مقالاتمقالات مختارة

الخطوة الأولى المنسية

بقلم د. عطية عدلان

الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..

لا يكون السعيُ سيراً نحو الهدف إذا غابت الخطوة الأولى، التي بدونها لا يُعْرف الطريق ولا يُهتدَى إلى الغاية؛ ومن ثمَّ فإنني على يقين من أنَّ كل ما نبذله من جهد وجميع ما ننفقه من وقت – على ضآلته وضعفه وتهافته – يتبدد في الفضاء سدى، ويذهب في الأنحاء على غير هدى؛ وما ذاك لضآلةٍ في حجمنا ولا لضعفٍ في إمكانياتنا ولا لتهافتٍ في مبادئنا وأفكارنا، وإنَّما لسبب واحد هو أننا جميعاً أُرِيدَ لنا ألا نخطو هذه الخطوة، فاستسلمنا للإرادة الملعونة تلك، وأسلمنا لها القياد.

كيف يقع المصاب على هذا النحو المزلزل ثم لا يستدعي منَّا مراجعة لأفكارنا ومناهجنا وأفعالنا ومواقفنا ؟! سواء ما كان منها في السياسة عندما كانت ناصيتها بأَكُفِّنا، وما كان منها في الثورة عندما كانت ظهراً ذلولاً تحت (أردافنا!)، أم إنَّ المراجعات خُلقت – فقط – لتكون آلية (شرعية!) لنسف الثوابت العقدية والشرعية في سياق التراجع والانهزام ؟! لماذا لم يحدث إلى الآن عملية نقد ذاتي فعال وبناء وممنهج ؟! من هذا الذي يأخذ بنواصينا إلى شعاب ضاربة في التيه؛ لئلا نقف هذه الوقفة ؟! وماذا يريد لنا ؟! ومن المستفيد من هذا الصرف المتعمد واللي المقصود ؟!

هذه هي الخطوة الأولى، خطوة المراجعة والتقويم، وهي خطوة طبيعية وشرعية؛ إن حدثت انقلبت المحنة منحة واستحالت النقمة نعمة؛ لذلك تشعر – وأنت تقرأ الآيات التي عَقَّبت على أحداث أُحُد في سورة آل عمران – تشعر باستقامة المسار، بل وتشعر – إن كنت متحلياً بالعمق متخلياً عن السطحية – بأنَّ المسار طبيعيٌ ليس فيه اعوجاج؛ وبأنَّ أُحُدَ لا تختلف عن سابقها أو لاحقها في كونها محطة كسائر المحطات في طريق الصعود.

ولقد قيل يومها لقوم هم خير صحابة لخير نبي: “منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة” “يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية” “إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم” “قلتم أنّى هذا، قل هو من عند أنفسكم” “وطائفة قد أهمتهم أنفسهم”.

وإنَّ الأخطاء التي وقعت من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستدعت كل هذه الوكزات المؤلمة، لو تم مقارنتها بما وقعنا فيه من خطايا لبدت كحبات من رمال أمام تلال وجبال؛ فلماذا لا نقف هذه الوقفة مع أنفسنا، ولماذا نهرب من المواجهة والمصارحة والشفافية ؟

إنَّ التجافي عن المكاشفة الجماعية والمصارحة الشورية يوقع في معضلات أقلها ضرراً أن يحل محل المكاشفة والمصارحة فضح وتشويه وتبادل للتهم وتقاذف بالعبارات القاتلة، وأخطرها تغييب الحقائق وتضليل الجيل وإطالة أمد الغفوة التي يحياها الناس، وليست هذه المفاسد الجمة مقابلة بمصالح إلا تلك الأوهام التي تتعلق بما يسمى بمصلحة الجماعة أو الحزب، وما هي إلا مصالح شخصية تختبئ خلف أستار ناعمة أكثر تدليسا من جلد الثعبان.

نحن أيها الناس قوم منحنا الله تعالى فرصاً لم تمنح لأحد من العالمين، وأتاحها لنا بما لم تتح لأحد من الأولين أو الآخرين؛ فأهدرناها وبددناها وضيعناها؛ فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر مثل هذا الصنيع العجيب !! فكيف لا نقف مع أنفسنا ؟! وكيف لا نراجع سيرتنا ؟! وكيف لا نقدم توبتنا ؟! لقد منحنا الله ناصية ثورة شعبية جاءت على حين غرة من القبضة الإجرامية وعلى عين غفلة منها؛ حتى رأينا بأمّ أعيننا صروح الباطل تنهار وتتحطم، فماذا كان موقفنا منها وسلوكنا معها ؟! ولقد منحنا الله شرعية متمثلة في برلمان ثم في رئاسة عامة؛ فماذا صنعنا بها ؟!

لقد كانت البشرية على موعد بعد الربيع العربيّ بتغيير كبير وخطير ينقلها نقلة كبيرة في آفاق التقد الإنسانيّ، وقبل ذلك كان العالم العربيّ والإسلاميّ كله على موعد عقب الثورات بتحول حضاريّ هائل يعيد رسم خريطة الكرة الأرضية على نحو يقلب (عاليها واطيها) وكان المستضعفون من المسلمين في الأرض كلها على موعد بأوسع أبواب الخلاص؛ فما الذي جرى لتنقلب الأوضاع وينتكس المسار ؟!

كل هذه التساؤلات يجب أن تكون الإجابة عليها واضحة وصحيحة وصادقة وصريحة؛ لأنَّه لا يمكن لعقل أن يمرر هذه التبريرات التي تشبه (المصاصات) التي تعطى لتسكين الأطفال إذا هاج بهم البكاء، إنَّ هناك خللاً كبيراً يصل إلى مدى بعيد، يطال المناهج التي تربى عليها الجيل، ويضع القيادات والجماعات والأحزاب في أقفاص الاتهام؛ ويجعلنا بحاجة إلى تصحيح جذريّ، وعودة سريعة إلى كتاب الله، وتوبة وأوبة، واعتصام بالجماعة والوحدة، ووضع للرؤية والمشروع والخطط بتجرد للحق غير مقيد بأي اعتبار، وكل هذا لن يكون قبل الخطوة الاولى المتمثلة في المراجعة.

فهلا تعجلناها قبل أن يفقد الناس ما تبقى لديهم من ولاء للقضية ؟

(المصدر: مجلة كلمة حق)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى