الخوف من علمنة الإسلام له ما يبرره
بقلم سري سمور
الإسلام محفوظ حفظا ربانيا، وأمة الإسلام لا تهلك بسنة عامة، ولا بأن يتسلط عليها عدو من غيرها يستبيح بيضتها، والكتاب العزيز محفوظ من التحريف، والسنة النبوية الشريفة كذلك فهل ثمة مبرر لحالة الخوف، وأنا من جملة الخائفين، على هذا الدين؟ أليس الخوف حالة تنم عن وساوس وهواجس لا مبرر لها؟ وهل فعلا يوجد أعداء للإسلام يريدون مسحه من نفوس الناس، ولما عرفوا وخبروا عجزهم عن تغيير ثوابته النصية يريدون تمييع الدين وتحويله إلى مجرد شعائر وهوية ثقافية هلامية لا علاقة لها بتشريع ولا بسلوك ولا مناهج المنتسبين إليه؟
الذي يستهين بالخطر الداهم لا يدرك أن الإسلام مستهدف؛ ذلك أن الإسلام له طاقة كبيرة تضمن انتقال الأمة من الضعف والهوان إلى القوة والعزة والمنعة، وهذا ليس كلاما مرسلا، وأن المسلمين إذا احتكموا إلى الشرع في كافة شئونهم سينقلب حالهم إلى ما يتضارب مع مصالح الغرب. وبالتالي فإن الغرب يهمه أن يبعد الناس عن دينهم بعلمنة الدين؛ وبعيدا عن الكلام المسهب والفلسفي حول مفهوم العلمانية؛ فإننا هنا نكتفي بالقول إن العلمانية بالنسبة للمسلمين تعني سلخهم عن أحكام دينهم بحيث يصبح مجرد شعائر لا يمارسها إلا بعضهم، ولا ينعكس على سلوكهم ومناهجهم التعليمية، ولا علاقة له بحياتهم العامة وحتى الخاصة.
ومن يرى أن هذا وهم فليرجع إلى التاريخ قليلا؛ ففي خير القرون قبل أن يتسلم الخليفة عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- الخلافة وقد نال بجدارة لقب (خامس الخلفاء الراشدين) لما عرف عنه من تقوى وزهد وعدل وحسن إدارة؛ فقبل أن يتولى الخلافة، كانت السنة قد أميتت كما قال، وابتعد الناس عن دينهم، وكانت همتهم إما في بناء الدور وتوسعتها، أو في الزواج والتسرّي، حتى بات كثير من الناس يجهلون أحكام دينهم وسنة نبيهم، هذا في خير القرون فعمر بن عبد العزيز من التابعين، ولم يكن للروم الذين ورثتهم الحضارة الغربية المعاصرة تأثير ثقافي و اجتماعي على الأمة، فكيف الآن وهذا الغرب يفرض بوسائله الناعمة والخشنة على الأمة قوانينه ونظمه وشرائعه؟!
وقرأت أن بعض المسلمين في قرون مضت، قبل أن يبعث الله من ينشر فيهم الدين الحق، كانوا يستحلون لحم الخنزيرة الأنثى، بدعوى أن الحرمة للخنزير الذكر في الشرع! ولنقترب إلى القرن المنصرم، فقد حدثتني أمي أن الناس كانوا يرون أن الحج لكبار السن، وليس لمن استطاع إليه سبيلا، وقد شهدت آخر مرحلة من كون رواد المساجد في الغالب من الشيوخ الذين بلغوا من الكبر عتيا، وعن هذا الركن سمعنا قصصا تشبه الخيال حيث كان الناس يعتبرون أن الشاب غير ملزم بالصلاة، أما صوم رمضان فحدث ولا حرج!
ولباس النساء كان يغلب عليه شبه التعري في العقود الخالية، ونظرة إلى أرشيف الصور والأفلام بالأبيض والأسود تخبرك بما لا يتسع له المقال. هذه شواهد تدل على أن الأمة ممكن أن تنحرف عن الصراط المستقيم، ربما بعوامل ذاتية، أو تأثيرات خارجية؛ فكيف بوضع الأمة اليوم حين يتدخل الغربيون في مناهج تعليمها وإعلامها واقتصادها ويصيغون أفكارها؟!
مع بالغ الحزن فإن بعض أبناء المسلمين، ومنهم علماء ومفكرون بحسن أو سوء نية قد انخرطوا في خطوات علمنة الإسلام؛ فنبتت أمة تقول بأن نترك السنة والأحاديث ونكتفي بالقرآن، وشنوا على رواة الحديث ومدونيه حملات شرسة، طابعها التشكيك وغرس الريبة في نفوس المسلمين من سنة نبيهم التي حفظها الله كما حفظ كتابه الكريم. وآخرون دعوا إلى ترك المذاهب تحت شعار (هم رجال، أي فقهاء المذاهب الكبار، ونحن أيضا رجال) فصار التجرؤ على الدين متاحا في غير مكان بما في ذلك بيوت الله، وصار كل يزعم أن عنده علم، وما معه إلا بضاعة مزجاة، وكثرت الفتاوى الشاذة بسبب التحلل من التمذهب، الذي زعموا أنه يفرق الأمة، وقد حفظ لها دينها في حقيقة الأمر.
