مقالاتمقالات مختارة

الحكم الشرعي في التعامل مع الرأي العام

الحكم الشرعي في التعامل مع الرأي العام

بقلم د. ياسر عبد التواب

عبر تاريخ الرسل الكرام والصالحين من عباد الله تعالى توفرت الرغبة في التأثير بخير في الرأي العام والعمل على توعيته، ومثال ذلك حرص موسى عليه السلام على أن ينقل معركته من دائرة الحديث إلى فرعون ونخبته إلى الرأي العام فجعل مواجهته مع السحرة أمام الناس وحرص على ذلك بقوله: موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى) سورة طه 59.

وبذا انتشرت الدعوة رغما عن فرعون ونخبته وصولا إلى الجمهور الذي هو أساس الاستهداف. بل إن خطاب الرسل لأقوامهم بأداة النداء: “يا قوم” يعد دليلا على أنهم يخاطبونهم في حال تجمعهم وهو ما عبر عنه نوح عليه السلام بقوله: دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا …إلى قوله ثم إني دعوتهم جهارا ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا) سورة نوح ( 5-9)

والإعلان والدعوة جهارا هنا للجمع كما هو واضح، ومثل هذا قله في مؤمن آل فرعون ومؤمن سورة يس في حرصهم على التأثير في النخب وفي العامة وتوصيلهم الرسالة واضحة خالية من الشبهات أو التضليل، وانتهاء إلى حرص رسولنا صلى الله عليه وسلم على تبليغ الدعوة إلى الله تعالى في التجمعات والمواسم وتوصيلها إلى كل البشر من خلال التأثير في النخب أو الوصول المباشر للجماهير أيضا وباستخدام كافة الأساليب من خطابة وشعر ومراسلات ووعظ؛ ومن ثم كانت مراسلاته للملوك والحكام في عهده وتذكيرهم بمسؤوليتهم عن أقوامهم. أضف لذلك حرصه على: ” لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه و” لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لفعلت كذا.. “

ويتم ترسيخ وصناعة الرأي العام باستمرار توضيح الدعوة وتبليغها بكل السبل مع المزاوجة بين الدعوة كلاما والدعوة تطبيقا ونشر ذلك ليكون البلاغ على بصيرة ويشهدهم على ذلك: ” ألا هل بلغت “؟

ووصيته لأصحابه في الدعوة تدل على مراعاته للرأي العام وللتدرج ليلقى قبولا عاما وبترسيخ مفاهيم الإسلام بأفضل السبل كقوله لمعاذ رضي الله عنه: إنك تأتي أقواما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه كذا وكذا ” …

بل في الحروب يوصيهم بمحاسن الأخلاق وصدق العهد وألا يقتلوا من لا يقاتلهم وأن يتجنبوا مواجهة العباد في صوامعهم أو الناس في بيوتهم أو الشيوخ والنساء والأطفال وأن يحافظوا على البيئة فلا يقطعوا شجرا ولا يهدموا بناء.

وحتى في الأحوال العادية والمعاملات الاجتماعية كان حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على التعامل مع الرأي العام ونصح صحابيا – بعد أن أمره بالصبر ثلاثا – أن يفترش بمتاعه الطريق لما آذاه جاره وتكرر ذلك منه وهذا نقل للموضوع إلى الرأي العام وهو ما تسبب في ردعه

ولذلك فقد عظمت مسؤولية من يتعامل مع الرأي العام في أدلة كثيرة منها في القرآن الكريم قوله تعالى: ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم ) النحل 94

وقوله تعالى: ( ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون ) النحل 95

وفي الآيات تحذير من التسبب بتشويه الرأي العام للناس بسوء التصرف وبخلف الوعود أو الحلف بالكذب فتزل الأقدام وتتزلزل النفوس. كما أن الأدلة الشرعية بالأمر بالتعاون على البر والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان وبتحريم الغش وأن “من غشنا فليس منا”، كلها تصلح أدلة على وجوب توعية الرأي العام وحرمه التدليس عليه أو تضليله.

وتتوالى التوجيهات الشرعية بوجوب ترك الظنون أو الإساءة لآخرين فأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا».

قال الخطابي وغيره: “ليس المراد ترك العمل بالظن الذي تناط به الأحكام غالبا، بل المراد ترك تحقيق الظن الذي يضر بالمظنون به وكذا ما يقع في القلب بغير دليل

كما يندرج ترويج الإشاعات تحت النهي عن (قيل وقال)، فأخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ»، ويدخل في (قيل وقال): الخوض في أخبار الناس وحكايات ما لا يعني من أحوالهم وتصرفاتهم فضلا عن الترويج للأكاذيب والأضاليل وما يثير الفتن .

وعلاجها إذا وصلت إلى الإنسان هو التحقق والتثبت وعدم المسارعة فيها، ثم بعد التثبت منها عليه أن يرجع في شأنها إلى أولي الأمر والعلم والخبرة، لا المساعدة على ترويجها

خلاصة الأمر أننا في معركة حقيقية بين صناعة الرأي العام للتوعية بذكر الحقائق أو بتشويهها بالتلبيس والكذب، ولا بد للمتعرض للرسائل الإعلامية والاستطلاعية أن يكون له الملكة لفرز الغث من السمين، وأن يتمتع بالتفكير الناقد وأن يتتبع مصداقية الجهات التي تبث له ويفرز مصادرها وانتماءاتها.

(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى