيها دون خوف على وجودها، فكما قلنا مسبقاً: إن الركود هو الذي يقتل وليس الحراك !

لقد أصبح لزاماً على الحركة الإسلامية إن هي أرادت البقاء أن تعيد النظر في كل قوانينها التي لم تتغير منذ عشرات السنين، في مناهجها التي اقتصرت على المناهج الشرعية بحجة شمول الإسلام، مع أن الإسلام نفسه حض على البحث والسعي والمعرفة والقراءة، وأن تتبنى مبدأ التخصص، والرجل الذي يحيط بكل شيء علماً لم يعد له مكان في زمن التخصصات الدقيقة، فالتجربة السياسية هي تجربة فاشلة، فشلها أجبر نفس الحركة في السودان الشقيق أن تتنحى ترضية للشعب الثائر عليها على سبيل المثال.

إن حركة التاريخ أسرع منها في زماننا عن أي زمن آخر، وإن لم تغيِّرْ تلك الحركة من آلياتها، ومفاهيمها بما لا يتعارض مع الثوابت الدينية والأخلاقية وبما يرسخ مفاهيم الهوية، فسوف تتجاوزها الشعوب والأجيال الحالية لتكون أثراً بعد عين.

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى