بقلم صخر الغزالي – مدونات الجزيرة
يعتبر الكتاب المقدس في العصور الوسطى هو المصدر الأساسي للمعرفة، وجعلت آراء ارسطو وبطليموس العلمية حول الأرض والفيزياء والكيمياء آراء تحمل معنى القداسة، فأُلحقت بالمفاهيم المقدسة للكنيسة وتشبع إنسان القرون الوسطى بهذه المعرفة وأصبحت تشكل ثقافته الدينية ومنطلقاته البحثية المتواضعة حول الكون والإنسان.
فالأرض هي مركز الكون والشمس والقمر وبقية الكواكب تدور حولها ويحدد الإله نظاما أخلاقيا محدد المعالم، ورجال الكنيسة هم الواسطة بين الاله ويبين الناس، فعن طريقهم تقبل التوبة والمغفرة ودخول الجنة، وبهذه السيطرة واستخدام المقدس استطاعت الكنيسة والقائمون عليها أن يتحولوا إلى قوة تتحكم في كل مفاصل الدولة؛ حتى كان الباباوات يعزلون الملوك وينصبونهم، وفي سبيل بقاء هذه القوة والسيطرة فرضت العديد من الاجراءات التي تضمن سيطرتها وتوسع نفوذها.
في هذه الاجواء انطلقت بوادر الثورة العلمية إذ كان لكتاب كوبرن كوس في دوران الأفلاك الدور الكبير في هذه الثورة؛ حيث كانت الآراء والتفسيرات الرياضية التي طرحها بأن الأرض ليست مركز الكون بل كوكب يدور حول الشمس ذات صدى كبير في الأوساط العلمية والدينية لمصادمتها المعتقد السائد الذي تبنته الكنيسة ودافعت عنه، ثم جاء جاليليو بعد ذلك بتلسكوباته ليؤكد هذه القضية بالتجربة العملية، كان هذا سببا لثورة الكنيسة ضد هؤلاء العلماء والباحثين فشنت عليهم حربا واضطهادا وقتلت وعذبت الكثير.
في عام 1595م تم اكتشاف الميكروسكوب وتم رؤية الجراثيم المسببة للكثير من الأمراض وتسبب هذا في حرج شديد لرجال الكنيسة الذين كانوا يقدمون اعتقادا للناس أن تلك الأمراض والأوبئة؛ إنما هي من الشيطان وأن صلوات رجال الكنيسة مدفوعة الأجر هي من تشفي الناس! استمرت الاكتشافات العلمية والتصادم مع الكنيسة حتى جاء نيوتن واسس قوانين الحركة الثلاثة الشهيرة وقانون الجاذبية.
كان كل هذا التصادم بين الكنيسة والعلم سببا كافيا لحدوث القطيعة والتنافر بين العلم والكنيسة، بدأت المجتمعات الأوربية تشعر أن العلم باكتشافاته يوفر لها احتياجاتها بعيدا عن دجل الكنيسة واستغلالها ويجيب عن استفساراتهم وظواهر لطالما حيرتهم، ومادام أن العلم سيوفر لهم الإجابات المقنعة ويربط تلك الاجابات بواقع الحياة والتجربة العملية فإن ميول الناس بدأت تترجح لصالح العلم.
هنا بدأت النزعة الإلحادية في أوروبا وبدأ ارتباط القيم الأخلاقية بالمادة والمصلحة النفعية، هذه الثورة العلمية المادية هي التي دفعت فردريك نتشيه ليقول مقولته التي أصبحت شعار الماديين في العصر الحديث “هل مات الإله ؟!” وهو يشير إلى أن العلم كان سببا في تحييد دور الدين ليصل إلى نتيجة موت الإله.
جاء أيضا ماركس ليعبر عن أثر الدين في صورته الكنسية فشبهه بالأفيون المخدر لإرادة وطاقات الشعوب عندما قال “الدين أفيون الشعوب”، وأصبحت الدول الأوربية تعيش عصر من الارتداد عن القيم الكنسية، حتى انزوى الدين في الكنائس ولم يعد له أي دور في الحياة وانطلق الفكر المادي بقوة العلم من نجاح إلى آخر، ليكون الأب الشرعي للإلحاد الحديث.