صرت تسمع من يفتي بأن الخمر حلال، وأن التدخين في نهار رمضان لا يفسد الصوم، وأن أخذ القروض الربوية من البنوك أمر مباح، وأن تبادل القبلات بين رجل وامرأة أجنبية جائز ولا حرمة فيه! ضخ إعلامي تتشارك فيه فضائيات ومواقع إلكترونية وشبكات تواصل اجتماعي تفرغ (ناشطون) بها إلى ما يزعمون أنه تجديد وهو والله هدم للدين ونسف للقلاع من داخلها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
كانت الجرأة على التشريع واضحة في أكثر من قطر عربي وإسلامي؛ فمع أن الاستعمار ترك وراءه دولة حديثة -إن جاز أن نسميها دولة ولهذا حديث ليس هذا مكانه- لا تحتكم إلى شرع الله في سياستها الخارجية، فتتعاون مع الجيوش والمخابرات الغربية بل الصهيونية أحيانا، ولا في نظامها الاقتصادي، وغالب مناهجها التعليمية تنبذ صراحة أو ضمنا تراث الأمة وتاريخها، وتشكك به، مع كل ذلك؛ فقد بقي موضوع قوانين الأحوال الشخصية مرجعيته الفقه الإسلامي، خاصة الأسرة والزواج وغير ذلك. فجاءوا ببدعة حظر تعدد الزواج بالقانون، أو اشتراط موافقة الزوجة الأولى على زواج زوجها عليه؛ ولأني أعرف أن هذا الأمر حساس، ويفتح باب المزايدات التافهة؛ بالقول بأن تفكيرنا محصور في مسائل النساء والجنس، مع جلب سلسلة متتالية من المصائب المفترضة لتعدد الزوجات أقول وبالله التوفيق:-
أغلب من يرفض مثل هذا العبث بقوانين وتشريعات الأحوال الشخصية، لم يمارسوا التعدد، ولو منحوا مكافآت مجزية فلن يعددوا، ولكنهم يستشرفون الخطر القادم بأن هذه مجرد حلقة من سلسلة ستزيح الاحتكام إلى الشريعة إلى الإسلامية بالأمر الوحيد تقريبا الذي يحتكم فيه الناس إليها؛ فهل سيكتفي الغرب الذي يضغط سرّا وعلانية بهذا؟سيطالب بالاعتراف بما يسمى الزواج المدني، وسنجد من يقبل ذلك ويبرر بدعوى أن أمامك المحكمة الشرعية، ومكتب الزواج المدني، فاختر ما شئت حتى يعتاد الناس على ذلك، وصولا إلى أن يصبح الزواج المدني فقط هو المعترف به. وسيضغطون باستمرار للاعتراف بالشواذ (المثليين) واعتبارهم فئة تشبه أقلية عرقية أو دينية لها حقوقها، وصولا إلى أن نقرأ يوما ما هذا الخبر: برلمان (…) يناقش قانون الاعتراف بزواج المثليين!
إنها عُرى الإسلام تمزق أمام ناظرينا، فقد تجرأ من تجرأ على أحكام الميراث المثبتة في القرآن الكريم، فلا تعجبوا من السيناريو وتوقعوا الخبر أعلاه، هذا إذا لم ندرك بسرعة وننقذ السفينة التي يحدث فيها الأقرباء والغرباء خروقا كل يوم بل كل ساعة. والأخطر من كل هذا أن يعلمن الإسلام ويجري تمييعه وهدم حصونه واحتلال قلاعه بخطاب (إسلامي) فلطالما قدمت لنا فضائيات من تصفه بأنه (مفكر إسلامي) ينكر بعض أحكام الشرع ويؤول النصوص على هواه، وهو بهذا يجد له قبولا عند من يجتذبهم الخطاب (غير التقليدي) فيرونه مجددا لدينهم، وبطلا كبيرا لأنه تجرأ على مخالفة (الموروث والتراث) ويرفعون شعارات صرنا نسمعها يوميا، (لقد اعتدنا تقديس تراث وأقوال رجال ومراعاة ظروف اجتماعية انتهت، ونحن في عصر يتطلب قراءة جديدة للقرآن والسنة). وإذا استمر هذا التخريب الذي أراه ممنهجا لا بهاجس نظرية المؤامرة بل بالتتبع المنهجي والتاريخي واستشراف النتائج فسنتحول، أو جزء كبير منا إلى أمة علاقتها بإسلامها كعلاقة أوروبا بمسيحيتها السالفة!
(المصدر: مدونات الجزيرة)