الحكمُ الشّرعيّ في السّخرية من الأفكار البشريّة والمعتقدات الدّينيّة
بقلم محمد خير موسى
“السّخرية من المعتقدات هي من الأشياء الضّروريّة؛ حيثُ الخطوة الأولى في تحرير النّاس هي القدرة على السّخرية من السّلطة”
كريستوفر هيتشينز
دونَكَم أفكارَهم وقِيَمَهم
المسافات الفاصلة بينَ الأفكار البشريّة والمعتقدات الدينيّة تحتاجُ إلى التلوين الذّهنيّ لئلا تختلطَ الأحكام.
فالأفكار البشريّة مهما بلغ انتشارها والاقتناع بها فإنّها لا تصل حدّ القداسة في النّفس الإنسانيّة، والأضرار المترتّبة على السّخرية منها لا تكادُ تذكَرُ أمام تلك التي تترتّبُ على السّخرية من المعتقدات.
ومن البديهيّ أن نفرّق بين الأفكار والقيم التي تتوافق عليها البشريّة فنقسمها إلى قسمين:
أولًا: الأفكار الباطلة التي لا لبس في بطلانها؛ كتمجيدِ ظالمٍ أو تلميعِ مجرمٍ أو التّرويج للرّذيلة أو التّهجم على فضيلةٍ أو استهداف قيمة من القيم.
فالسّخرية من هذه الأفكار وهدمها في الوعي الجمعي للنّاس من الأمور المبرورة في الشّرع، وهي من المنافَحَة عن الحقّ.
وهجاءُ الأفكار الباطلة وتفنيدها ولو بالسّخرية أولى من هجاءِ الأشخاص فالأفكار هي الأكثر بقاءً والأقوى رسوخًا وتأثيرًا.
ثانيًا: السّخرية من أفكار الحقّ والقيم الفاضلة التي ارتضتها البشريّة وأقرّتها الشّرائع.
فهذا النّوع من السّخرية هدّام للحقّ، وصادع لسدّ الفضيلة أمام سيول الرّذيلة الهوجاء، وهو من السّخرية المحرّمة التي تدخل في باب فتنة المؤمنين وإشاعة الفاحشة في صفوفهم؛ الفاحشةِ الأخلاقيّة والفاحشةِ الفكريّة على حدٍّ سواء.
قال تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ” النّور: 19.
حطّموا إيمانهم واسخروا من معتقداتِهم
للمعتقدات سطوتها وسلطتها التي لا يستطيع عاقلٌ إنكارها أو إغفال أنّها الدّافع الحقيقيّ وراء الكثير من التّحرّكات والتّصرّفات الفرديّة والجماعيّة.
والسّخرية من العقائد من أكثر القضايا حساسيّة وإثارة للعداوات والشّحناء، فهي أقدس ما يحمله الإنسان سواء كانت معتقدات حقّ أم باطل، ولأجلها أوقدت حروب وباسمها خاضت الشّعوب معارك طويلة أريقت فيها دماء لا تنتهي وما زالت.
وعند الحديث عن السّخرية من العقائد وموقف الشّريعة منها فمن الطبيعيّ أن يكون ذلك بناءً على موقف الشّريعة وتقسيمها للعقائد نفسها ابتداءً.
فالعقائد قسمان: عقيدةُ حقّ وهي عقيدة التّوحيد التي يمثّلها الإسلام، وعقائد منحرفة سواء كانت سماوية محرّفة أو غير ذلك.
السّخرية من عقائد المسلمين ورموزهم
وذلك كالسّخرية من الذّات الإلهيّة أو من بعض آيات القرآن الكريم أو من شخص النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أو السّخرية من الملائكة أو استحضار بعض مشاهد يوم القيامة والسّخرية منها.
ومن ذلك السّخرية من بعض الرّموز التي دعت الشّريعة لها، كالسّخرية من الحجاب أو السّخرية من اللحية أو غير ذلك.
كلّ هذه الأنواع من السّخرية جريمةٌ فكريّة تؤدي بصاحبها إلى التّهلكة وتوصله إلى منزلقات خطيرة وتجعله في مواجهة الإسلام، ولا يقبل تبريرها تحت أيّ مبرّر من المبررات كالمزاح واللعب وغيره من المبررّات
قال تعالى: “وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ۚ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ۚ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ” التّوبة: 65، 66.