هذه الحالة من التصادم بين الكنيسة والعلم لها ملابساتها الكثيرة يأتي في مقدمتها عدم إتاحة الفرصة للثقافة النقدية التي تؤسس لمرحة جديدة من المعرفة ترتقي بالإنسان وتخلصه من تبعات الجهل، وهذه الثورة النقدية التي أسست منطلقات النهضة الأوروبية الحديثة انطلقت بشكل جَرَفَ معه كل الفرص لإبقاء الدين في منصة القوة والادارة.
إن المتأمل في اصول البناء المعرفي في الإسلام يجد أن القران يفتح مصراعيه للحوار ولو تعلق الأمر بذات الله تبارك وتعالى، وهو بذلك يؤسس لمبدئ أن العلم الصحيح لا تتعارض منطلقاته أبدا مع الدين، وبهذا انطلق علماء المسلمين وأسسوا حضارة الإسلام وبمجرد أن أغلق باب الاجتهاد واختزلت دائرة العلم والمعرفة والبحث في المذاهب والطوائف القائمة.
كانت الأمة في انحدار معرفي سريع حتى أصبح المسلمون اليوم في صف الدفاع والرد لا في صف المبادرة والمساهمة، ومن يدافع يكتفي بأبسط مقومات الوجود ولا يطمح أن يعرض ما يملك أو ينافس الآخرين، وكأي أمة تعاني الضعف وتسعى للحفاظ على كيانها من الذوابان والتلاشي اتسعت دائرة الولاء والبراء في تراثنا الاسلامي لتجعل من المسلم المتراجع أصلا عاجزا عن إدراك تجارب الآخرين، وتلاقح المعرفة شغوفا بترديد أمجاد الماضي أمام أي محنة تواجهه ففي العام الذي اكتشفت فيه الطباعة مثلا لم تر النور في عالمنا الاسلامي إلا بعد مئتي عام؛ بسبب فتوى دينية فتخيل جحم الفجوة الثقافية والمعرفية جرَّاء ذلك.
في ظل هذا التراجع الثقافي جاءت الثورة المعلوماتية الحديثة لتكسر الحواجز وتزيل العقبات بين الشعوب، وأصبح العالم قرية صغيرة تتزاحم فيه الثقافات يجد العقل المسلم نفسه أمام كم كبير من التساؤلات المتراكمة والإشكالات المتزاحمة في كل الجوانب المعرفية والوجودية التي بقي الخطاب الإسلامي يقدمها بشكل تقليدي وبتفصيلات معقده تختفي معها لغة العلم التجريبي وتحضر فيها لغة الصراعات المذهبية والخلافات الفلسفية والكلامية والردود، فتغيب معها لغة الإقناع والبيان والحجة وهذا اسهم بدوره في خروج تلك الاجابات عند تناولها اليوم لا تتواكب مع لغة الواقع وثقافة الانفتاح التي يمكن معها لأي فرد أن يتثبت من المعلومة أو يقارنها أو يضبط مصادرها بكل سهولة .
إن تجاهل هذا الواقع ومتغيراته يؤذن بقنابل فكرية ستنفجر بنا جميعا وسيكون أبزر الضحايا فيها هم الأجيال القادمة التي ستجد نفسها أمام خطاب ديني عاجز أن يصف لها العلاج أو يرسم لها طرق الخلاص، ليتجه هذا الجيل إلى السطحية الفكرية فيستقي ما يشفيه من إجابات مبتورة ومفاهيم قاصرة من ثقافات هنا أو هناك، وبهذا الفعل إن لم نتداركه في واقع خطابنا المعرفي والأخلاقي؛ نكون قد غرسنا المقدمات الأولى للإلحاد في واقع يعج بالصراعات والأزمات التي تغذي هذا الانحراف.