السّخرية من عقائد غير المسلمين
سواء كانت هذه العقائد سماوية نالها التّحريف كما هو في اليهوديّة والنّصرانيّة، أم عقائد منحرفة يعبد أصحابها البقر أو الكواكب أو الأوثان، وقد تواضع عليها أهلها دون أيّة مصادر سماوية كالوثنية والبوذيّة والهندوسيّة والسيخ والصابئة.
وهنا لا بدّ من التفريق بين أمرين في منهجيّة التعامل مع هذه العقائد الباطلة.
الأول: المحاجّة والحوار والمجادلة، ومناقشة الأفكار، فهذا أمر مطلوب وواجب وقد رسّخه القرآن الكريم في مواضع كثيرة من القران الكريم؛ منها قوله تعالى: ” قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ” آل عمران: 64.
الثاني: السّخرية منها والاستطالة باللسان عليها وإضحاك الجمهور منها.
وهنا نرى أن الإسلام قد منع هذا منعًا تامًّا لسببين:
السّبب الأول: سبب مبدئيّ وهو أنَّ هذا النّوع من التّعامل مع العقائد المخالفة يتناقض مبادئ الإسلام وأصول الدّعوة التي دعت إلى الحوار والجدال بالتي هي أحسن بل أكثر من ذلك كان النهي واضحًا عن أيّة مخاطبة لأهل هذه العقائد تخرج عن إطار “التي هي أحسن”. يقول الله تعالى: “وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ” العنكبوت: 46.
وفي هذه الآية نقاط مهمّة:
1. حصر آليّة ومنهجيّة التّعامل مع غير المسلمين فيما يتعلّق بعقائدهم في أن تكون “بالتي هي أحسن”
أي بالتي هي أحسن طريقةً والتي هي أحسن منهاجًا والتي هي أحسن إقناعًا. ومن اليقين أنَّ السخرية من العقائد ليست من التي أحسن فلا تدخل في هذا الإطار، بل تدخل في دائرة المحظور المنهيّ عنه.
2. استثناء “الذين ظلموا” أيّ أنَّ السخرية تتوجّه إلى الظالمين، ويخاطب بها من مارسوا الظلم دون توجيه ذلك إلى عقائدهم، وإنّما المطلوب هو تأكيد المسلم على إيمانه بما يعتقده وإفصاحه عن هويّته دون هجوم على العقائد الأخرى.
السّبب الثّاني: هو النّظر في المآلات؛ فالسّخرية والسبّ والشّتم تثيرُ الاستفزازات التي لا تحمد عواقبها، وتفتح الباب لمعارك كلامية وتبادل للسخرية والاستهزاء بعقائد المسلمين، وقد تؤول إلى معارك تراق فيها الدّماء وتزهق فيها الأرواح.
ولذلك كان سبّ عقائد الآخرين ولو كانت أوثانًا وأصنامًا محرّمًا لما يترتّب عليه من مآلات الدّخول في دوّامة صراع لا نهاية له. قال تعالى: “وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” الأنعام: 108.
يقول الإمام القرطبي في تعليقه على هذه الآية: “قال العلماء: حكمُها باقٍ في هذه الأمّة على كلّ حال، فمتى كانَ الكافرُ في منَعَةٍ وخيفَ أن يسبّ الإسلام أو النبيّ عليه الصّلاة والسلام، فلا يحلّ للمسلم أن يسبّ صلبانهم ولا دينهم ولا كنائسهم ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك لأنّه بمنزلة البعث على المعصية” تفسير القرطبي 7/ 61.
وهذا الحكم ينبغي استحضاره بشدّة في هذه الأزمنة التي تموجُ بالتّوترات الطائفيّة والدينيّة والمذهبيّة، فتغدو السّخرية من معتقدات الآخرين صبًّا للزّيتِ على النّار.
وهنا ينبغي للمتصدّرين للبرامج السّاخرة ومشاهير التواصل الاجتماعي والكتّاب والإعلاميين والفنانين عدم الانسياق وراء هياج الجماهير والخضوع للشّحن الطّائفي.
وعليهم التّركيز على حقيقة الصّراع بين العدل والظّلم، وبين الاستبداد والحريّة، دون سخرية من عقائد الطّوائف أو الأديان المختلفة فيكونون بفعلهم هذا مساهمين في تأجيج هذا النّوع من الصّراعات الذي لا ينتج إلّا الخراب العريضَ والطّويل.